بعد هذه التوضيحات، هناك ملاحظة أساسية مترتِّبة عن عنوان هذه المقالة وهي الآتية : أنا شخصيا أقول إن الدينَ ليس علما، بالمفهوم الدنيوي للعلم كما بيَّنتُ ذلك أعلاه. فكيف لناس يُسمُّون أنفسَهم "علماء الدين" بينما الدين، كمعتقد، ليس علما؟ ونحن قد اعتدنا عندما نسمع كلمة "علماء"، ننتظر ما سيأتي بعدها لنتعرَّفَ على التخصص الذي يمتاز به هؤلاء العلماء. فنقول مثلا : علماء الفلك، علماء الفيزياء، علماء اللغات، علماء التاريخ، علماء المناخ، علماء الرياضيات… فكيف لمَن يسمُّون أنفسَهم علماء الدين وهم علماء شيءٍ ليس بعِلمٍ؟
وفيما يلي، سأبيِّن، من خلال السطور التالية، لماذا الدينَ ليس علما.
الدين، بالنسبة لنا نحن المسلمون، هو الدين الذي أنزله اللهُ، سبحانه وتعالى، على رسوله محمد (ص) والمنصوص عليه في القرآن الكريم.
وكل دين له تديُّنٌ. والتَّديُّن هو الطريقة التي يتَّبعها الناسُ لترجمة الدين على أرض الواقع من أجل عبادة الله أو عبادة شيءٍ آخر غير الله. والتَّديُّن قد يختلف من شخص إلى آخر لأن الناسَ ليس لهم نفس الإدراك للدين. وبعبارة أخرى، التَّديُّن هو مجموعةٌ من الممارسات أو من الطقوس أو من الأساليب التي تتَّبعها أو تنهجها جماعة من البشر لاتِّباع أحد الأديان السماوية أو لاتِّباع أحد الأديان الوضعية.
والدين، إذا كان سماويا، فله ثوابتُه وله شرائعُه، أي كل ما له علاقة بممارسة هذا الدين السماوي، أي بالتَّديُّن به. والدين، إذا كان وضعيا، فهو من صُنع البشر. في هذه الحالة، فهو عبارة عن فلسفة حياة، أي مذهب من مُقوِّماته التقاليد traditions والقِيم الاجتماعية والأخلاقية valeurs sociales et morales. فكل دينٍ وضعِي له تعاليمُه وله مبادئه. ولهذا، فالأقوام الماضية كان ناسُها يواجهون الرسل، الذين بعثهم الله لهم لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان، بقولهم : "هذا ما وجدنا عليه آباءَنا"، أي هذا هو الدين الذي كان آباءُنا يمارسونه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة، 104).
وسواءً تعلَّق الأمر بالأديان السماوية أو بالأديان الوضعية، فالهدف من وجودها هو تنظيمُ المجتمع وجعله خاضعا لقيمٍ إنسانية وقوانين معيَّنة، وذلك من أجل أن يتساكنَ ويتعايشَ فيه الناسُ.
وعندما أقول الدينُ ليس علما، وهنا أتحدَّث عن الدين الإسلامي، فالمقصود هو أن هذا الدينَ، كعقيدةٍ، يبيِّن للناس ما لهم فيه خيرٌ ومنافع وما لهم فيه شرٌّ وخسران. وليس هناك أدلة، كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الدنيوية، تبيِّن، بصفة قطعية، ما فيه خير ونفعٌ وما فيه شرٌّ وخسران. ولهذا، فالدِّين موجَّهٌ لوِجدان الناس، أي لإحساسهم وقلوبهم (عواطفهم). فبعد أن يتبيَّنَ لهؤلاء الناس ما لهم فيه خيرٌ ونفعٌ وما لهم فيه شر وخسران، يأتي دورُ العقل ليختارَ، بكيفية عقلانية، ما يناسبُه من دين. ولهذا، نرى كثيرا من الناس المتديِّنين، بعد الاطِّلاع على ما يوفِّره هذا الدين أو ذاك من خيرٍ ونفعٍ، يختارون دينا آخر. وما يُلاحظُ هو أن أكثر الاختيارات تميل إلى الدين الإسلامي.
فالدين هو الوسيلة العاطفية أو الوجدانية التي يتقرَّب بواسطتِها العابدُ من المعبود. وعندما أقول "الوسيلة العاطفية أو الوجدانية"، فالأمر يتعلّق، بالنسبة للأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام، بالإيمان الصادر من أعماق القلوب. والإيمان يتطلَّب من المؤمن أن يكونَ إيمانُه مبنيا على التَّصديق، أي التصديق بوجود الله وبوحدانيته وبما أنزله على رُسُله من شرائع وتعاليم عبر الوحي.
إذن، الدين مؤسَّس على التَّصديق. والتَّصديق يتطلَّب من المؤمن أن يُسلم ذاتَه لله، خضوعاً له وطاعةً لأوامره. ومن هنا، جاءت لفظةُ "إسلام" التي هي مصدر فعل "أسلم".
