قضايا

المسألة "الأخلاقوية" في المجتمع المغربي

رشيد جرموني

ربما من غير المفيد أن نتوقف في هذا المقال، عند الحديث عن الطبيعة المركبة للمجتمع المغربي، على اعتبار أن كل المجتمعات –بشكل أو بآخر- فهي تعيش هذا التركيب بين ما هو تقليدي وحداثي كل بطريقته الخاصة والفريدة والمتميزة. وقد تبنين ،-من خلال العديد من الدراسات والابحاث والاستقصاءات التي قام بها باحثون مغاربة أو مؤسسات وطنية أو جهات إقليمية أو أجنبية (البحث الوطني حول القيم، الاسلام اليومي، مسح "كالوب" و"بيو ريشيرش" ومعهد فارس بيروت" والمؤشر العربي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر...)-، نوعية هذا المزيج المركب من البناء الذهني للمجتمع المغربي. بيد أن المؤكد أن تعاطي المغاربة مع المسألة الاخلاقية، يتسم بنوع من الحماس والتوتر والمفارقة، بل وحتى التعامل المرضي (la pathologie). ويظهر ذلك في نوعية ردود الفعل التي ترشح بين الفينة والأخرى، عندما يتعلق الأمر ببرنامج أو مهرجان أو عمل إبداعي –سواء فني أو أدبي أو فكري- أو تصريح أو أي فعل يخالف الحس المشترك والبنية "التقليداوية" المترسبة في المجتمع المغربي. ويمكن القول إن هذا التعامل وردود الفعل في هذه المسألة، تثير الكثير من الأسئلة والمفارقات، فعلى سبيل المثال، في السنة الماضية وقع أن تم الكشف عن استيلاء مجموعة من النافذين في السلطة ، وفي بعض الاحزاب السياسية على أراضي بأثمنة زهيدة وبدون الخضوع لشروط شفافية ومتنافس حولها، لكن رد الفعل لم يتسم بقوة في المواجهة، فقط بعض التدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي وانتهى الأمر. لكن عندما يكون الموضوع "أخلاقوي" تقوم القيامة؟ وكأننا لسنا أمام قضية أخلاقية واحدة، فالأولى التي تهم الفساد المالي لا ترقى لمستوى قيمة أخلاقية، على عكس الثانية التي تهم عرض برنامج يتحدث عن العلاقات الجنسية بين الشباب أو عرض مسرحي فيه ايحاءات جنسية أو مشهد موسيقي فيه إغراءات جنسية، فهي التي تستحق وصف قضية أخلاقية. فكيف يمكن فهم و تفسير هذه المسألة؟ ولماذا تضخم الخطاب الأخلاقوي في حس ووجدان المجتمع المغربي بهذا الشكل المفارق؟ ولماذا لا يتم التعامل مع القضايا الأخلاقية بنوع من التوازن؟

كل هذه الاسئلة وغيرها، استحثثنا ونحن نعاين حجم التفاعلات التي تلت عرض برنامج "تاريخ الانسان Histoire des hommes)، الذي بثثه القناة الثانية في الأسابيع الاخيرة. وقد عرض البرنامج لمسألة الحب ما قبل الزواجي وما بعده، والعلاقات الجنسية خارج الزواج، خصوصا بين فئة الشباب. وقد تشكل نوع من الرأي العام، يطالب بمحاكمة القناة الثانية على عرضها للبرنامج، وبدأت أصوات تندد بمنتج الفيلم السيد "نبيل عيوش" وأخرى، تطالب بمقاطعة القناة الثانية، بل أكثر من ذلك، هيمنت القضية على النقاش السياسي وعلى تشكيل الحكومة، على اعتبار أن البعض رأى "أن هذه أخطر قضية تعرض لها المغرب، من حيث الهجوم على أخلاقه وقيمه ودينه". والمؤكد أن البعض تعامل مع الحدث دون أن يرى البرنامج ولا أن سيمح لنفسه ببناء موقف خاص به، بل هناك نوع من التماهي السلبي والسيكولوجي وغير الواعي مع الموجه. وهذا من أخطر الأعراض التي تبين الاسر الأخلاقوي الذي يمارس على مجتمع، لم يستأنس بعد بالنقد وبحرية التفكير والتعبير والابداع والرأي الفردي الخاص. و هذه قضية أخرى، لا يسمح المجال للوقوف عندها في هذا المستوى.

