قضايا

الخوف من حرية المعتقد بالمغرب

محمد سعيد

من علامات الإفلاس الثقافي والفكري الخوف من حرية المعتقد، وأن يتًخذ المرء التجريد أسلوبا للحديث عن هاته الحرية، كما فعل مصطفى العلوي في مقاله بجريدة الأسبوع السياسي (العدد 931 / 1368) ليوم الخميس 4 ماي 2017، والكلام في كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه في مقاله المعنون بـ"الإسلام في خطر يا أمير المؤمنين"، أسمي أمثال هؤلاء بالمخنثين ثقافيا؛ إذ لن تراهم إلا في الجامعات يدرون التفكير اللامنطقي أمام طلبتهم الذين هم الآخرون أصيبوا بسبات عميق كأصحاب السبعة مع كلبهم الذين سبتوا 322 سنة حسب الروايات الأسطورية التي وصلتنا بغلاف مقدس والتي قرأناها منذ نعومة أظافرنا.

فالتجريد هو الهروب من مقارعة الحجة بالحجة إلى التقنع بقناع الباطل الذي لا يعترف بالحجج أصلاً، فلا بديل عن العقلانية سوى الغباء والتجريد الذي يخاف ملامسة موضوع "حرية المعتقد" الذي يفضح عورة هؤلاء المثقفين المخنثين. فمن علامات الإفلاس الديني والفكري أيضاً، أن يفقد المرء القدرة على قراءة أكثر من صفحتين بتركيز بكتاب ديني ما، تم يأتي ليعظك عن الجنة والجحيم التي قرأ عنها في كتب فقهاء "بني جهلون" (أل سعود)...

فلتعلم أننا لا نريد جنتك، ولا حور العين الاثني والسبعين التي يحلم بها المرضى جنسيا، وهي لعمري مجرد عنب أبيض إذا كانوا يعلمُون، ولا نريد قصراً عرضه السماوات والأرض، بل نريد أن نعيش حريتنا العقائدية هنا، ولك جنتك ودارك الآخرة، ولنا جحيمك إذا سلمنا أنه موجود أصلاً. الحقيقة لا تعطي نفسها للكسالى، فبمجرد أن تكتشف أنك تؤمن بالخواء الديني، منذ أن ولدت إذ علموك أن الجبال رواسي للأرض، وأن الحصى تسبح في أيدي الأنبياء، وأن داوود تنصت الطيور لمزاميره ولا تحلق في السماء.

إنكم تهربون إلى الذاتيات يا معشر المُثقفين المؤدلجين، من أجل الغطاء عن إشكال "حرية الاعتقاد" بالمغرب، هذا الإشكال الذي يؤرق فقهكم المهزوم؛ إذ يفتي بقتل المُرتد، ثم يلغي بدون تبرير ما أفتى به بدون اعتراف بأن هذه الفتوى تعني القتل المباح بصيغة سياسية ودينية، ثم يتماها مع القضايا المزيفة إلى أن تزول صدمة اكتشاف الإفلاس الديني.

فإنكم أيها المفلسون الدينيون تهربون إلى الجحور والخدور حيث لا ضوء يزعج الأعين، وحيث لا تتحاورون سوى مع الوطاويط.. فما كتبه المدعو بمحمد القباج سابقاً (دجنبر 2016) عن "الحرية الفردية في الإسلام" بجريدة السبيل مثلاً، لا يعدو سوى بهتان هذه الحركة التي يمثلها (حركة التوحيد والإصلاح)، والتي قال في السابق أحد أعضاء مكتبها التنفيذي: "إننا نختلف معكم في 10 في المئة حول حرية الاعتقاد" -فمن أنتم حتى تتفقون معنا؟ ومن الذي أوصاكم على حرية الاعتقاد بأبناء الفسطاط القديم؟ فإما أن تكونوا مع حرية المعتقد أو ضدها، فالمسألة لا تحتاج بين البينين، فلنسمً العنب عنباً والحصرمَ حصرماً، وإذا لم يكن لكم ما تقولونه في هذا الشأن، فأحرقوا كتب الفقهاء القدماء، أصحاب دعاوى التكفير والارتداد عن الدين الإسلامي.

