تحليل

"المخزن" صمام الأمان .. وبلبلة السلفية الجهادية وإيران

عبد اللطيف هسوف

ترددت كثيرا قبل أن أدلو بدلوي وأكتب عما يحدث في أجزاء من بلدي المغرب، خصوصا ما يحدث في شماله تحت غطاء ما أصبح يصطلح عليه باسم 'حراك الريف'. وإن كان البعض من المثقفين والسياسيين قد لزموا الصمت حتى تنقشع الغيمة ليصطفوا كما تعودوا مع 'الفئة المنتصرة'، والبعض يفرط في تمجيد 'ثوار الريف' وآخرون يداهنون بمدح 'المخزن' لحاجة في نفس يعقوب، إلا أن بعض الأشراف من أبناء وطني خاضوا في الموضوع بصدق انطلاقا من حبهم الخالص للمغرب دون مزايدات أو تمنيات زائفة، وازعهم المشترك حب الوطن. وأرجو أن أكون في عداد هذه الفئة الأخيرة.

دور المخزن في الحفاظ على الأمن والاستقرار

إن البحث في مجال التمرد والثورة والعصيان والاحتجاج يمكن الدارس من تعرية الغطاء عن طبيعة الدولة وعلاقتها بمواطنيها، لكن أيضا عن طبيعة المواطنين المتمردين وأسباب رفضهم الامتثال لسلطة مركزية، هي 'الدولة' في القاموس السياسي أو 'المخزن' في تداول بعض المغاربة.

ومنذ عصر الأدارسة حين استدعى المولى إدريس الثاني قبائل عربية من الأندلس وأسكنهم بفاس ليستقوي بهم على الأمازيغ أخواله، بدأ المغرب يعرف ميلاد تقاليد مخزنية ستعرف الذيوع والاستمرارية والتجديد في الأدوات والممارسات والمصطلحات.

والمخزن لا يمثل سوى آلية وظيفية بيد السلطان الذي يضفي عليه الشرعية عندما يكون السلطان قويا. أما عندما يضعف السلطان، فإن المخزن يتحول إلى محتكر فعلي لجل اختصاصات السلطان ولا يتبقى له سوى سلطات إسمية أو تلك المتعلقة بوظيفته الدينية. ولنا في فترة ما بعد وفاة المولى إسماعيل مثالا على ذلك حين تجبر جيش العبيد وطغى بعدما كان أداة النظام والأمن، وسار جيش الأوداية في الطريق نفسها فتدخل في شؤون ولاية العرش.

كانت عيون المخزن دائما حاضرة في التجمعات والنوادي والمساجد والمدارس... لرصد تحركات بعض 'المتآمرين' أو الغاضبين من أجل حماية الاستقرار، بل لم يكتف بعض السلاطين بما كان يصلهم من أخبار عن طريق العيون المبثوثة هنا وهناك، فكانوا يسعون بأنفسهم إلى معرفة ما كان يدور داخل دولتهم.

فالخليفة عبد المومن الموحدي "كان يتزيى بزي العامة ليقف على الحقائق"، وكذلك كان يفعل المرحوم الحسن الثاني. وقد كان المغرب غالبا مملكة موحدة مجتمعة على أمرها تؤمن بالاستقرار والسلم، وفي مرات أخرى كانت مشتتة تنخرها الانقسامات حين يلجأ، إما المخزن أو الرعية، إلى العنف والتحريض.

وبالتالي، فإن دور المخزن في المغرب لم يكن سيئا في مجمله كما يدعي بعض المارقين، بل إن في سهره على أمن الدولة صونا لحقوق الحكام والمحكومين. وبالفعل، كانت مسألة الأمن على رأس أولويات الدولة المغربية في السابق، إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبحنا نشهد توجها نحو تعويض الخيارات الأمنية بخيارات التنمية البشرية والإدماج والإشراك التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس. وللأسف ربما تم استثناء الريف من كل هذا بسبب سياسيين فاسدين.