من الناحية المنهجية، يجمل بنا أن نعرض للأفكار التي عرضت في البرنامج، بنوع من الحيادية، قبل الانتقال للتعليق عليها وقراءتها وفق منظورنا الخاص.

أولا: وقفة مع الأفكار والمضامين التي عرضها برنامج "تاريخ الانسان"

بالنظر لحجم التحولات القيمية التي عرفها ويعرفها المجتمع المغربي، وخصوصا في المنظورات الجنسانية التي تؤطر رؤية المغاربة للعلاقات الحميمية، فإن البرنامج استطاع أن يقدم صورة ولو محدودة عن نوعية التوتر الذي لا زال يطغى على هذه العلاقات، والتي يمكن القول انها لا زالت في إطار "الطابوهات" المسكوت عنها. فالحب الزواجي سواء القبلي أو البعدي، من المواضيع التي لا يستطيع الاعلام البصري الاقتراب منها، على العكس من ذلك، استطاع الاعلام السمعي الخاص، أن يقتحمها بكل مهنية وحرفية، خصوصا لأنه يتم بإخفاء الصور(anonymat). لكن التلفزة لم تقم بذلك، خوفا من رد الفعل المجتمعي. إلا ان برنامج "تاريخ الانسان" كانت له الجرأة في ذلك. فهل يعتبر ذلك "خرقا" اخلاقيا كما يدعي البعض أم أنه مجرد نقل للواقع بطريقة ذكية وفنية؟

1-الحب الزواجي بين المعلن والمسكوت عنه

لا شك أنه من خلال دراسات وأبحاث، تبين أن المغاربة لا يعيشون علاقة سوية في حياتهم الخاصة والحميمية، خصوصا الاجيال المتقدمة في السن والمتوسطة والتي عايشت تقاليد مغرقة في التشدد. و لعل أهم مثال على ذلك، نوعية العلاقات التي تربط الزوجين، فالقليل منها ينجح في إقامة علاقة منسجمة وفيها حب حقيقي. بدليل أن الزواج مقرون في وعي ولا وعي المغاربة بالانجاب، أما تجربة الحب فهي إما تمارس خارج إطار الزواج أو قبل مرحلة الزواج،أو غائبة بالمطلق. ولهذا فالبرنامج استطاع أن يستكشف هذه التجربة من خلال الاستماع لشهادات أزواج، أقاموا علاقة تقليدية، وأخرى حديثة في الوصول إلى ميثاق الزوجية. ومن خلال هذه الشهادات، تبين أن العديد منهم لم يكن لديه أدنى تجربة في إقامة علاقة ناجحة في بداية الزواج، لكنه بعد ذلك، استطاع أن يحقق هذا الزواج القائم على الحب والانسجام والتقدير المتبادل. وليس في منظورنا الوقوف عند ما جاء في البرنامج، بقدر ما نسعى لقراءة ذلك في ضوء العديد من الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية التي تحدثت عن الموضوع. فقد بينت هذه الدراسات، أن المغاربة لا يعبرون عن حبهم وإعجابهم لأزواجهم من كلا الجنسين إلا نادرا، ولا يتلفظون بكلمة "أحبك" " مفتون بك" "متيم بك" إلا في حالات نادرة، فالغالب في هذه العلاقات هو الصرامة والجدية والمعقول وتصريف الأمور اليومية "الروتين"، بل حتى اللقاء الحميمي بين الزوجين لا يتم إلا في مكان محدد ووفق طقوس محددة ("بيت النعاس")، إلى حد المجازفة بالقول، إنها طقوس أصبحت تقليدية عند البعض، وروتينية مملة. وقلما يحدث ان يتم خرق هذه القاعدة –خصوصا عندما يكون هناك أبناء-. أما الاعداد القبلي للعلاقة الحميمية فلا يكاد يحضر إلا في حالات نادرة. لأن الحس المغربي لا يربط بين الزواج وبين نوعية هذه الممارسات، فهي في نظر البعض "نوع من التصابي" الذي كبر عنه الزوجان، ولا يليق بمكانتهما، طبعا نحن لا نعمم هذه الافكار، لكن المؤكد هو وجود توتر داخلي في العلاقات الزوجية، والبرنامج حاول أن يكشف عن هذه المفارقات بنوع من المهنية، عندما ترك المستجوبين يعبرون عن آرائهم في الموضوع بنوع من الحرية. وتجدر الإشارة إلى أن البرنامج استعمل آلية جد مهمة في استقصاء آراء المحاورين من خلال المقابلات النصف الموجهة، وباستعمال نوعية الأسئلة الدافعة (Questions de relance )، وثانيا من خلال العينات التي تم الالتقاء بهها فهي تشكل عينة ممثلة للتنضيدات الاجتماعية (stratifications sociales) الموجودة في المجتمع المغربي. وهذا يظهر من خلال الحوار الذي تم مع أسر متوسطة وأخرى أقل منها والبعض الأخر في مستوى متوسط أعلى، وبشكل خاص راعى البرنامج أن يستطلع آراء عينة مختلفة من حيث البنية الثقافية والدينية للأسرة، وهكذا نجد في البرنامج الاسرة "المنفتحة" (نموذج من زوجين شابين من مراكش) الاسرة المحافظة المنفتحة (المهندس والشابة) والاسرة التقليدية والاسرة السلفية، وحتى الاسرة الحديثة موجودة في البرنامج. وهذا يجعلنا نستنتج أن معدي البرنامج لهم خلفية سوسيولوجية في التعاطي مع هذه المواضيع، وانهم واعون بحجم ردود الفعل المجتمعية، لذلك، حاولوا ان يحترموا التشكيلة المجتمعية بتعددها وتنوعها واختلافها.

