فن وإعلام

فيلم الفائزون... مداخلة حانية في حب السينما

عبد الله صرداوي

نجح المهرجان الدولي للسينما المستقلة بالدار البيضاء (FICIC) في دورته الثالثة، والتي أقيمت من 19 إلى 25 أبريل 2024، في تقديم تجربة سينمائية ثرية ومتنوعة، من خلال تقديم برنامج غني توزعت أهم محطاته بين -استرجاع احتفائي بأفلام المخرج ليوس كاراكس، حيث كان جمهور المهرجان على موعد مع مجموعة من أفلامه، كما قدم درسا/لقاء خاض فيه الحديث عن منحنيات تصوره الفني وأهم الأفكار التي بصمت مسيرته السينمائية. – ندوة حول تجربة المخرج سعد الشرايبي ناقش فيها نقاد وكتاب بعض الجوانب الفنية والإنسانية التي ميزت مساره الطويل - لقاء حول السينما المستقلة ناقش فيه مجموعة من صناع السينما مختلف أشكال وتحديات السينما المستقلة. - معرض "صويرتي مولانا" لداود أولاد سيد عاين فيه زوار المهرجان بعض من أعماله الفوتوغرافية في معرض بهي أقيم في مركز الفنون الأمريكية. – عروض أفلام متنوعة من مختلف أنحاء العالم شملت أفلامًا روائية ووثائقية طويلة/ قصيرة، عرضت أمام لجنان تحكيم مميزة، ترأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة المخرج المغربي نور الدين لخماري، وضمّت في عضويتها كل من المخرج الياباني Yamada Isao ، والمخرج المصري Kamal Abdelaziz ، والمخرجة الأوكرانية Olena Yershova، والمخرج الإماراتي Amer Salmeen. والتي منحت جائزة المهرجان الكبرى أنفا الذهبية إلى فيلم "الفائزون" للمخرج حسن ناصر.

"الفائزون"... أو حكاية انتصار المهزومين

يتكأ المخرج البريطاني-الإيراني حسن ناصر منذ بداية فيلمه "الفائزون" على جائزة سينمائية (الأوسكار) كـMACGUFFIN (مجسم جائزة كمؤشر لتعزيز السرد والدفع بالحبكة إلى الأمام) لدعم حبكة الفيلم وتطور الشخصيات، حيث نتابع الجائزة نفسها وهي تخوض مغامرة خاصة بها، وحولها تلتف كل الخيوط التي تحرك الفيلم (شخصيات/أحداث ...) كل ذلك في شكل متنامي ومرح. 

 يقترح المخرج حكاية بسيطة بلا تعقيدات وبلا مزايدات، وباتصال وثيق مع قضايا مباشرة تهم السينما والسينمائيين الإيرانيين، باستخدام تمثال الأوسكار كدعامة أساسية في سرد حكايته، حيث يسلط الضوء بشكل أساسي على نوع قاس من الاغتراب والعزلة يعيشه السينمائي الإيراني داخل بلده، في قالب فني يحمي شعور اللذة والفكاهة المتقلبة إلى حد كبير. يبدأ الفيلم بتقديم تحية إلى أساتذة الإخراج المكرسين في إيران، عباس كيارستامي، أصغر فرهادي، مجيد مجيدي وجفعر بناهي، في إشارة لما يؤسس له المخرج على طول الفيلم من بنية حكائية تنتصر للسينما بحب وشغف، يبدأها بحب (يحيى) للسينما وعلاقته مع صابر (حسين عبديني) الذي يزود شغفه بأفلام كبيرة، يشاهدها في آخر الليلة غير آبه بعقاب الأم ورقابتها الذي يتكرر في تناص بديع مع تكرار فيلم (سينما باراديزو)، تتعزز علاقات يحي بالسينما حتى يصل في الأخير ليقف على علاقة خاصة مع ناصر (رضا ناجي)، واختتامًا بمشهد التاكسي الذي يعتبر بشكل مباشر تحية عالية لفيلم "تاكسي" -لحظة مرحة/ ميتاسينما - لجفعر بناهي، هذا الحب المنثور للسينما وروادها على طول مشاهد الفيلم، يفتح به المخرج نوافذ تهوية يستريح من خلالها المشاهد من الوضع الاجتماعي والسياسي بالبلد.