وإنني لأعجب حين أقرأ لبعض المتنطعين الذين يتعرضون للمخزن المغربي، هكذا جملة وتفصيلا، بالكلام النابي وتحميله كل ما قبح في البلد. إن المخزن جزء من النسيج المجتمعي له ما له وعليه ما عليه، تماما كما جميع باقي مؤسسات الدولة، بل وباقي فئات الشعب، تجد ضمنها كثير من الصالح يعتري بعضه الفساد والانحراف والجبروت من حين إلى آخر.

ويحز في قلبي، أنا المسافر في بلاد الغربة مند عشرين سنة، كيف تمجد شعوب الغرب مؤسسات الشرطة والعسكر والمخابرات، لسبب واحد هو أنها تعلم أنها من دونها لن تنعم بالاستقرار والأمان. وحين سأل صحافي من CNN عينة من الأمريكيين (كلهم جمهوريون صوتوا لصالح الرئيس الحالي دونالد ترامب) مؤخرا: بمن تثق أكثر، الرئيس أو مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي المُقال؟ أجاب غالبيتهم بأنهم يثقون بهذا الأخير أكثر، أي كومي مدير FBI.

يجب علينا نحن المغاربة أن نصفق لمخزننا لأنه صمام الأمان، كان ولا زال، في وجه كل ما يمكن أن يخل بالاستقرار في المغرب. ولسنا في حاجة إلى هؤلاء المنحرفين، سواء كانوا ممن تشبع بأفكار السبعينات السوداء، وهم يخرجون الآن من جحورهم مرة أخرى، حتى الذين نسوا أنهم لوقت قريب 'قلبوا الفيستا' وأكلوا من يد المخزن بقبولهم وظائف سمينة، أو كانوا من المتاجرين بالدين، أو كانوا من المدفوعين من جهات خارجية تريد أن تزعزع أمن المغاربة.

لسنا في حاجة إلى من يخون وطنه بأسماء شتى يريد أن يخلق تقابلا متنافرا بين 'الشعب' و'المخزن' بترديد شعارات خطيرة من قبيل: 'يحيا الشعب... يسقط المخزن'، وكأن المخزن في المغرب ليس جزءا من الشعب.

نعم، عرف المغرب في ستينات القرن العشرين إفراطا في استعمال الآلة الأمنية، بالأساس في ما بين 1970 و1980م؛ إذ خلال هذه الفترة سيختطف آلاف المعارضين ويحتجزون ويعذبون بمعتقلات سرية. ثم ستخف وتيرة هذه الممارسات في ما بعد 1980م. ويجب النظر إلى كل هذه الانحرافات في سياقها حتى لا نحمل تلك الفترة أكثر مما ينبغي وحتى لا نمسح هكذا بجرة قلم جميع تضحيات مؤسسات أمننا التي سهرت على أمن البلد.

فعلى الصعيد العربي وكذا العالمي لم يكن المغرب نشازا، بل ساد القمع كل دول العالم اللاديمقراطية في عراق صدامن وسوريا الأسد، ومصر جمال عبد الناصر ومن بعدهن وجزائر بومدين، وتونس بنعلي، وليبيا القذافي، وسودان النميري، وخليج أصحاب البترول، وإيران الشاه، واسبانيا فرانكو، ورومانيا شاوسيسكو، وصين ماوتسيتونغ، واتحاد ستالين، وجنوب أفريقيا الأبرتايد، وأنغولا دوس سانتوس، وطانزانيا نيريري، وشيلي بينوشي، وأرجنتين بيرون، وبرازيل فارغاس... إلخ.

وبعدما توفي المرحوم الحسن الثاني واعتلى الملك محمد السادس عرش البلاد في 23 يوليو 1999م، كان أول قرار يتخذه الملك يتمثل في تشكيل لجنة مستقلة إلى جانب المجلس الاستشاري لحقوق الانسان لتحديد التعويضات التي ستمنحها الدولة عن الأضرار المادية والمعنوية لضحايا الاعتقالات أو ذويهم. وسيتحدث بيان رسمي، للمرة الأولى، عن "الاعتقالات التعسفية"، وسيصدر العاهل المغربي في غضون ذلك عفواً خص لاجئي المغرب السياسيين في الخارج، وعلى رأسهم السرفاتي. وسيقيل الملك الوزير ادريس البصري في التاسع من نوفمبر 1999م، وكان لذلك دلالات كبيرة في حينها.

