قضايا

من أجل تأويل غير ميتافيزيقي لـ"الأبدية"

عبد الله الحلوي

يقول الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وين داير ( Your Erroneos Zone 1976) "كل ما خُلق يخرج من الصمت. أفكارك تنبثق من العدم والصمت. كلماتك تأتي من الخواء. جوهرك نفسه ينبع من الفراغ. كل إبداع يتطلب الهدوء. "نقيض "العدم" ( = الفراغ، الغياب، التّواري، المسافة، الفقدان، السّلب، الفراق، إلخ) ليس هو "الوجود" بل هو "الأبدية". فاختراق العدم لوجودنا الإنساني لا نؤوله في حياتنا اليومية بأنه مجرد "فقدان" للوجود بل بكونه فقدانا ل"الأبدية" ... لكن كيف يمكن أن نفكر "الأبدية" باستقلال عن كل إسقاط ميتافيزيقي؟ ... ما هي "الأبدية" في خبرتنا الإنسانية باستقلال عن كل تأويل؟

أنظُر الزّمنَ!

أصل الزَّيْف في هذا الإسقاط الوجودي الذي نسميه "عالما" أنَّ نِصْفَ المعنى الذي نضفيه على الحياة مرتبط بالماضي ونعيشه حنينا وتذكرا واحتفالا وتخليدا للإنجازات، والنصف الثاني للمعنى مرتبط بالمستقبل ونعيشه شوقا وأملا وانتظارا واصطباراً ... الجزء الأول من مشكلتنا الوجودية أن الماضي والمستقبل كليهما عدم محض لأن الماضي قد مضى، والمستقبل لم يستقبل بعد. و الجزء الثاني من هذه المشكلة الوجودية أن الانسياب الوجودي الذي نسميه حاضرا هو نفسه مجرد انسياب، أي خروج آنيٌ مما مضى، وهو عدم، إلى ما سيمضي وينعدم. فإما أن نُلاشي أنفسنا في عدمية الماضي والمستقبل، وإما أن نبقى "هنا" و"الآن" نجري من الماضي إلى المستقبل ... أي من العدم إلى العدم. رجاء إنسانيتنا أن يذوب الماضي والمستقبل في حاضر لا ينتهي. لذلك فنحن بحاجة لفهم إنسانيتنا بصفتها بصفتها نوعا من "الأبدية الرمزية" حقيقتها أنها توازن دقيق بين كوننا "وجودا" منغلقا على ذاته وغارقا في انتمائه لنفسه، وكوننا "كينونة" تسعى لتكون كل شيء آخر غير نفسها. هذا التوازن بين وجودنا وكينونتنا هو ما يجعلنا نعيش بشجاعة على حافة عدميتنا متشبثين برجاء اكتشاف الحقيقة التي ليست هذه العدمية سوى إسقاط لها.

أنظر تذكُّرك!

ماذا أفعل عندما أتذكر؟ ... لا أفعل شيئا! التذكر هو أن نترك الأشياء تجد مكانها مرة أخرى في الكل الذي أصبحته. هذا هو معنىremember في اللغة الإنجليزية: أن أتذكر هو أن أترك الشيء يجدد عضويته في كينونتي. عندما نتذكر فإننا نترك الأبدية تنساب في كينونتنا، فنتلذذ بالمُنساب حينا ونتعذب بكونه ظلا باردا للأبدية حينا. الحنين هو هذا المد والجزر بين هذا التلذذ وذاك العذاب. عندما أرى وردة، فإني أتحد بها إذ أجعل منها جزء ا من خبرتي (إدراكي، معرفتي، تمثلي للعالم) ... وعندما أحب إنسانا، فإني أتحد به إذ أجعل قيمته الذاتية ( كرامته، فرادته، تأثيره في العالم) جزء ا من سعادتي، وعندما أتذكر حدثا فإني لا أتحد بالحدث فقط بل أيضا بما يجعل الحدث "باقيا" أي بأبديته ... لكن بما أن الحدث فانٍ (ليس أبديا)، فإني أؤبده بأن أتذكره. الذاكرة هي شوقنا للأبدية. لذلك فإننا لا نتذكر فقط بل "نحِنُّ" أيضا. الحنين هو أنين الكينونة وهي تتعذب باكتشافها أن الذاكرة مجرد ظل للأبدية.

أنظُر كيف تبدأ!