فقد كتب الجابري عن التراث ونقده، وكتب الخطيبي عن النقد الذاتي، وكتب عزيز لحبابي عن قيمة الشخص، وكتب المصباحي عن عقلانية القرطبي وابن رشد، وكتب كليطو عن الغرابة في الأدب، وكتب العروي عن التاريخ والمفاهيم الفلسفية ومنها مفهوم الحرية (1981)، وكتب طه عبد الرحمان عن التأتيل والترجمة، وكتب سالم يفوت عن البيان، وأفاية عن النظرية النقدية، وكمال عبد اللطيف عن الإيديولوجيا والميتافيزيقيا...، الشيء الوحيد الذي لم تكتب عنه النخبة المثقفة في المغرب هو حرية المعتقد، أي عين ما نحتاج إليه -لماذا؟ لأن النخبة تخشى الككفونيا المخزنية التي تستعمل الدين لتخويف الجموع، وتستعمله أيضاً لضرب المصالح.

فقد سبق لعبد الله العروي في معرض انتقاده للنخب الفكرية المغربية خلال مرحلة السبعينات من القرن الماضي، أن وصف ميل النخب إلى الاقتباس العشوائي من الغرب بوصف لاذع، وهو أنها تعيش "حرية العبيد"، فهي تعتقد أنها تتمتع بالحرية الفكرية اللازمة لإعادة النظر في مجموعة من القوالب الجاهزة، لكنها تتماها معها فقط. فحرية الاعتقاد والضمير لا تقبل بهذه المعادلة، وعدو حرية الاعتقاد هو التماهي بمخرجاتها كما يتصورها الغرب؛ إذ إن حرية الاعتقاد مكون إنساني غير قابل للتوصيف الجغرافي هنا وهناك، بل هي قناعة إنسانية يجب أن تعاش في الوطن العربي والمغاربي.

الاعتقاد الشائع لدى جزء من النخبة التي تتطرق إلى حرية الضمير، مثل الأستاذ هشام صالح الذي قال :"إن مفكري عصر الأنوار الذين دافعوا عن حرية الاعتقاد كانوا غير متدينين أو ملاحدة"، وهذا غير صحيح إلا بالنسبة لعدد قليل جداً منهم، فهؤلاء لم يحاربوا الدين ولكنهم حاربوا التزمت باسم الكاثوليكية؛ لأنها كانت رمز الاستعباد ودين السلطة، وكبار المفكرين الذين درسوا الدين كانوا من البروتستانت؛ لأن البروتستانتية كانت مذهبا تنويريا من داخل المسيحية في زمانها.

فعندما كتب "ماكس فيبر" كتابه الشهير عن علاقة البروتستانتية بالرأسمالية، فهو لم يفعل شيئاً سوى أنه قال بأن الدين محرك للتاريخ والاقتصاد؛ لأنه كان بروتستانتيا متدينا، وكان يريد نصرة مذهبه، ويستقيم مع هذا الكلام الخلط الذي نجده عند الإسلاميين وغيرهم، وهو أن العلمانية شقيقة الكفر، بينما كانت أداة إجرائية ضرورية لنزع القداسة الدينية عن السلطة، أو قل إنها كانت كفرا بدين السلطة لا كفرا بالدين إجمالاً.

يجب أن تكون هناك حرية في اعتناق الإسلام أو المسيحية كما يقول المونسنيور فؤاد طوال، فدخول الدولة على خط تأمين الأمن الروحي بالمغرب، مثلاً، أمر خطير جداً، فالدين يبقى مسألة شخصية لا تهم الديمقراطية المدنية بشيء، والنخب المغربية يُعميها عُصاب رفض الاختلاف وتمجيد الواحد في جميع المجالات كما نقرأ في مقال مصطفى العلوي المعنون بـ"الإسلام بالمغرب في خطر يا أمير المؤمنين".