رفع علم ما يسمى بـ 'الجمهورية الريفية' في حراك الريف

ماذا يمثل الخطابي بالنسبة لأهل الريف؟ بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال، ذاعت شهرته في بلاد الريف، وترسخت زعامته فاتجه إلى تأسيس دولة؛ لذلك دعا القبائل إلى عقد مؤتمر شعبي كبير تُمثَّل فيه جميع القبائل لتأسيس نظام سياسي، واتخذ أول قرار له وهو إعلان الاستقلال الوطني وتأسيس حكومة دستورية جمهورية في سبتمبر 1921م، وتم وضع دستور لجمهورية الريف.

وحين تمكن الخطابي من أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة 1925م وصادر أملاكهم، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي منهوكا في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع هو الخطابي، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، كان يسكنها مليون مغربي.

كما اختارت 'الجمهورية' علما لدولتها أرضه حمراء تتوسطه نجمة خضراء سداسية ضمن هلال في رقعة بيضاء على شكل معين. وهي الجمهورية الأمازيغية الوحيدة التي تأسست في العصر الحديث. وقد أعلن الخطابي أن أهداف حكومته: عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الإسبان عن جميع ما احتلوه، وإقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، والاستفادة من الفنيين الأوروبيين في بناء الدولة، واستغلال ثرواتها؛ فشجع بعض شركات التعدين للعمل في الريف حتى قيل بأن تأييد بعض الأوساط الرأسمالية له في أوروبا إنما كان سببه ارتباط مصالحهم بمشاريع في الريف، كذلك تحول رجاله المقاتلون إلى جيش نظامي، له قواده ومقاتلوه من الفرسان ومشاة المدفعية، وعهد بالوظائف الفنية إلى المغاربة الذين سبق لهم الخدمة في الجيش الفرنسي، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية والإفادة من بعض وسائل الحضارة العصرية، وأرسل الوفود إلى العواصم العربية ليحصل على تأييدها، وطلب من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بدولته. ب

في المقابل، لجأ الفرنسيون والإسبان إلى محاصرة الريف، ثم قاموا بتوجيه دعوة إلى القبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو إسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي نفسه مضطرا لوقف القتال قبل أن تلتهم رجاله الحرب. وبدأ حينها بعض الفقهاء يَنْعتون محمد بن عبد الكريم الخطابي (بالروكّي الثاني) 'مثير الفتنة' الذي عكّر صفو مهادنتهم للاستعمار.

ثم نفي الخطابي إلى جزيرة لاريونيون النائية في المحيط الهادي. وفي عام 1947م قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لتضغط به على الملك محمد الخامس لصرفه عن مطالبته الدائمة باستقلال المغرب. وعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في 1963م.

وكانت أحداث 1959م بالريف، لاسيما ما قامت به قبائل آيت ورياغل التي صعد رجالها وشبابها إلى الجبل احتجاجا على جملة من تجاوزات وممارسات لأحد رجال السلطة عُيّن لتدبير شؤون العباد بالمنطقة والقيام عليها باسم الملك، نقطة البداية. وتكرس هذا المنحى بفعل تهميش المنطقة وإخراجها عن نطاق دائرة التنمية التي عرفتها البلاد.

وحين استولى المتمردون الريفيون على ميناء الحسيمة، أرسل المرحوم محمد الخامس ولي عهده الأمير الحسن في يناير 1959 م معززا بـ 20 ألف رجل من الجيش النظامي المغربي. وقد سقط في هذه الأحداث بفعل تدخل طيران الجيش المغربي عشرات القتلى. كان زعيم انتفاضة الريف الثانية هو المّيس نرحاج سلام أمزيان قبل أن يطلب لجوءه السياسي إلى هولندا.

توقفت حركات المتمردين، لكن الجيش ظل بالريف إلى حدود أكتوبر 1962م، ما ساعد الحكومة التي كان يقودها حزب الاستقلال حينها على ارتكاب تجاوزات خطيرة في حق الأمازيغ بالريف، خصوصا أعضاء جيش التحرير.

ونرى اليوم كيف أن متزعمي حراك الريف عادوا إلى رفع علم 'جمهورية الريف' في تحد سافر للدولة المغربية مادام أن كل المسيرات كانت خالية من وجود العلم المغربي المعروف، الذي يجمع كل المغاربة من طنجة إلى الكويرة. ولا يمكن أن يحدث ذلك بالصدفة إلا إذا كانت قيادة 'حراك الريف' قد أمرت بذلك، بل وقد تكون توعدت بالعقاب كل من يحمل العلم المغربي في المسيرات.

هنا نطرح العديد من الأسئلة على من يدعي أن متزعمي 'حراك الريف' ليسوا 'انفصاليين' وإنما هم يطالبون بحقوق اجتماعية واقتصادية تحت مظلة علم يحيل على الانتماء والهوية الأمازيغية. إن كان الأمر كذلك، فالعلم الثقافي الأمازيغي (الأزرق والأخضر والأصفر يتوسطه حرف الزاي في اللغة الأمازيغية) كان يكفي، وربما جلب للمحتجين مزيدا من التعاطف. ففي بعض الدول يمكن أن تجد علما محليا ذا صبغة ثقافية، مثلا، إلى جانب العلم الوطني. أما أن يغيب العلم الوطني تماما فهذا يصعب تبريره. وأرجو أن أكون مخطئا بخصوص هذا الأمر.

وهنا أسرد قصة حين كنت أدرس بجامعة السوربون بباريس؛ إذ صادف تواجدي هناك خروج الفرنسيين عن بكرة أبيهم سنة 2000 يحتجون على مرور لوبين الأب إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية. وحمل الفرنسيون من أحزاب اليسار شعار 'نعم للسارق.. لا للعنصري'، في إشارة إلى أنهم سيتصدون للوبين (اليمين المتطرف) وسيصوتون لجاك شيراك، رغم أنه كان متابعا في قضية تحويل أموال لحزبه حين كان عمدة لباريس وكذا استفادة أحد أفراد عائلته من تذاكر طائرة مجانا سددت من المال العام.

وأنا أشارك في المسيرة، رغم أن الأمر لم يكن يعنيني كثيرا، وجدت نفسي بجانب نيكولا ساركوزي الذي كان يشغل وزيرا للداخلية آنذاك، تفصلني عنه خطوة واحدة.. وسمعته يستفسر أحد أعوانه بالسؤال وهو محتد ومنفعل: "ماذا قلت: يحملون علما غير العلم الفرنسي؟ من وكيف؟" وأجابه الآخر: "لا، الأمر يتعلق ببعض المراهقين الجزائريين خرجوا من ملعب لكرة القدم كانوا يحملون العلم الجزائري لا أقل ولا أكثر'. هذه فرنسا الحريات يا سادة!

الأيادي الخفية الخارجية والخروج عن الجماعة

العديد انتقد أو استهجن ما ذهب إليه بعض المحللين السياسيين في تحليلاتهم من أن هناك افتراضا يربط بعض زعماء حراك الريف بالتشيع أو بجماعات جهادية سلفية. وبعيدا عن تخوين الشرفاء من أهل الريف، أتساءل: ألا تظنون أن إيران تسعى جاهدة إلى اختراق المغرب ومن تم دول إفريقيا الغربية التي تدور في فلكه الديني؟ ألا تظنون أن الجهاديين السلفيين يتحينون الفرصة لزرع البلبلة في المغرب بعد ما فشلوا في السابق؟ وحتى من دون أن يعي زعماء حراك الريف ذلك، تأكدوا أن خفافيش الظلام موجودون بطريقة أو أخرى يدبرون لاستهداف المملكة المغربية.. وربما لن يعي المغاربة ذلك إلا بعد فوات الأوان. وهؤلاء الذين يجتمعون في هولاندا وبلجيكا وإسبانيا... من وراءهم ومن يمولهم على المستوى اللوجستيكي؟ وربما تدخلوا مباشرة حين يعطي من يحركهم الإشارة.

هناك قاعدة يثبتها التاريخ في المغرب: الخروج عن الجماعة كأداة للاحتجاج ضد النظام الحاكم. حين تعرض الأمازيغ للعسف والظلم في عصر الدولة الأموية ذات العصبية العربية، حتى روي أنهم ضربوا الجزية على من أسلم من أهل المغرب الأمازيغ، بدؤوا يقيمون دويلات خارجة عن دين الجماعة في المشرق، كالدولة الرستمية الإباضية في المغرب الأوسط، ودولة بني مدرار الصفرية في سلجماسة.

وفي الشمال، في منتصف القرن الماضي جلبت البهائية إلى محيطها عددا من المثقفين الشباب والمهنيين (خاصة بمدينة الناظور). وهم في الواقع أبناء طبقات شعبية متواضعة ثاروا على الإسلام المالكي الرسمي الذي كانت تنهجه البلاد. وفي مقال لاذع بجريدة حزب الاستقلال اتهِم البهائيون حينها بمحاولة قلب النظام.

وفي 16 دجنبر 1962 م حكمت محكمة الناظور بالإعدام على ثلاثة من عناصر البهائية وخمسة بالسجن المؤبد وفرد واحد بالسجن مدة عشر سنوات. وفي محاولة منه لقطع الطريق أمام الاستقلاليين لربح نقط إضافية تزكي مكانته لدى الملك، انتقد رضا كديرة في جريدته (Les Phares) الأحكام واعتبرها مسا بالحريات الدينية، وقد تمس بعد ذلك كلا من المسيحيين واليهود بالمغرب.

وفي دجنبر 1963م راجعت المحكمة أحكامها، بعد أن تدخل المرحوم الحسن الثاني، لتخلص إلى أن القانون المغربي لا يتحدث عن تغيير المعتقد الديني. وقد أحدثت قضية البهائية بالشمال حرجا لحكومة الاستقلاليين دفعت بالملك حينها إلى التلويح بتغيير الحكومة.

ألا يعيد التاريخ نفسه اليوم حين يهجر الريفيون المساجد في رفض للإسلام الرسمي؟

المغرب يتقدم لكن يجب رفع وتيرة الإصلاحات

حين دخل الجنرال اليوطي المغرب في بدايات القرن العشرين، قال: 'في حين كنا بالجزائر أمام غبار حقيقي... فبالعكس وجدنا أنفسنا بالمغرب أمام إمبراطورية تاريخية ومستقلة تغير حد الهوس على استقلالها وتتمرد على كل أنواع الاستعباد. وحتى سنوات قريبة، كان المغرب يشكل دولة تحكمها تراتبية الوظائف، ولها تمثيليات في الخارج. في المغرب يوجد حتى الآن أناس كانوا يمثلون بلدهم في ستراسبورغ ولندن. رجال لهم حظ من الثقافة تعاملوا الند للند مع رجالات الدول الأوربية. هذا طبعا ما لم نصادفه في كل من الجزائر وتونس'.

هذه المملكة المغربية بشهادة المقيم العام الفرنسي قبل قرن من الزمن. ثم حصلنا على الاستقلال ومرت فترة المرحوم الحسن الثاني بما ذكرنا بعضه أعلاه ووضعناه في سياقه. وفي خضم الربيع العربي، اختار النظام المغربي طريقا ثالثا وأشرك جميع الفرقاء السياسيين في الإصلاحات، بهدف الحفاظ على الاستقرار، وكان من نتائج ذلك دمج الإسلاميين المعتدلين في دواليب تسيير البلاد.

وقد أزعجت هذه الاختيارات السياسية في المغرب الصديق قبل العدو؛ ذلك أن عددا من الدول العربية المحافظة، ظلت تنظر إلى قبول المغرب بإدماج الإسلاميين المعتدلين في تسيير الحكم بنوع من الامتعاض. وإبان الربيع العربي، اختارت بعض الدول إسقاط أنظمتها السياسية المتسلطة في حين ارتأت دول أخرى الحفاظ على الوضع الراهن.

ومع ذلك، فإن المغرب راهن على التغيير من خلال انتقال سلمي هادئ. والظاهر أن العديد من المحللين الأجانب (بمن فيهم العرب) لا يفهمون خصوصيات الواقع السياسي المغربي ولا يستحضرون الاستثناء المغربي حين يلجؤون إلى توصيف الوضع المغربي.

