رأي

عبد الغني القاسمي: " جمهورية الريف " عنوان لمرحلة هامشية دفنها التاريخ

وصف المؤرخ الاسباني ريكاردو دي لا ثييربا ما حدث في حرب الريف غداة انتصار الزعيم عبد الكريم الخطابي و المجاهدين التابعين له في معركة أنوال في ماي من سنة 1921 بالانتكاسة غير المسبوقة لاسبانيا و حلفائها الأوروبيين و على رأسهم فرنسا ، و برر الهزيمة بكون أوروبا عموما كانت في تلك الآونة لا زالت تئن من تداعيات الخروج من الحرب العالمية الأولى ، وكذا الضغوط التي أخذ يفرضها اندلاع الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 التي اتسمت بمعاداتها للعالم الرأسمالي الامبريالي الاستعماري حسب أدبيات اليسارالتي لقيت رواجا في الصراع بين الايديولوجيات الذي طبع القرن العشرين ، و قد اغتنمت بعض المستعمرات هذا الارتباك الأوروبي فانتفضت ضد محتليها مطالبة بحقها في استعادة الحرية و الاستقلال ، و منها منطقة الريف بشمال المغرب التي اشتعلت فيها ثورة تاريخية تزعمها بطل بطل معركة أنوال الشهيرة محمد بن عبد الكريم الخطابي .
نفس المؤرخ أولى اهتماما خاصا بما سماه مرحلة تجسيد شخصية الزعامة الخطابية على بساط الواقع السياسي بمنطقة الريف بتأسيس ما أصبح يعرف ب " الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف " التي كان لها علمها الخاص غير علم المملكة المغربية ، كما أن لها دستورها و برلمانها و حكومتها وجيشها و حرسها الرئاسي وعملتها الوطنية المسماة ريفان و عاصمتها أجدير ، أما الحسيمة فلم تكن أنذاك مدينة بكامل المعنى و المبنى لمصطلح المدينة ، بل مركزا يحتوي فقط على ثكنات و مستودعات عسكرية و ميناء حجريا صغيرا مخصصا لرسو سفن البحرية الاسبانية ونقل العتاد الحربي ، و اسم هذا المركز الذي أقامه الاسبا ن لضرورة خوض الحرب هو بيا سنخورخو أي باسم الجنرال الذي احتل المنطقة و بسط نفوذه عليها بقوة السلاح و الولاء للسلطة المركزية في مدريد .
جمهورية الريف هاته تأسست يوم 18 شتمبر من سنة 1921 أي بعد حوالي خمسة أشهر من الانتصار في معركة أنوال ، و قد جمع الخطابي أو مولاي امحاند في مهامه بين رئاسة الجمهورية و رئاسة الحكومة ، غير أنه تنازل سنة 1923 لرفيقه الحاج الحاتمي عن رئاسة الحكومة ، و كان حنق الاسبان و حلفائهم قد ازداد في تلك الفترة ، خصوصا بعد مساندة الفاتيكان لهم و اعتبار الكنيسة لحرب الريف أنها مقدسة و تستهدف ضرب نخوة المسيحيين في الصميم ، و حتى التصعيد العسكري للاسبان كان مؤثرا للغاية على امكانية استمرار الجمهورية الريفية قائما من عدمه ، و حسب المؤرخين ومتابعي أحداث حرب الريف و منهم بيدرو توندا بوينو ( صاحب كتاب أنا و الحياة المنشور سنة 1974 ) فقد استعملت الغازات السامة في مواجهة مجاهدي الريف ، كما استعملت كل وسائل الدمار و التخريب التي كان متعارفا عليها آنذاك ، مما جعل الزعيم الخطابي يسقط في قبضة الاسبان و الفرنسيين ، حيث تم نفيه الى جزيرة لا ريونيون الواقعة جنوب مدغشقر و معه أفراد عائلته و في مقدمتهم أخوه محمد و عمه عبد السلام ، و بذلك أسدل الستار على حرب الريف و تقرر حل جمهورية الريف يوم 27 ماي من سنة 1926 .
و في أعقاب ذلك ، مرت 21 سنة على الزعيم الخطابي وهو يعاني من الغربة و العزلة عن العالم في تلك الجزيرة النائية ، الى أن قررت السلطات الفرنسية بتنسيق مع نظيرتها الاسبانية نقله الى فرنسا بعد أن تأكد لها أن الرجل لم يعد يشكل أي خطر عليها و ليس بامكانه النزول الى الميدان من جديد لعدة أسباب شخصية و موضوعية ، و أثناء مرور الباخرة التي كانت تقله في اتجاه فرنسا عبر قنال السويس سنة 1947 طلب الزعيم المغربي من السلطات المصرية السماح له بالاستقرار في أرض الكنانة فرفع الطلب الى الملك فاروق الذي استجاب له على الفور ، وذكر الصحفي المصري المرحوم مصطفى أمين أن استجابة الملك لم تكن لتتم دون تنسيق محبوك بدقة و في سرية تامة مسبقة للملك المصري مع فرنسا و اسبانيا على الخصوص ، و من جانب أخر يسجل التاريخ على الزعيم الخطابي أنه دفن مشروع الجمهورية الريفية التي لم تعد تشغل باله و تفرغ أثناء اقامته بمصر للاشراف على مكتب تحرير المغرب العربي ككل و ليس كأجزاء ، أي أن الخطابي وهو في القاهرة كان وحدويا حتى النخاع و قطع مع الماضي حتى يضع حدا لكل التأويلات المغرضة التي لازمته فيما مضى ، رحم الله الزعيم الخطابي و أسكنه جنات النعيم التي وعد بها خير عباده .