قضايا

زمن الموت بقبلة او عناق

نعيمة حجي

دخلت محطة الميناء كسائحة تتأبط شمسا، وزعت كسرة قلب على وجوه جاعت للحظة أمان، ثم ركضت نحو سماء تبلدت بدمع علق بصدرها المكتئب جراء كورونا. قلت سأطل على الحياة من فوهة باب مراكش، بعدما ارتبك العالم في مراسلات القنوات الاخبارية، وبكى الصحافي ليث، على الحدود الاسبانية الإيطالية في مراسلاته لقناة العربية من مدينة لوغانو. ليث لم يأكل، هو ومصور القناة يوما كاملا، تملكه رعب المكان الفارغ تماما كأنه قبر بإنارة البلدية، وطلب قطع المباشر عندما غالبته الدموع وهو يقول: « لم يسبق أن عشت التجربة »، ثم استدار إلى الخلف كأنه يبحث عن خياله ليتأكد بأنه على قيد الحياة. تسرب إلي الخوف المنبعث من القنوات ويأس المقنعين بقناع الحجر الصحي وهم ينتظرون فك العزل بنتائج المخبريات. وحدهم المثقفون المستفيدون من هذا الوضع. يناسبهم العزل ليكتبوا عن كرونا كما كتب غارسيا ماركيز الحب في زمن الكوليرا. رأيتهم يتسابقون على العنوان ويفكرون في حجزه في دور الطباعة والنشر. لا واحد منهم فكر في كون كوفيد 19 أكثر إثارة من كورونا، فقد سبق أن استهلكت أسماء الأوبئة في كتابات الروائيين: إيبولا لأمير تاج السر، الطاعون لألبير كامو وغيرهما. تملكني دعر الخيالي وارتباك الواقعي، وخرجت دون كمامة وقاية، ولا غسلت يداي بديتول الذي نفذ من سوبر ماركت كقطعة شوكلاتة دايت. في السوق الذي أردت أن أطل منه على العالم، وجدت الناس يبدلون أقمشة الصالونات، ويشترون كؤوس « حياتي » وحتى أسياخا لشي اللحم كأن المناسبة عيد الأضحى. تأكدت أن الدنيا في السوق الشعبي بألف خير، وأن لا خوف عليهم ولا هم يبالون بالزحام ولا بالزكام ولا بفيروس كاد يفتك بكل ووهان. عدت إلى البيت مستجيبة لإعلانات بالعزل والحجر إلا للضرورة. وجدت خالتي تبصق يمينا ويسارا كلما سمعت كورونا، تفعل ذلك تماما كما كانت تفعل عندما تسمع « بغلة لقبور »(حصان المقبرة). هي تعرف من تكون « بغلة القبور » من نساء القرية كما في الاعتقاد الشعبي، تقول: « أنهن نساء لم يحزن على أزواجهن المتوفون، فغضب الله عليهن حتى صار يحولهن إلى دابة تركض مقيدة بسلال تجاه المقابر كلما اشتدت ظلمة الليل ». تخبرني ذلك وهي لا تعرف كيف تنطق كورونا، لذلك تبدأ في لعنة الشيطان الرجيم وتتمتم بصوت خافت منسحبة لتغرس رأسها أمام الأخبار . قلت لها: الصينيون، يا خالتي بنوا مستشفى في 10 أيام ليحضنوا مرضى الكورونا، ونسخوا ملامح مواطنيهم فوق الكمامات لتتعرف هواتفهم عليهم، ويتعرف بعضهم على بعض. أجابت: سبقناهم من زمن بعيد، فقد كان لنا بويا عمر، ونحن أيضا صنعنا كمامة من حمالات صدر محشوة بإسفنج مستورد من الصين العظيمة، وعندنا « مون بيبي ». قمت لأسلم على خالتي وأشد وجنتيها بشكل يجعلها مبتسمة. فهي لا تعرف كيف تبتسم. سحبت جسمها الذي صار رشيقا بسبب العمر مبادرة: السلام ممنوع، « كي خونا كي خونا »، أرسلي لي قبلة في كمامة حتى لا يقتلني كي خونا وتقولي : ماتت خالتي، في نهاية الثمانين من عمرها، بقبلة أو عناق.

نامت خالتي، وتوسدت، أنا خوفي المنبعث من مراسلات تكرر كثيرا طرق الحماية بغسل اليدين. استيقظت في الرابعة صباحا الا ربعا، مدعورة كأم بات أطفالها في العراء دون لقاح ضد الخوف. تفقدتكم واحدا واحدا، 783 في جدار لم يميل من تعب ولا ضاقت أنفاسه حين هوت أقدام العالم فجأة، وصار يختبئ خلف كمامة بحجم بومبيرس صبي. كنت أقيس نبضكم، وحرارة جباهكم العبوسة وأنتم نائمون حين انتبهت الى ان الخوف محا خطوط كف يداي، وأن قلوبكم باتت مفتوحة و تحتاج إلى عملية شد. عدت إلى نومي المضطرب، لأرسم عالم ما بعد الكورونا قبل أن تستيقظوا وتكتبوا : صباح الخير، اللازمة الافتراضية التي تخفي سماء الشر، وهشاشة الأرض، وضعفنا حين سيكتب القادمون من بعدنا: لقد ماتوا بقبلة وعناق في زمن الكورونا.