قضايا

"أحداث الحسيمة" بين الحرية والامتثال للمؤسسات

محمد بوزلافة

حينما طرح توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش في القرن السابع عشر، في فترة تميزت بالاضطرابات والقلاقل، عانى خلالها المجتمع الإنجليزي من ويلات الحرب الأهلية، سؤال لماذا يجب علينا أن نخضع للسلطة؟ وضع نفسه في مرحلة ما قبل المجتمع الافتراضية، ومن ثمّ قارن بينها وبين الحالة المجتمعية...، ليستنتج بعدها الأسباب التي دعت إلى نشوء تلك المجتمعات والمكاسب التي تحققت منها؛ فوجد أن الحل يتم عبر الاتفاق على العيش تحت قوانين مشتركة، والاتفاق على إيجاد آليات لفرض القوانين عن طريق سلطة حاكمة، ليعتبر بأن السّلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة إلى الهمجية...

لعل أحداث الحسيمة وتسلسلها منذ وفاة الفقيد محسن فكري، والتي كانت موضوع مسطرة قضائية، ومرورا بمحطات مختلفة شهدت احتجاجات متفاوتة... وصولا إلى ما حدث بمسجد محمد الخامس الجمعة 26 مايو من منع للإمام من إتمام الخطبة، والوقائع التي تلتها... تطرح علينا أكثر من سؤال بشأن معنى الحرية كحق طبيعي أساسي يتمتع به الإنسان؟ فهل تفيد بالمطلق عدم ضبط الانفعالات التي تتحكم في سلوك العديد ممن يعبر عن المطالب الاجتماعية؟ وهل تفيد إحلال الفوضى محل القانون؟ وهل تفيد المساس بالمؤسسات؟ في وقت اتفقت المجتمعات على الاحتكام للقانون والمؤسسات. هل سننازع اليوم ضدا عن الطبيعة في ضرورة بل الحاجة إلى سلطة الدولة لإلزام الأفراد بالالتزام بالقانون؟

إذا كانت الحرية القاعدة الأساس لمجمل منظومة حركة التطور والتنوير والحداثة التي برزت لدى الكثير من المجتمعات والأمم والحضارات؛ فإنها كقيمة إنسانية لم تكن –ولا يمكن أن تكون في أي وقت من الأوقات قيمة منفلتة، لا ضابط أو رادع لها، خاصة عندما تتقيد هذه الحرية بقيد الحرية نفسه... لتصبح حرية مسؤولة، سقفها العمل والبناء والتطوير وخدمة الناس والمجتمع، والمساهمة التشاركية في التطوير، والالتزام بالنقد الحر الموضوعي البناء، بهدف البناء الواعي والتطوير الدائم ومراكمة النتائج الإيجابية وتلافي الأخطاء الواقعة والقائمة في أي مجتمع ونظام وحضارة.

فإذا كانت الحقوق مكفولة للمواطنين، ومن ضمنها حق التجمع السلمي بموجب الدستور من خلال الفصل 29، والمعاهدات الدولية التي انضمت إليها المملكة المغربية؛ فإن حق التظاهر لا يكون حقا للإنسان، ولا يستطيع ممارسته ما لم يتقيد بالضوابط والأنظمة التي تحكمه وتحكم ممارسة الحقوق والحريات الأخرى. فكما أن حق الرأي والتعبير ليس حقا مطلقا للإنسان، فأيضا حق التظاهر ليس حقا مطلقا للإنسان، بل هو مقيد بالقيود القانونية والشرعية التي تضمن عدم إساءة ممارسته. وفق ما ورد في قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 15/21، يجب لهذه القيود أن "ينص عليها القانون وأن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام، أو حماية الصحة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم".

بذلك، فإذا كان من واجب الدولة اليوم أن تتفاعل إيجابا مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية المشروعة لحاجيات الساكنة، فإن على الساكنة أن تستوعب أن إنجاز المشاريع التنموية يستوجب توفر مناخ آمن يعتمد الضوابط القانونية كمرجعية أساسية، والاحتكام للمؤسسات كهيآت تقريرية تدبيرية.

معطى واقعي يقتضي من مؤسسات الدولة تحمل مسؤوليتها الدستورية والقانونية، لمواجهة تنامي القلق لدى شريحة كبرى من المواطنين بشأن حجم التجاوزات والخروقات الصادرة عن بعض الأفراد والجماعات؛ بل تطرح تساؤلات عديدة بخصوص مسبباتها الحقيقة والعوامل المؤثرة فيها، هل هي فعلا اجتماعية، اقتصادية؟ أم هي غير ذلك؟

ومن أجل تقديم أجوبة كاشفة ومقنعة بشأن الملابسات العامة المحيطة بما حدث، يجب على المؤسسات الرسمية مواجهة خطر عدم الاكتراث بالضوابط القانونية بما فيها الجنائية، من خلال قيام العديد من الأفراد بمجموعة من الأفعال الواقعة تحت طائلة المتابعة، دون تهيب أو تردد؛ وعدم الامتثال للمؤسسات. وهو ما يقتضي منا جميعا وقفة تأمل، بعيدا عن الانجراف للخطاب المتردد، بالقول بضرورة تحمل القضاء مسؤوليته بشأن الحرص على تطبيق القانون، من خلال تحريك المتابعات في مواجهة كل من خالف القانون، في سياق الالتزام بالضمانات الدستورية المكفولة في قانون المسطرة الجنائية الهادفة إلى تمكين المتابعين بضمانات المحاكمة العادلة المكرسة بمقتضى الفصل 23 من الدستور.

إن منح السلطة القضائية صلاحيات واختصاصات إقامة العدل يقتضي التزام جميع أعضاء المجتمع وأجهزة الدولة بكل ما سيصدر عنها، وهو ما يقتضي احترام الإجراءات والتدابير التي تصدر عن القضاء دون محاولة تفسيرها وفق منطق ضيق؛ وهو ما سيجلب المزيد من التعقيدات للوضع الحالي. فمن الضروري اليوم أن يتحلى المواطن المغربي بالثقافة القانونية سلوكا ومنهجا.

بالموازاة مع ذلك وإذا كانت السياسة التي اعتمدتها الأجهزة الرسمية قائمة على التواصل المباشر مع المواطنين والمنتخبين والمجتمع المدني ومختلف الفاعلين، منهجية كفيلة بالتصدي للظواهر الإجرامية التي من شأنها إشاعة الإحساس لدى المواطن بانعدام الأمن، من شأنها أن تجدد الثقة، وتخلق إحساسا بالأمن والطمأنينة؛ غير أنه علينا الاعتراف بأن مؤسسات الدولة وحدها لن تستطيع تأمين سيادة القانون، مما يتطلب منا جميعا الدعوة لشيوع ثقافة الالتزام بالقانون واحترام المؤسسات بين أفراد المجتمع، وإلا فإننا جميعا نسهم بشكل أو بآخر في تنامي خطر التطبيع مع التجاوزات والانحرافات.

أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق بفاس