يستهل الفيلم أحداثه بشابة تصل إلى مدينة طهران الصاخبة، تركب سيارة أجرة ثم تقرر التوقف لأمر عاجل في مكان غير مسموح به، أمام مضايقات الشرطة لسائق الطاكسي، سيضطر إلى تغيير المكان وهو ما حال دون رجوعه وقت خروج الشابة إلى عين المكان، سيتفاجئ صاحب الطاكسي بتمثال جائزة الأوسكار منسي في مقعد الركاب، بعد تفكير سيقرر تركه في مكتب الطرود المفقودة لشركة سيارات الأجرة، لكن أحد موظفي الشركة سيقرر أخذ تمثال الجائزة إلى بيته بالقرية حتى يتمكن أصدقائه وعائلته من التقاط صورة معها، لكن لسوء حظه، سيفقدها في الطريق، وسرعان ما ستنتهي في أيدي طفلين، يحيى (برصا مغامي) وليلى (هيليا محمدخاني)، اللذان يساعدان في إعالة الأسرة عن طريق جمع النفايات البلاستيكية من مكب نفايات ضخم يديره كل من ناصر (رضا ناجي) وصباح (حسين عبديني). 

يتكأ الفيلم بشكل كبير على الأداء والحضور المتميز للشخصيات، وتعيينا يحيى الصغير، الذي يُجسد بطريقة ما روح برنو الصغير من فيلم سارق الدراجة الكلاسيكي، كما يندرج ضمن تقاليد الأفلام الإيرانية التي تحتفي بالأطفال، والعديد منها من إخراج المخرجين الذي سبق للمخرج تحيتهم في البداية، منهم، فيلم "أين بيت صديقي" لعباس كيارستامي (1987)، و"البالون الأبيض" لجعفر باناهي (1995)، وفيلمين لمجيد مجيدي: "لون الجنة" (1999) و – يتم الإشارة إليه في الفيلم - "غناء العصافير(2008). 

يحيى لديه حب لكل ما يتعلق بالسينما، وعلى الرغم من أنه لا يعرف بالضبط أهمية الجائزة التي وجدها (جائزة الأوسكار لأصغر فرهادي لعام 2017 عن فيلمه "البائع"، لم يحضر المخرج حفل توزيع جوائز الأوسكار التاسع والثمانين لمقاطعة الأمر التنفيذي الأمريكي "حظر المسلمين" الذي صدر في عهد رئاسة دونالد ترامب)، إلا أنه حريص على التمسك بها حتى يقرر ماذا يفعل بها. وخلال هذه الرحلة سيكتشف أن بعض الشخصيات في حياته ليسوا كما يظهرون (في إشارة إلى شخصية (ناصر خان /رضا ناجي) هو الممثل محمد أمير ناجي، الفائز بجائزة الدب الفضي عن "غناء العصافير"، مجيد مجيدي (2008)، في مهرجان برلين السينمائي الدولي الثامن والخمسين)، ففي احدى المرات التي سرق فيها يحي الأفلام من وراء ظهر صابر سيصادف فيلم "غناء العصافير"، وفي خضم مشاهدته، سيفاجئ بهوية بطل الفيلم الذي ليس سوى ناصر خان، سيتضح فيما بعد أنه واجه تحديات كبرى بعد فوزه بالجائزة (كان الجميع يتوقعون الكثير مني. اضطررت للاختفاء) ما اضطره (حال صابر) إلى تغيير اسمه والانتقال إلى قرية نائية متخفيا. بعد هذا الموقف، سيقنع ناصر الصبي بتسليم تمثال الجائزة إلى صاحبه الشرعي، لذلك انطلق الصبي وناصر وصابر إلى طهران في شاحنة تحمل جائزة أوسكار وجائزة الدب الفضي... وهو موقف جر الفيلم إلى منحى آخر أكثر جاذبية، وأعطى للحبكة تلوينا رائقا ودفئا متجددا، ومنحنا احساسنا بأن الفيلم صنع عن حب السينما وشغفها، وعن أشخاص يحبون السينما.