2-العلاقات الجنسية قبل الزواجية بين مطرقة التحريم وضغط الواقع

لا يمكن الادعاء بأن الموضوع جديد أو غير مطروق، بل يمكن القول أن العديد من الدراسات والابحاث بل وحتى بعض الإبداعات الفنية، تناولت هذا الموضوع، لكن طريق عرضه في البرنامج الذي نحن بصدد تحليله، جاءت بالجديد، عندما اقتربت من العلبة السوداء، أي كيف يعبر الشباب عن نظرتهم لهذه العلاقات، وكيف يشكلون منظوراتهم القيمية، وعالمهم التمثلي لذلك، وبلغتهم، وأسلوبهم، بل أكثر من ذلك، وهو ما أثارني –شخصيا في البرنامج-، هو العفوية التي تحدث بها هؤلاء الشباب. فالأكيد أن فئة الشباب تعيش على وقع تحولات عميقة، لعل من بين مؤشراتها الكبرى، تضخم المسألة الجنسية، وكيفية يتم تدبيرها من طرف المجتمع، ولهذا يمكن القول اننا بدأنا نلاحظ انفجارا جنسيا، يؤشر على وجود مفارقة بين المثال والواقع. فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفا أقل ما يقال عنها أنها تغري بممارسة الجنس، فالإعلام والأنترنيت وأشكال الموضة الحديثة و تقنيات التواصل السريع، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة. هذا في الوقت الذي يعرف فيه هذا الجيل إعادة لمنظومة قيم جديدة ولمجموعة من المؤسسات والمرجعيات والتقاليد، وعلى رأسها مؤسسات الأسرة والدين والمدرسة، بل وحتى الاعلام. و قد يتولد عن ذلك، بروز ثقافة جديدة، تقول –نحن الشباب- لدينها هواجس ورغبات واستيهامات ونريد ان نعيش في وطن يقبل بنا، ويحمينا ويقر بالفصل بين الحريات الفردية والحريات الجماعية، وان قوانين البلد (القانون الجنائي مثلا)، بل وحتى التقاليد الدينية والثقافية والتراثية عليها ان تتغير في اتجاه المصالحة مع الذات، لا جلدها والتحقير من شانها.

إن الآراء المعبر عنها في البرنامج، تذهب في هذا الاتجاه، وتقول للجميع: الدولة، المؤسسات الدينية، الأسر، المدرسة، رجال الدين، والمجتمع برمته، نحن نريد مغربا جديدا، يتسع للجميع. وأكثر من ذلك، فالبرنامج، كانت له الجرأة في طرح هذا الموضوع، لكي يبين حجم التحولات القيمية التي نشهدها، ولكن أيضا للتنبيه إلى كسر الحدود المغلقة، والتي لا زالت مهيمنة على الحس المجتمعي، وتجعل منه رهين السقوط في "النفاق المجتمعي" حيث الممارسات الجنسية المستفحلة في الخفاء تخالف مع هو ظاهر في العلن من كون المجتمع "محافظ" ومتمسك "بهويته" وب"بدينه" وما إلى ذلك من دفوعات غير مسنودة بالواقع ولا ملتفتة لحجم هذه التحولات.

ثانيا: في محاولة فهم ردود الفعل المجتمعية ضد البرنامج

بالرغم من كل الحيثيات التي أتينا على ذكرها، والتي يعرفها الخاص والعام، وهي أن المغرب يعيش توترا مثيرا للدهشة في المسألة الأخلاقية، من حيث أنه يوجد في مفترق طرق، فكيف ذلك؟

فالأكيد أن الكل يعلم أن الممارسات الجنسية خارج الزواج سواء بين الشباب او بين غيرهم، حاضرة في المجتمع بشكل أو بأخر، وأن الجميع، يعلم أن هناك جيلا من القيم الأخلاقية يترسخ في وعي ولا وعي المجتمع، والذي يجعل منه، قابلا على مستوى التمثلات والممارسات لهذه العلاقات، رغم عدم قدرة البعض على التعبير عنها صراحة. لكن في الحصيلة النهائية الواقع لا يرتفع. كما هو الشأن في العديد من المواضيع الأخرى، التي تثير العديد من التحفظات، كاستهلاك الخمر. لكن البناء الثقافي للمجتمع، لا يزال يمانع في التعبير الصريح عن مصالحته مع هذه القضايا، رغم أنه يمارسها بشكل أو بآخر. وقد نجد أن أولئك الذين قاموا بردود فعل ضد البرنامج، ممن لهم مغامرات جنسية كبيرة وممتدة في الزمان والمكان، لكنهم مع ذلك، يرفضون التعبير عنها، وإظهارها للمجتمع ومناقشتها على أوسع نطاق. ولعل تفسيرنا هو الترسب الثقافي للعديد من المواضيع، والتي تحاط بهالة من التحريم والمنع والكبت لدرجة يصعب معها الخروج من دائرة التقليداوية والاخلاقوية والحساسية المفرطة. هذا ناهيك عن استغلال هذه الأحداث من بعض الجهات الدينية التي تريد أن تفرضها على النقاش العمومي، لكي تصبح حصان طروادة للدخول في معارك "دينكوشوطية".

ولفهم أوضح لما قصدناه بالبناء الثقافي للمجتمع، يمكن أن نبسط مثالا شعبيا عن هذه الحالة: ففي عمارة مؤلفة من عدد من السكان، اعتادوا على شخص التحق بهم مؤخرا للسكن معهم في شقة، وفي كل مناسبة تكون معه خليلته وعشيقته التي تقضي معه بعض الوقت، مما أثار حفيظة السكان، واشتكوه للسلطات المحلية من أجل منعه من ذلك، رغم أنه لا يؤذيهم ولا يزعجهم بصوت أو بشجار أو ما إلى ذلك، لكنهم امتعضوا من سلوكاته وقرروا منعه، وقد تمكنوا من ذلك. بيد أن نفس الشخص أصيب بمرض واحتاج لمساعدة جيرانه من سكان العمارة، فماذا كان رد فعل هؤلاء الذين تحمسوا باسم "الاخلاق" لمنعه من ممارسة حريته الفردية، لقد امتنعوا عن مساعدته ومواساته، لأنه في نظرهم "زنديق" وليس أهلا للمساندة. فأين هي الأخلاق إذن"؟ لماذا تعامل السكان بنفس "أخلاقوي" في الواقعة الأولى، لكنهم لم يتصرفوا بنفس أخلاقي في الواقعة الثانية؟

إن هذا المثال، الذي استحضرناه في هذا المقال، يعتبر في –نظرنا- جد معبر عن حالة رد الفعل الأخلاقوية التي تميز المجتمع المغربي اتجاه القضايا الجنسية أو غيرها مما يمكن اعتباره نوعا من المفارقة المتوترة و المرضية حتى.

ختاما، يمكن الاشارة إلى أن الاعلام من وظيفته الحيوية والملحة، هو نقل مثل هذه القضايا لفتح نقاش علمي وهادئ حولها، وأنا –شخصيا- أحيي جرأة منتجي البرنامج ومعهم القناة الثانية، وقد يعتبرني الكثير أو البعض، متحيزا لجهة دون أخرى، لكنني هنا أعبر عن رأيي بكل وضوح وبكل شفافية، وبدون مجاملة لأحد. فهاجسي الوحيد، هو أن ندخل في نقاش مجتمعي حول هذه القضايا، بدل السكوت عنها، وتغطية الشمس بالغربال كما يقال، وذلك في أفق إحداث رجات قوية في البناء الثقافي للمجتمع، ومن جهة أخرى، إحداث التغيير المطلوب في القوانين (القانون الجنائي) التي لازالت معاكسة لواقع مجتمعي ثائر ومتغير باستمرار.