فمن قائل إن 'الإخوان' في المغرب سيندحرون خلال سنة أو سنة ونصف، ومن زاعم أن شؤون الدولة أضحت خارج تحكم القصر، إلى متشكك في النظام المغربي. كل هؤلاء لم يستسيغوا التحول الحقيقي الذي شهده المغرب، ولم يستوعبوا طبيعة الميثاق الاجتماعي المنسوج بين الملك والشعب بجميع أطيافه المدنية والسياسية والعسكرية والمخزنية. تعاقد اجتماعي يعتمد على تحول سلمي يضمنه حوار يشرك جميع الفرقاء تحت وصاية حكيمة (ملكية، سياسية أو مدنية، لا عسكرية متوحشة) لقطع الطريق أمام التكفيريين والمروجين للانفصال تحت يافطة الإثنية المقيتة.

أظهرت ظاهرة الربيع العربي أمرين اثنين: أولا، ضرورة التغيير، وثانيا، المخاطر ذات الصلة بزعزعة الاستقرار. ولا ندعي أن المغرب قد نجح خلال السنوات الست الماضية في حل هذه المعادلة المرتبطة بالتغيير في ظل الاستقرار. لا زالت هناك تحديات أمام المغرب من أجل بناء توافق في الرأي السياسي والحفاظ على التماسك الاجتماعي وتحقيق العدالة في فترة انتقالية مع تجنب تلك الاضطرابات الخطيرة التي يمهد لها اليوم 'حراك الريف'، خصوصا إذا تبث أن هناك أياد خفية تحرك الأمور من خارج الوطن.

صحيح أن الحكومات والأفراد ومجموعات المجتمع المدني تعيش اليوم في المغرب مستويات عالية من التعددية والمشاركة السياسية، وإلا كيف نفسر أن المخزن المغربي سمح لحراك الريف أن يستمر لأكثر من سبعة أشهر قبل أن ينفجر الوضع. لكن هذا المشهد المعبر عن نوع من الديمقراطية والحرية مغلفتين بغلاف شعبوي تتهدده النزاعات المستمرة، وعدم الاستقرار، والفوضى الاجتماعية. نعم، إن الثورات العنيفة يمكن أن تتحقق فجأة، ولكن حدوث تغيير سريع في النظام قد لا يجلب الاستقرار تلقائيا، بل العكس هو الوارد.

وفي ما يخص الأحزاب، نعلم جميعا المحطات التي عرفها المسار الديمقراطي المغربي عبر طبخ الهيئات الإدارية بُعَيْد الاستقلال، ثم الانفتاح على الأحزاب الوطنية ذات الشرعية التاريخية، خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية مع نهاية تسعينات القرن الماضي، وصولا إلى القبول بإدماج إسلاميي العدالة والتنمية في تسيير الشأن العام.

والواقع أن هذا التوافق السياسي لم يمنع المَخْزَن من التحكم في السياسات العامة للبلاد، فرغم أن دستور 2011م جاء لتقوية دولة الحق والقانون، إلا أن تشابك السلطات يجعل أي حزب يصل إلى الحكومة غير قادر على تطبيق أجندته الانتخابية، وبالتالي الرضوخ لما تمليه "حكومة الظل'.

وقد قلت وأعيد القول بضرورة إنجاح تجربة الإسلاميين في المغرب، لما يطبعها من استثناء جنب المملكة المغربية تبعات تلك الرجة التي عرفتها التنظيمات الإسلامية في دول عربية أخرى، وما نتج عن ذلك من تقاطب ومواجهات كادت في بعض الأحيان أن تأتي على الأخضر واليابس.

نعم، إننا نعلم العلاقة الصعبة القائمة بين حزب العدالة والتنمية من جهة، والمَخْزَن وأحزاب المعارضة من جهة أخرى. إننا نعلم، وإن نجح "البيجيدي" في ركوب موجة الربيع العربي للصعود إلى الحكم، أن المَخْزَن لا يرى في هذا الحزب سوى ورقة تهدئة ظرفية للحفاظ على استقرار الحكم في البلاد لفترة.