وإذا كانت العلوم الدنيوية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا… مبنيةً على استعمال العقل والمنطق، أي على إثبات ما توصَّلِ إليه البحثُ من نتائج بأدلَّة واضحة، فالدين الإسلامي مبني على التصديق بما نزل من وحيٍ على الرسول محمد (ص). والمُصدِّق يُصدِّق بقلبه، أي بوِجدانه ولا يحتاج إلى أدلة تؤكِّد أو تنفي تصديقَه. بينما الباحث في مختلف مجالات العلوم الدنيوية، يكون في حاجة ماسة لأدلَّةٍ لإثبات نتائج أبحاثه. هذا هو ما جعلني أُعنوِن هذه المقالة ب : "الدين ليس علما بالمفهوم الدنيوي للعلم".
وهذا لا يعني أن الدينَ لا يحتاج للعقل وللمنطق. لا، أبدا! الدين يحتاج للعقل والمنطق. لماذا؟ لأن الوحيَ الذي نزل على الرسول محمد (ص)، هو القرآن الكريم. والقرآن تناول في مُجمل آياته أمورَ الدين والدنيا. وأمورُ الدنيا كثيرة ومتنوِّعة، وخصوصا، في العصر الحاضر حيث المعاملات بين البشر تعدَّدت وتعقَّدت وتقنَّنت إلى أبعد حد.
فالمسلمون في حاجة ماسة للعقل والمنطق ليتمكَّنوا من التَّوفيق بين التَّطوُّر الذي تعرفه حاليا المعاملات البشرية وبين ما تنصُّ عليه آياتُ القرآن الكريم من خيرٍ ونفع. ألم يخبرنا، سبحانه وتعالى، أن آيات القرآن الكريم موجَّهة ل"أولي الألباب"، أي لأصحاب العقول النيرة والمستنيرة القادرة على تدبُّرِ هذه الآيات، مصداقا لقوله، عز وجل : ،،"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 29).
وهنا، سأعود للسؤال الذي طرحتُه أعلاه، وهو : "فكيف لناس يُسمُّون أنفسَهم "علماءَ الدين" بينما الدين، كمعتقد، ليس علما،"؟ إذن، علماء الدين هم علماء شيء لا يمت بصلة للعلم المتعارف عليه دنيويا. فبماذا يمكِن تفسير عبارة "عالم الدين"؟ إما إن هذا العالمَ ينفرد بمعرفة الدين أكثر من غيره. إما أن عالمَ الدين يعتقد أن العلمَ محصور في كل ما له علاقة بالدين. غير أن هذا الزَّعمَ ليس صحيحا، على الإطلاق. لماذا؟
لأن كلمةَ "عِلم" وردت في القرآن الكريم في صيغة المفرد، أي أن جمعَها "علوم" لا وجودَ له في هذا القرآن. فماذا تعني صيغةُ المفرد بالنسبة لكلمة "عِلم"؟ بكل بساطة، تعني أن علمَ الله واحد كوحدانيتِه وتعني كذلك أن علمَ الله واسع، أي يشمل كل ما هو موجودٌ في الكون من أشياء مادية ومعنوية. والكون له قوانين تُنظِّمه وتسيِّر أحوالَه. والعديد من هذه القوانين اكتشفها الإنسانُ العاقل بفضل نِعمة العقل التي ميَّزَ بها اللهُ بني آدم على غيرهم من المخلوقات. والقوانين التي اكتشفها العقل البشري فيها ما هو فيزيائي وفيها ما هو كيميائي وما هو بيولوجي وما هو جيولوجي وما هو مناخي وما هو زراعي وما هو بيئي… وبالتالي، فعلم الله لا يمكن، على الإطلاق، أن يُحصَرَ فيما هو متعلِّقٌ بالدين. ألم يقل، سبحانه وتعالى:
1."عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ" (العلق، 5).
2."هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة، 29).
3."...لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (المائدة، 97).
في الآية الأولى، حرفُ "ما" يعني أن اللهَ، سبحانه وتعالى، علَّم الإنسانَ كثيرا من الأشياء. في الآيتين، الثانية والثالثة، يقول، سبحانه وتعالى : "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" و "وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". ما يُثيرُ الانتباهَ، هو وجود كلمة "شيء". والشيءُ كلمة واسعة المعاني، أي تُطلق على كل ما هو موجود في الكون، سواءً على المستوى المادي أو المعنوي. وهذا يعني أن عِلمَ الله يشمل كل ماهو موجود في الكون، مهما تعدَّدت الأشياء ومهما تنوَّعت ومهما تعقَّدت، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (التغابن، 4). في هذه الآية، الكون مُعبَّر عنه بعبارة "السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".
والدين ليس إلا جزأً ضئيلاً من علم الله المطلق، بالمقارنة مع علمِه الذي يشمل كل ما هو موجودٌ في الكون. والكونُ تُعدُّ مجرَّاتُه ses galaxies، حسب تقدير علماء فيزياء الفضاء les astrophysiciens وعلماء الفلك les astronomes، بالملايير. وكل مجرَّةٍ تُعدُّ نجومُها، هي الأخرى، بالملايير.