النخب عندنا يعيدون إنتاج المشهد الهستيري ضد من يخالفونهم، والحق إنك إذا أردت أن تعرف هؤلاء، فعليك أن تركز لا على المفردات التي يستعملونها، بل على الرنة التي يقال بها خطابهم أو يصاغ بها. وفي حالتنا، لن يشكك أحد بأنها رنة عُصابية تكشف الكثير عن حقيقة هؤلاء أكثر مما تكشف عن مواقف فكرية وسياسية مفترضة ومزعومة.

فإذا كنت تؤمن بما لا تؤمن به هذه الأنتلجنسيا الجديدة، فلا ترى فيها غير الجدية غير الواعية نحوك ونحو معتقداتك الخاصة، فقد يخرج أحدهم عن حدود اللياقة في مخاطبتك، فينعتك بالتافه، وبأكثر من التافه.. وقد يصفك بعضهم بعميل الغرب؛ لأنك تنهل منه بعض أطروحاتك حول "حرية المعتقد"، ويمكن أن يعبروا عن رفضهم لأفكارك ونظرياتك حولها بالصراخ الهيستيري بكل قوة في اللقاءات والمنتديات الفكرية تعبيراً عن شجبهم وعن عزمهم التصدي لك بكل الحزم الممكن. فعلى ماذا تدل مثل هذه الردود الهستيرية المثيرة للشفقة؟

تدل هذه الهيستريا على أننا أمام نخبة من الناس ميؤوس من شفائها من داء عضال هو خليط من العنتريات والديماغوجيات؛ إذ لا يستطيع أمثال هؤلاء أن يناقشوك بهدوء في كل الأحوال، بل يحملون في دواخلهم عقلية العربان من المحيط إلى الخليج وأصحاب الجنجويد، ويدل هذا أيضاً على أن المثقفين عندنا يتعاملون مع ما هو حقوقي بالطريقة نفسها التي يتعاملون بها مع القضايا السياسية، طريقة تغلب عليها المزاجية والتسرع وأسلوب الغارات الكلامية والاصطفافات البئيسة والمحافظة.

إن هؤلاء الكسالى الذهنيين من النخبة المغربية يتحاملون عليك قبلياً ويشككون في مسعاك بتبخيس إيديولوجي لمقترحاتك التنويرية والفكرية، وتخوين لشخصك، فلا فكرة هادئة ورصينة لها القدرة المعجمية والتداولية على دحض ما تؤمن به في حوارك مع هؤلاء، فلا استشهاد لهم بدراسات لدحض معتقداتك وأفكارك، ولا شيء من كل هذا، بل الطريق السهل، كما قلنا، طريق السباب وسلوك الشتيمة، فلا ينتبه هؤلاء إلى أنهم حينما يجترحونك، وكما قال بحق الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور (1788 – 1860 م)، فإنهم "يَبدُون للناظر كالمتعري أمام الملأ.. بشع، مقرف ومثير للشفقة".

إن الإسلاميين مثلاً عندنا، إذا ما ناقشتهم في تأصيلاتهم الدينية حول مفهوم حرية المعتقد من داخل تراثهم الديني، لا يكتفون بالسباب السهل الذي ينم عن عُصاب متأصل في سلوك قبيلتهم الإيديولوجية، بل يضيفون ما تيسر من لغة حربية معهودة عند إخوانهم كلهم، وهذا ما لاحظناه خلال صياغة دستور (2011) لما تكلمت بعض الأطراف على أن فقرة "حرية المعتقد" "لن تمر ولو على جثتنا"..

وحتى نتأكد من أسطوانة الجثث هذه، كما يقول الأستاذ أحمد عصيد، يُخرجها الإسلاميون كلما أعوزتهم الحجة العلمية الهادئة. تذكروا معي أنهم هددوا بها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إن اعتمد الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية إبّان ما عرف حينها بمعركة الحرف، فالجثث المنثورة والنزول إلى الشارع هي الفزاعة التي يُطلقونها كلما أعوزهم حل مقنع في مجال من المجالات على طريقة صعاليك وفتوات الحارات بمصر الشقيقة.. وغفلوا أنها كانت فزًاعة بالأمس، أما اليوم، وبعد أن استهلكهم الحكم، فقد صارت نكتة للتنذر ليس إلا!

*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية