قضايا

الكتب السماوية بين التحريف والحفظ

يامنة كريمي

(3)

يعتبر النص 9 من سورة الحجر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون) السند الأساسي لأغلبية الجماعة القائلين إن الله حفظ القرآن من التحريف دون غيره من الرسالات السماوية. وللتأكد من معنى النص وآيته يقول أصحاب هذه المقاربة لا بد من المرور عبر تحديد المفاهيم المفتاح وهي على التوالي:

- نَزَّلْنَا: لغة، نَزَّل، معناه حرك الشيء من فوق إلى تحت. ونَزَّل في النص تعني مجازا أوحى، مثل: (نزل الله الوحي على الأنبياء). وارتباط الوحي بالنزول في النص من صيغ تعظيم وتمجيد الله الخالق من خلال الإشارة إلى مكانته العليا ومكانة الخلق الدنيا. ولا يمكن أخذ فعل نزل في النص على معناه الحقيقي، يقول أصحاب المقاربة، تجنبا للسقوط في شبهة التجسيد، وجعل وجود الله محصورا في المكان أي السماء، كما هو متداول عند الأغلبية؛ لأنه تقصير في حقه عز وجل بدليل النص 115 من سورة البقرة: (وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيم). ونون الجماعة للتكبير والتعظيم في حقه عز وجل.

الذكر لغة هو خلاف النسيان، أي بمعنى حفظ الشيء وصونه من التغيير أو الضياع. وإن كان للذكر في القرآن عدة معان، فغرضنا، يقول أصحاب المقاربة، هو الذكر بمعنى الكتاب أو جزء منه. فالكتاب المنزل هو مجموع ما أوحى الله به لأنبيائه ورسله، كصحف إبراهيم وتوراة موسى ومزامير داوود وإنجيل عيسى وقرآن محمد ... وكل رسالة إلهية هي جزء من الكتاب المنزل، وإن كانت مجازا تسمى كتابا. وكل كتاب/ جزء، يشمل الذكر والفرقان والأمثال والقصص والوعد والوعيد.... والكتب/الأجزاء، باستثناء ما تتضمنه من تنوع الشرائع، كما سلف البيان، هي وحي واحد. وذلك الواحد أو المشترك هو موضوع الذكر. وسمي كذلك لأن كل كتاب أو رسالة لاحقة، في جزء منها، تذكر بما هو ثابت من الوحي أو "أم الكتاب" في الرسالات التي سبقتها. أما صحف إبراهيم، باعتبارها أول وحي، فإنها تذكر بالتوحيد أو الإسلام كدين الفطرة التي فطر الله عليه خلقه منذ أبوينا آدم. ومنه فإن كل الكتب المنزلة هي ذكر من باب إطلاق اسم الجزء على الكل. وكل من نزل عليهم الوحي هم أهل الذكر.

حافظون: فعل حفظ يعني صان من الضياع. وصيغة الجمع هي لتعظيم وتشريف الذات الإلهية. أما موضوع الحفظ فهو كلام الله الذي سنتعرض له في وضعيات مختلفة.

وبعد تحديد مفاهيم النص 9 من سورة الحجر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، يقول أصحاب المقاربة، يمكن مناقشة المضمون الذي قال بصدده الجمهور إن الذكر موضوع الحفظ هو القرآن، بناء على أن سياق النص يبين بأن الله كان يتوجه بالخطاب للمكذبين بمحمد ص ومتهميه بالجنون. لكن على الرغم من صحة السياق التاريخي، يقول أصحاب المقاربة، فإن السياق اللغوي يبين أن عبارة الذكر جاءت بشكل مطلق دون أي قرينة تقيدها بالقرآن وتجعلها حصرا عليه. إضافة إلى أن الذكر نزل على كل الأنبياء والرسل، وأن ما تعرض له الذكر/ القرآن والرسول محمد ص من أذى المشركين قد تعرض له كل من سبقه من ذكر وأنبياء ورسل. وعليه، فحتما ولزوما أن الموقف الإلهي من المشركين والمكذبين سيكون واحدا. بدليل قوله تعالى في سورة فصلت: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿٤٢﴾ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴿٤٣﴾). إضافة إلى أن الكتاب العزيز هو كتاب واحد. دون أن ننسى، يلاحظ أصحاب المقاربة، أن الله حرم على خلقه التفريق بين الأنبياء والرسل، فكيف يمكن الاعتقاد بكونه سيحل على نفسه التمييز بين رسله من خلال حفظ وحي أحد الرسل وإهمال الباقي؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومنه فالقول بحفظ الله للقرآن دون زبره الأخرى عار عن الصواب.

توصل أصحاب المقاربة لدحض قول الجمهور إن الحفظ من التحريف موقوف على القرآن، لكن المشكل لم ينته؛ والسبب هو أن اعتبار الحفظ يشمل كل الوحي المنزل يجعل النص 9 من سورة الحجر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون) في تناقض وتضارب مع مجموعة من النصوص المقدسة التي تشهد بأن الرسالات السماوية قد تعرضت للتحريف من طرف المشركين. ومنها:

قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) النص 78 من سورة آل عمران. وقوله سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). النص 79 من سورة البقرة.

أما في النص 91 من سورة الأنعام قال عز وجل: (...تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً...).

كما جاء في سفر ارميا الإصحاح الثالث وعشرون ما يلي:

21- لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا/

31- هاأنذا على الأنبياء ، يقول الرب، الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال

32 ...الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم...

وبناء على الشهادات أعلاه يقول أصحاب المقاربة، يتأكد لنا أن الكتب المنزلة تعرضت كلها للتحريف وبطرق مختلفة مثل:

- تحريف الكلم عن مواضعه: وهذا النوع من التحريف يكون إما عن طريق لي اللسان كما جاء في النص أو بحمل الكلام على غير المراد وإجرائه في غير مورده. ويستحضر أصحاب الطرح كمثال عن الحالة الأخيرة، قضية "التعصيب" أو الكلالة في الإرث لدى المجتمعات "الإسلامية". فالسند القرآني للتعصيب هو قوله تعالى في النص 176 من سورة النساء: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ). وقد اختلف المفسرون حول عبارة "ولد" فهناك من فسرها على أنها تطلق على الولد الذكر والأنثى، فكانت القاعدة أن التعصيب لا يصح إلا في غياب الولد بجنسيه؛ أما البعض الآخر فاختار أن يجعلها تهم الولد الذكر فقط، فأقر التعصيب في حالة وجود الولد الأنثى. ونفس الشيء حدث مع ظاهرة التثليث. فقد استغل البعض طبيعة ولادة عيسى عليه السلام ومفهوم عبارة "كلمة الله" للقول بالتثليث، على عكس ما ينص عليه الكتاب المقدس من توحيد. جاء في إنجيل يوحنا 17/3 عن عيسى ص مخاطبا الأب: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته). ومثله في يوحنا 5/ 24

- الإخفاء وعدم إعلان بعض الأحكام الثابتة في الكتاب: ومن أهم الأمثلة عن هذه الحالة من التحريف هي قصة يهود المدينة بشأن حكم الزنى؛ إذ أخفوا ما هو مكتوب في التوراة من رجم في حق الزاني المحصن، وذهبوا عند النبي محمد ص رغبة في أن يحكم لهم بالجلد. لكنه صلوات الله عليه وسلم رفض أهواءهم وأحالهم على الحكم الموجود في التراث وهو الرجم. ومثل هذا التحريف شاع ولازال بين فئة من رجال الدين من شرائع مختلفة لمصلحة معينة.

- كتابة الكتاب بأيدي المشركين: يشمل هذا النوع من التحريف حشو بعض الكتب المنزلة بخليط من التاريخ والقصص والأساطير التي تظهر من الوهلة الأولى أنها ليست من كلام الله. مثل الكلام الفاحش الذي جاء في سفر نشيد الأنشاد وحزقيال والأمثال. ويدخل في هذا الباب كذلك ادعاء النبوة وتلقي الوحي، وهي ظاهرة عرفتها كل الشعوب عبر التاريخ. يؤكد ذلك ما جاء في أرميا 24 وما تحفظه بعض المراجع التاريخية عن أنبياء الكذب مثل مسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة بن خويلد، وقد كانوا يدعون نزول الوحي عليهم ويكتبون ذلك.

والعبرة هي أن كل الكتب السماوية وكل الرسل والأنبياء ودون استثناء قد تعرضوا لأذى المشركين الذين يعتبر كفرهم وظلمهم وجورهم هو السبب الحقيقي وراء نزول مختلف الرسالات التي لم تسلم من أذى التحريف.

وإن كان على التحريف فها قد وقفنا عليه يقول أصحاب المقاربة، لكن كيف نفسر حالة التناقض بين نصوص تقول بالتحريف وأخرى تنص على الحفظ؟

