قضايا

القيم المستفادة من شهر الصيام

امحمد الخوجة

إن شهر رمضان هو شهر عبادة بامتياز، شهر تفارق فيه البطون والفروج لذتها نهارا، ليسهل على المرء الاتصال بالذكر وترويض اللسان والعين وجميع الجوارح على الخضوع، والانصياع، والاستسلام لأوامر لم تتكرس طيلة السنة.

فإذا كان الجسد يحتاج إلى غذاء مادي، فإن الروح أيضا تحتاج إلى غذاء معنوي يتجلى في ترك المعاصي، والتدريب على ذلك مدة شهر من الزمان، تلك المدة هي أشبه ما تكون بدورة تكوينية يمكن أن يسير المرء على منوالها طول السنة، أو على الأقل أن تتشرب نفسه بمباديء وقيم تجعله يسمو عن المطالب البهيمية المستمرة والتي لا تتوقف.

ولعل القيم الظاهرة والتي يمكن أن تستفاد من رمضان هي أكثر من أن تحصر، كالصبر والإكرام والحلم...، ولكن عند التأمل نجد أن كثيرا من القيم تبدو خفية مع أنها قيم عظيمة، من بينها.

أولاـــ الرحمة :

قال الحق عز وجل:" يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" سورة البقرة الآية 183، فما علاقة هذه الآية بالرحمة؟؟؟ إن المتدبر سيجد أن العلاقة بين هذه الآية والرحمة علاقة وطيدة جدا، لأن الحق عز وجل فرض الصيام على المسلمين كما فرضه على الأمم السابقة ولكن المدة الزمنية للصيام اختلفت عند المسلمين رحمة بهم، لأن تلك الأمم كانت تواصل الصوم فإذا ما أفطروا فلا يأكلون ليلا ولا يشربون ولا يلامسون امرأة.

لذا فإن تلك الآية منسوخة بقوله تعالى:" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر..." البقرة الآية 167، وبالآية التي تقول" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم" البقرة الآية 167، ومن تم يظهر جليا أن الأكل والشرب والجماع جائز ليلة الصيام وهذه رحمة ما بعدها رحمة، فإذا كان الحق سبحانه نسخ حكم تلك الآية لمصلحة العباد، فإنه جدير بالعباد أن يرحموا بعضهم إذا ما رأوا المصلحة تجر نفعا لإخوانهم.

ثانيا ــ التضامن والتعاون:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من فطر صائما كان له مثل أجره" هذا الحديث قمة في الدعوة إلى التآزر، والتكافل في شهر رمضان ولكن جذور الكرم والإطعام، قد تمتد إلى غيره من الشهور خصوصا إذا اعتبر الإنسان أن رمضان هو بمثابة مدرسة، والمدرسة كما هو معلوم تعلم، والتعلم هو تغير في السلوك مع ترك التمثلات الخاطئة، خصوصا ونحن نعلم أن النعم هي حق مشترك بين أفراد الناس، لذلك حث الشرع على الصدقة، والهبة والزكاة...

وإذا كانت قراءة القرآن تكثر في هذا الشهر، فلنتأمل تضامن أبسط المخلوقات، وتعاونها، وتآزرها، قال رب عز وجل:" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون" النحل الآية 68 ، فحشرة النحل على صغر حجمها استطاعت أن تتحد وتتعاون لتسكن في أوعر الأماكن، والإنسان رغم ما أودع الله فيه من مميزات عقلية، لم يستطع أن يستقر على وجه الأرض الفسيح، دون حروب وقتال ودمار.

وهنا نود أن نلفت الانتباه ونطرح السؤال، لماذا صارت المباني والمساكن والمنازل متفرقة، بل إن الأحياء في المدينة الواحدة أصبحت تتميز عن بعضها، فهذه مساكن متوسطة وأخرى متواضعة جدا، وثالثة مساكن فاخرة، مما جعل " التميز" يستشري في المجتمع، على خلاف شكل المدن القديمة التي لن تستطيع من خلال النظرة الأولى أن تفرق بين مساكن الفقراء والأغنياء، ونظرة واحدة لمدينة فاس القديمة مثلا، تكفيك لتعلم أن صور التضامن والتآزر والتعاون تعكسه أسوار المباني.

ثم تأمل قوله تعالى:" قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" النمل الآية18 ،والسياق يشير من قريب إلى أن ذاك درس موجه إلى نبي الله سليمان، خصوصا وأنه كان يقود جيشه، فهي دعوة إليه صراحة ليوجه الأوامر التي تعين على إنقاذ الأرواح، قبل الزج بالجنود في المعارك والحروب.

ثالثا ــ طلب المشورة وإبداء الرأي:

قال الحق عز وجل:" وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله" آل عمران الآية 159 ، ما علاقة هذه الآية بالصيام؟؟؟ الآية تحث على التشاور، وهذا يذكرنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأصحابه يوم بدر والتي جرت أحداثها في رمضان:" أشيروا علي"، لقد طلب الرسول وهو خير الخلق أجمعين المشورة من الصحابة الذين هم في الواقع ليسوا مجرد أناس عاديين، فأدلوا بآرائهم التي وجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى اتخاذ القرار النهائي، وما خاب من استشار.

فإذا كان رسول الله يستشير أصحابه، ـــ وهو الذي كان من الممكن أن يستمد المدد الرباني من ربه ــ، فإن الرئيس أولى بأن يستشير مرؤوسيه، والزوج محتاج لرأي زوجته، ووجهة نظرها في الموضوع، والأب جدير بأن يشاور أبناءه، والمدرس في أمس الحاجة لمعرفة أراء تلاميذه...ولا يتمنعن أحد من ذلك كونه بلغ شأوا بعيدا في العلم، والمعرفة، ومقارعة التجارب، لأنه تبث أن سأل سائل عن مكان العلم، فأجابه حكيم: هو عند كل الناس.