"الوجود" هو نوع من "البداية" ... لكن .. ما معنى "البداية"؟ ... ما معنى أن تبدأ عملا جديدا أو مرحلة جديدة في حياتك؟ يقول كاتب استرالي اسمه ويليام ثروسبي بريدجز: "البدايات الحقيقية دائما تبدأ من دواخلنا، رغم أن الفرص الخارجية هي التي تجعلنا ننتبه لها."التربة الوجودية للبداية هي العدم. فلكي يبدأ الشيء ينبغي أن "يكون" منعدما قبلاً. لم يكُنْ، وهاهو الآن كائن. لم يكن مختفيا أو متواريا، بل كان منعدماً. كان لا شيء فصار شيئا. "البداية" تفترض أيضا أن هناك نقطة زمانية ما هي التي تنطلق منها البداية. البداية هي دائما مفاجَأَةٌ للزمان واختراق لَه بما لم يكُن مُزمَّناً، أي ما لم يكن في زمان. وعندما يلتقي هذا الوجود المباغِتُ بالعدم السابق له، تكون النتيجة هي "الإنتعاش"، أي الرّعشة الأولى التي يتحرك بها ما ابتَدأَ نحو المستقبل. لذلك لا حظ ليوناردو داڤنتشي أن بداية كل ظل هي خليط غير متناه من الظل والضوء بحيث لا تستطيع أن تحدد نقطة محددة واضحة لبداية الظل. البداية ليست عيدا ... لكي نعيّد، ينبغي أن يكون الحدث الذي نخلّده في العيد فاصلا بين ما كان (مثلا: كنا منهزمين) وما هو كائن (مثلا: أصبحنا منتصرين) .. العيد تأبيد للحظة لها قبل ولها بعد. أما "البداية" فلا قبل لها. "البداية" ليست مجرد انوجاد للوجود، بل هي أيضا قيمة تُطلب. هي قيمة لأن تُخرج الوجود من مجرد "استمرار في الحياة" إلى "مشروع حياة" تقف به الكينونة أما إمكانيات متعددة .. الوجود تثبيت للإمكانيات في إمكانية محققة واحدة .. أما البداية فتمكين للكينونة من الإمكانيات الكثيرة. لذلك فالوجود هو أصل الوحدة والبداية أصل التعدد. لذلك أيضا فإن البداية هي أصل التفسير .. التفسير هو إرجاع الشيء إلى "المبدإ" أي إلى نقطة البداية التي انبثقت من العدم . لهذا فالتعامل مع البداية هو نوع من الحكمة كما قال الكاتب الأمريكي هال بورلاند. بداية المدينة هي ما يعطي للمدينة هويتها .. من ذلك مثلا أن ماريان وليامسون اعتبرت مدينة لوس أنجليس مدينة تخترقها البدايات باستمرار .. واعتبر المؤرخ الإطالي ليڤي مدينة روما حاملة لبداية عظيمة (لأنها ولدت مدينة عظيمة من البداية) لذلك فلم تكن عظمتها على مر التاريخ حدثا كبيرا يحتفى به. فما هي بصمة البداية في مدننا؟ .. هذا هو أصل سؤال الهوية.

أنظر كيف ماتت سيدة شالوط! سيدة شالوط ... قصيدة لألفريد تينيسون (1809–1892) يصور فيها امرأة (سيدة شالوط) حلت عليها لعنة عجيبة: فقد كان لزاما عليها أن لا تبرح غرفة داخل قلعتها وأن تستمر في حياكة الصور على منسجها دون أن تنظر من خلال نافذتها إلى العالم الخارجي ... كان كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تنظر في مرآة تعكس ما كان يحدث في الطريق حيث يمر الناس مجتازين جزيرتها إلى كاملوط. إلا أن الصور المنعكسة في المرآة أصابتها بملل قاتل فودّتْ لو ترى العالم الحقيقي. لذلك توقفت عن عمل الحياكة فأطلت من نافذتها نحو كاملوط فحلّت عليها اللعنة.

غادرت صرحها فسافرت عبر النهر المؤدي إلى كاملوط بواسطة مركب كتبت عليه اسمها. إلا أنها ماتت قبل وصولها إلى القصر الذي كانت تنوي الذهاب إليه. وقد رسم الفنان الإنجليزي جون وليام وترهاوس لوحة تمثل سيدة شالوط وهي تتجه بمركبها إلى كاملوط. "لعنة" سيدة شالوط هي تراجيديا الوجود الإنساني... تراجيديا الوجود الإنساني هي فشلنا في مصالحة "وجودنا" الداخلي الذي لا نستطيع بدونه أن نكون أنفسنا (هذا ما كانت تفعله سيدة شالوط قبل أن تغادر قصرها) و "كينونتنا" التي تسعى إلى أن تكون كل شيء آخر غير ذاتها (هذا ما فعلته سيدة شالوط عندما خرجت إلى النهر). التوازن بين وجودنا وكينونتنا ... هذه هي صورة الأبدية في عالمنا الساقط. لقد ماتت سيدة شالوط لأنها فشلت في مصالحة وجودها مع كينونتها... !