إن مشكل تناقض أو تضارب النصوص، يجيب أصحاب المقاربة، لا يطرح إلا بسبب عدم الإحاطة الكافية بالموضوع وافتقار الاجتهاد إلى منهج عقلاني؛ ما يجعل المجتهد يقف عند حرفية النص وظاهره، ما يحول دون التوصل إلى الآيات والدلالات الموضوعية. وبالتالي فمشكلة القائلين بتناقض النصوص في موضوع حفظ الذكر هي أنهم أغفلوا حقيقة جوهرية في هذا الباب وهي، أن الذكر الذي أنزل الله على أنبيائه ورسله ليس سوى نسخة من الذكر أو الكتاب الأصل الذي هو عنده عز وجل. وبالتالي إذا كان الوحي المنزل قد تعرض للتحريف كما نصت على ذلك الشهادات أعلاه، رغم أن الله قد سخر لحفظه الأنبياء والرسل والأتقياء والعارفين بحقيقة الوحي الإلهي من حفظة ومعلمين ومفكرين ومجتهدين في الدين. وتعرض الكتاب أو الذكر على الأرض للتحريف لا يتعارض مع قدرة الله على حفظه، لكنه فقط يخضع لمشيئة الله في حفظه. لأنه لو شاء الله لما حصل التحريف، لكن ذلك من باب الابتلاء وحرية إتيان الإنسان لأفعاله التي سيحاسب عليها. أما الذكر المحفوظ المشار إليه في النص فهو ما عرف باللوح المحفوظ وبالذكر المحفوظ والكتاب المكنون. وهذه التعابير كلها تدل على طبيعة الحفظ عند الله كما أشارت لذلك مجموعة من تفاسير النص 9 من سورة الحجر. جاء في تفسير الطبري لقوله تعالى: {وإنَّا لَهُ لـحَافِظُونَ} قال: عندنا. ونفسه جاء في تفسير الشوكاني. أما في تفسير النص 22 من سورة الشورى (في لوح محفوظ) فجاء عند الطبري{فِي لَوْحٍ} قال: في أمّ الكتاب و{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} عند الله. بمعنى أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب وهو الكتاب المكنون وهو الذكر المحفوظ، وكلها بمعنى أنه كتاب مصون ومنزه عن كل تحريف وتبديل وهو عند الله سبحانه وتعالى. لكن لا تعنى عبارة "عند الله" وجود سجل عند الله كما قال الجمهور أو سجلين كما قالت الشيعة. فقد تصوروا أن الله بحوزته كتاب مسطور أو كتابان أو لوح من طين أو خشب. كأشياء مادية ملموسة بديوان وربما هي مركونة في صندوق مقوى (coffre-fort). ناهيك عن التفاسير الخرافية مثل ما جاء عند الأصبهاني. لكن لا شيء من كل هذا، لأن الله ليس كمثله شيء؛ وبالتالي فأي إسقاط للواقع البشري وطريقة عيش الإنسان بما فيها طريقة حفاظه على الأفكار والمعلومات من الضياع والنسيان، بأدوات التسجيل والتدوين المتاحة والمكملة لمهمة الحفظ عند الإنسان، يعتبر تقصيرا في حق الله السامي عن كل نقص وحاجة وله الكمال وحده. وأي فكر يبنى على أساس إسقاط الدنيوي على العلوي فهو باطل كمعظم ما قيل في حفظ الوحي؛ لأن معنى محفوظ ومكنون هو أن كلام الله، الذي لا مبدل له، مثبت عنده وفي ذاته. فالله هو أصل كلامه ومصدره. إذن الله هو (أم الكتاب) وهو (الإمام المبين) أي الصراط المستقيم. واللوح المحفوظ والكتاب المكنون لهما المعنى نفسه، وهو الحفظ والصون، والله هو الحفيظ والحافظ والمحفوظ. جاء في تفسير (الرازي {وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ} يعني العلم عندي "عند الله"، كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً). كما أن العلم كصفة من صفات الله عكس السهو والنسيان، ما يفرض الكتابة والتسجيل. أما عن وصف كتاب الله أو ذكره بالمجيد والكريم والعزيز والحكيم والحق...فهي أصلا صفات الله لأن الله وكلامه واحد.

والخلاصة يقول أهل المقاربة هي أن دين الله واحد، وإن اختلف الأنبياء والرسل وتباينت الشرائع في جزء منها لما فيه خير الإنسان. ودين الإسلام بريء من كل ما يرتكب باسمه من جرائم، سببها الحقيقي هو الجهل والجور والطمع في المال والسلطة، ما يستلزم الانتباه إلى حقل التربية والتعليم والأنشطة الموازية له لما لها من دور في تكوين شخصية الإنسان. إضافة إلى ضرورة ضبط وتقنين الحقل الديني بمعناه الواسع لما يشكله وضعه الحالي من خطورة على أمن واستقرار البلدان الإسلامية. فإن كان السابقون معذورين في تصوراتهم الخرافية والأسطورية لأن المستوى الفكري كان في بدايته ووسائل وأساليب البحث محدودة وضعيفة وقتها، فحاليا البحث العلمي يشكل منهجا وصنعة يجب اكتسابه واستغلاله في حقل البحث الديني. وما تمت الإشارة إليه لا ينفي ضرورة إعادة النظر في السياسة السوسيو-اقتصادية والفكرية على المستوى العالمي والجهوي والوطني من أجل القضاء على الظلم وضمان كرامة الإنسان ومواطنته الكاملة كدعامة لنشر قيم الأمنوالتسامح والسلام.

*باحثة في الديانات وقضايا المرأة