ويبدو أن حالة التهميش والالغاء التي يعيشها السينمائي داخل إيران، تجعل مواقف التكريم للسينما الإيرانية في محافل سينمائية كبيرة أكثر قوة وأهمية، حيث يتعالق ذلك مع موضوعات الانتماء والتعبير عن الذات وحقوق الإنسان. الشاهد عندنا، جائزة ضائعة لمخرج لم يستطع الحضور لتسلمها، وممثل يعيش العزلة اختيارا بدل مواجهة تحديات العيش الكريم، وعمالة الأطفال لصالح تجار الخردة واشتغالهم القهري في مكب النفايات... ، كل هذا أشبه بالبيان القوي حول كيف أن العالم غير متواصل مع بعض الحقائق.

ويظهر أن هذا النقد الاجتماعي والسياسي في فيلم "الفائزون" جاء متزامنا مع احتجاجات النساء (الإيرانيات) بقص شعرهن، بعد وفاة (مهسا أميني) التي سُجنت بتهمة عدم ارتداء الحجاب وخرقها للقوانين الحكومية. وبعدها احتجاجات مختلفة (أرسلت صانعة الأفلام (مهناز محمدي) خصلة من شعرها إلى مهرجان كيرالا السينمائي الدولي حيث لم يُسمح لها بالسفر خارج إيران/ تم القبض على الممثلة الإيرانية (ترانه عليدوستي) لدعمها الاحتجاجات ضد إعدام محسن شكاري...) بالتالي يبدو الفيلم كمداخلة احتجاج وإدانة للقمع الثقافي والاجتماعي، وصوت جميع الفنانين والمفكرين الايرانيين الذين يعيشون تحت وطأة القمع والتضييق ضدا في حرفتهم التقدمية وحريتهم في التعبير من قبل نظام خانق.

ومع ذلك، ينتهي الفيلم بنبرة تفاؤلية متعمدة، يعود ناصر وصابر إلى المدينة، حيث سرعان ما يحاصرهما معجبوهما في الشارع، ومع عودة الحدث إلى بدايته، يجلس يحيى، بعد أن تعلم ما يرمز إليه تمثال أوسكار، في سيارة أجرة في طهران - يقودها، كما نعتقد، جعفر بناهي نفسه - لإعادة التمثال إلى صاحبه الشرعي. 

يتميز الفيلم بإيقاع مميز يحكمه طريقة التوضيب السلسة التي تنظم تراتبية اللقطات بالرغم من قصرها أحيانا وامتدادها في أحيان كثيرة، خصوصا حين يصل بنا المخرج بشكل بديع إلى لقطات بانورامية طويلة للمناظر الطبيعية تذكرنا بأفلام كيارستامي على الطريق، الشيء الذي يمنح للفيلم وتيرته الثابتة، أيضا نقف على تفوق رائع للمخرج في إدارة الممثلين، خاصة الأطفال منهم، مستعينا بحوار مكثف يقدم لنا معلومات عن الشخصيات ويكشف نواياهم ويساعد الحبكة على التطور، دون أن ننسى تلك اللقطات/اللحظات الشعرية التي تتخلل مشاهد الفيلم (لقطة الطفلين المستلقيين على قضبان السكك الحديدية المتوازية، ينظران إلى السماء...).

يُعد فيلم "الفائزون" على الأرجح أنقى أشكال تحايا الحب التي يمكن لمخرج أن يهديها للسينمائيين، هو في جوهره يقدم تحية عالية ورسالة حب للسينما على العموم والسينما الإيرانية على الأخص، من خلال استرجاع فني لطفولة فنانين إيرانيين (رضا ناجي/المخرج نفسه) عاشوا قهر العيش وبؤس الحياة، فكانت السينما سبيلهم للانعتاق والتعبير، هو فيلم متطلب يحتاج من المشاهد درجة معينة من المعرفة بالسينما الإيرانية لفهم تفاصيله وتقديره بالشكل الصحيح.