لكن، ومع ذلك، يجب على المغاربة أن يثمنوا مشاركة جميع أبناء الوطن في المجال السياسي كيفما كانت طبيعة مشاربهم السياسية وأفكارهم متى احترموا ثوابت الأمة المغربية. ومن أهم هذه الثوابت صفة إمارة المؤمنين لملك المغرب التي تنأى بالمجال الديني عن الصراع السياسي وتقوي دور الملك التحكيمي كلما دعت الضرورة ومصلحة البلاد لذلك.

من هنا أهمية المضي قدما في تبني وتقوية "الإسلام المغربي" المعتدل، الذي يمتح من المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، بالإضافة إلى التصوف. إن هذا النموذج كفيل بأن يحافظ على الأمن الروحي للمغاربة، بل وأضحى صمام أمان أمام التيارات الدينية المتطرفة، مما دفع بعض الدول الأفريقية والأوروبية إلى إبداء رغبتها القوية في استيراده من المملكة، وطبعا المسألة لا ترتبط فقط بالجانب الروحي، وإنما أيضا بالجانب الأمني الذي يحفظ الأمن والاستقرار في المغرب.

يجب على المغرب اليوم أن يعمل على أكثر من واجهة لترسيخ اختياراته: (أ) ضمان استقرار سياسي واقتصادي، (ب) انخراط مستمر في الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى، (ج) العمل المتواصل من أجل تثبيت البلاد كحلقة وصل بين أفريقيا وأوروبا، (د) الفصل بين السلط، وتعزيز المساواة المدنية وحقوق المرأة، وتوسيع الحريات الفردية، وتوسيع حرية التعبير، والاعتراف بالحقوق الثقافية للأقليات، والحد من تراكم المسؤوليات، وتعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات العامة، وحماية الحق في الاحتجاجات السلمية.

كما يجب على الحكومة المغربية أن تمضي قدما في إصلاحات من قبيل تعزيز الجهوية واللامركزية في الحكم، واستقلال القضاء، وتعزيز الحكامة في التسيير الحكومي.

أما في المجال الاقتصادي، فجب التركيز على تنويع الشركاء وتعزيز الطلب المحلي من خلال دعم البنيات التحتية وتحسين القدرة الشرائية، بالإضافة إلى تقليص نسبة البطالة وتوزيع الثروات والاستثمار بالتساوي على جميع جهات المملكة، والريف جزء من المملكة.

بالطبع لا يزال هناك الكثير مما ينبغي إنجازه بشأن عملية الديمقراطية في المغرب؛ إذ لازال يلاحظ بعض الخلل في مركزية السلطة والاستئثار بصنع القرار، وعدم المساءلة في الكثير من المؤسسات العامة، وهشاشة الهيئات التمثيلية مثل الأحزاب والنقابات العمالية، وقضايا الفقر والأمية، والفشل في الوصول إلى نمو اقتصادي تعمم نتائجه على جميع المغاربة دون استثناء، وتقويض قضية الفساد، وتحديث المخزن الذي لا زال يعتبر كنظام بيروقراطي متجبر في بعض الأحيان ومبهم في الكثير من الأحيان، وأخيرا مشكل الصحراء المغربية المفتعل، الذي يقف حجر عثرة أمام الاندماج المغاربي. ومع ذلك، فإن البلد هو بالتأكيد على الطريق الصحيح من أجل تحقيق تغيير جوهري على المدى القريب والمتوسط.

وأخيرا، أظن أن المغاربة قد حسموا في اختيار طريق يعتمد على انتقال سلس نحو ديمقراطية تدريجية لا ثورة مفاجئة قد تأتي لا قدر الله على الأخضر واليابس، خيار ينبذ التقاطب الاجتماعي، خيار يرفض العنف الذي قد يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، خيار يرفض الركود الذي يفرض الأمر الواقع ضدا عن إرادة الشعب. نظامنا يرتكز على ملكية دستورية يجب أن تسعى إلى بناء دولة الحق والقانون، دولة تسع جميع أبناء المغرب (عربا وأمازيغيين وصحراويين ومورسكيين وأفارقة ويهودا).
*أستاذ باحث بجامعة جورج واشنطن الأمريكية صاحب كتاب 'الأمازيغ: قصة شعب"