قضايا

الفن والدين أو عندما فرق القرآن بين الفن الهابط الساقط والفن الجميل الراقي

الصادق العثماني


إن لغة الكلام ليست هي الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يوصل رسالته الإنسانية من خلالها إلى العالم، أو ليعبر عن همومه وآماله وطموحاته..علما أننا لا ننكر أن اللغة والكتابة والقراءة كانت من بين أَهَمّ ما ابتكره الإنسان، مِمَّا أتاح له أن يَخْتَبِرَ قيمةَ الأشياء، وطبيعةَ علاقتِه، بهذه الأشياء، وِفْقَ رؤيتِه لها، لكن الفن أو الفنان له لغة أخرى يتواصل بها مع العالم، وهي لغة عالمية يفهمها الجميع بدون واسطة أو ترجمان محلف، صحيح أنَّ الوعي بالفن وأهميته ودوره الفعال في تهذيب مشاعر الإنسان وأحاسيسه جاء متأخرا عند المسلمين،

بحيث اصطدم بالمفهوم الخاطئ للدين من قبل بعض العلماء والمشايخ والدعاة الذين اعتبروا الفن وجميع أنواعه من تصوير ورسم ونحت وتمثيل وغناء إنما هو رجس وعمل من أعمال الشيطان وبالتالي فهو حرام ولا ينبغي على المسلم الاشتغال به أو التعاطي معه أو ممارسته، مع أن الفن والدين كلاهما يتنافسان على الخير وتهذيب القلوب وتزكيتها، وكلاهما يحاولان تقديم رسالة جميلة لهذا العالم، وكلاهما يخدم الآخر، فالفن خادماً للدين يرسم له المحاريب ويزين له سقوف المساجد والمعابد والكنائس، كما يزين له أغلفة المصاحف والكتب المقدسة والرسائل الدينية والدعوية، بالإضافة إلى تجويد الحروف والنصوص.. ولهذا كانت دائما مسيرة الفن والدين واحدة، وخاصة في العصور المتنورة، فلم يرفض القرآن الشعر ولا الفن بإطلاقه، وإنما جعل من الفنانين فريقين، فريقاً من أهل الكذب والنفاق والسمسرة والهوى، وفريقا من أهل الصدق والإيمان والحق، يهدف من فنه تبليغ رسالة هادفة إنسانية جميلة،

وكلنا نعلم من السيرة النبوية الشريفة أن النبى عليه الصلاة والسلام استمع إلى شعر الخنساء واستزاده واستحسنه، كما أن القرآن فرق بين الفن الهابط الساقط والفن الجميل الراقي، وهو ميزان ينطبق على كل فروع الفن، ولهذا ينبغي -قدر المستطاع- مسح الصورة الذهنية النمطية الشائعة لدي الكثيرين من المسلمين هي أن الفن لا صلة له بالدين وبالقيم الجميلة، فهما موضوعان مختلفان: فموضوع الفن هو "القبيح الماجن" حسب زعمهم الذي يتم إبداعه من خلال عمل أو فعل إنساني يقع على الطبيعة أو المادة: كالحجارة واللون والصوت..؛ أما موضوع الدين فهو الحلال الطاهر "المقدس" وهو يقال في مقابل المدنس،

وهذا الاختلاف يبلغ أحيانًا- عند المتطرفين - حد الخصومة والعداء من جانب الدين للفن، فبنظرة بسيطة عن أحوال العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان تخبرك ما يفعله المتطرفون للفن والفنانين والمتاحف التراثية هناك، حتى تعلم مدى الجهل المطبق الذي وصل إليه بعض المشايخ في أوطاننا العربية والإسلامية تجاه الفن وأهله إلى حد التكفير والقتل ! وهذا التصور الخاطئ ناتج عن فهم ضحل أو مغلوط لا يفطن إلى ما هنالك من صلة حميمة بين الفن والدين؛ فالفن والدين في الأصل مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ فهما موضوعان ملتحمان في الوعي الإنساني منذ أن حاول الإنسان عبر التاريخ التعبير عن نفسه من خلال أنشطته المختلفة، فقد استمرت رسالتهما معا في تناغم وانسجام وعبر تاريخهما الطويل، ومن يزرع الفتنة بينهما الآن كمن يزرع العداوة والبغضاء بين الإخوة الأشقاء .