رأي

مصطفى غلمان: خوان غويتوصولو .. مضى وفي غصته شيء من مراكش

في بيت متواضع ظل خوان غويتوصولو وفيا لعادات ناس القنارية أحد أقدم أحياء مراكش ، يمشي في الأسواق ويسلم على الجيران ويحتسي صباح كل يوم شايه المفضل في أشهر مقاهي ساحة جامع الفنا، معشوقته الأبدية.

خوان السارد الذي لا يداهن، المليء بالحكايات وهموم البشرية، المنافح عن القضايا العادلة، المكابد في زمن الأحقاد والخيانة، لم تسعفه الحياة ليصنع من الساحة السحرية أجمل أساطيره الملهمة، فاجأه الردى وهو يهيم في فنائها يدعو للأمل أن يسور نبض اقترابه ليحف إحساسا باردا يتوجسه خيفة عاقبة منذورة للقلق والارتياب!

صارع خوان سنوات لأجل تحويل الفضاء المراكشي العالمي إلى بؤرة للفرح والكتابة والعشق. أغدق من عمره زهرات الدنيا من أجل أن ينحت على صخر تحديه كينونة الساحة الشهيرة وهي تنتشل من أدران تاريخ ناحب يتسربل تحت قهرية محدقة وفجائعية مهدرة قد تسرب اليأس إلى أوارها، وتقلبت فيها عواصف الفوضى وتربصات البشر.

في صبيحة أحد أيام صيف1999 التقيت خوان غويتوصولو بمنزله الهادئ، حيث سار حديث طويل حول تاريخ مدينة المرابطين وساحتها، تطور الحوار إلى أعماله الإبداعية التاريخية "ألعاب الأيادي" و"علامات هوية" و"مقبرة " و"برزخ" ..

وككل باحث عن فرصة لأثيل انسراب رجل من قيمة غويتوصولو اقترحت إجراء مقابلة صحفية لم تنته رحلتها، بسبب سفر أدبي طارئ لبرشلونة.

وتكرر اللقاء مرات أخرى رفقة الناقد المترجم محمد آيت لعميم والكاتب المترجم عبدالغفار السويرجي، دون أن ينطق الزمن باكتمال فكرة الحوار، التي ظلت عالقة بين رغبة ورهبة!

وعلى غير موعد تعزز نفس المشهد وبشكل يكاد يكون غالبا، وفي دروة النقاش المحموم الذي كرس حضورا لافتا لتأهيل ساحة جامع الفنا وإعادة هيكلتها، كان غويتوصولو الأكثر حضوة وتفاعلا مع الموضوع إياه، ما أكسبه مصداقية ومنطقا توافقيا لكل الداعين لذلك، فكان الدائرة التي تحوطها كل علامات الرضى، والواجهة المكينة التي تستقطب الحلقات والنقاشات المستفيضة، والتي جرت أغلب أطوارها في مقهى فرنسا التاريخية قبالة ساحة جامع الفنا.

أعترف أن الرجل الذي استهوته الدارجة المغربية ولكنتها المراكشية كان وعاء لكل أحلامنا المؤجلة، نحن شباب ثمانينات القرن الماضي، المدججين بخطابات اليسار وملاذات التغيير الجدري للعقليات البائدة.

غويتوصولو الذي يختلف عن مواطنينا من أدباء وشعراء ومفكرين وإعلاميين، كان منصتا بارعا ذكيا لماحا سريع البديهة، متقدا ومنظما لدرجة الهوس. يباعتك بنظراته الثاقبة وقوة حجته، ويبادلك بلطف منقطع النظير مذاهب العقل وأسرار المنطق، غير متعصب ولا متقلب.

كان يتفاخر بكونه مراكشيا "ولد جامع الفنا" كما كان مغترا إيجابيا بتحدثه الطليق بلغة الضاد بالرغم من كونه إسبانيا.

وهذه هي نقطة قوته التي أكسبته شهرة واسعة بين مجايليه من الإسبان والألمان والسويسريين الذين عشقوا الحمراء وجعلوها مقاما لهم، إذ لم يستطيعوا الذوبان في نسيجها الثقافي والإنساني والمعرفي، والاقتراب من واقعها وإنسانها وطبيعة سيرانها في حلك الزمان وعاتياته.

ألهم غويتوصولو العديد من الأقلام العالمية التي زارت مراكش، وأحاط ساحتها الساحرة بعناية لا توصف، حيث استعاد من خلالها كيانا شفهيا إنسانيا لا ينضب، وروحا للسعادة المتنقلة، وقدرة على صناعة البهجة، فأبرق لليونسكو دعما لتضمينها صفة "التراث الشفهي الإنساني"، وهو ما زاد من دلالة وجودها كقيمة ورمز للحرية والسلام والمحبة.

وفي معرض حديثه عن سبب خوضه هذه المعركة قال :" إن ساحة جامع الفنا ليست وحسب موئلا للذاكرة الشعبية وفضاء للتراث الشفهي ليست هي وفقط متحفا لرجل يعشق القديم، بل إنها أيضا أفق المستقبل، مستقبل مراكش الذي يتطلع إليه سكان المدينة بكل الآمال والأماني. إن المدينة بغير الساحة لا أهمية لها".

وقال غويتوصولو :" إن الفرنسيين شيدوا برج إيفل، وهو اليوم يعتبر رمز العاصمة الفرنسية باريس وفرنسا ككل. أما ساحة جامع الفنا فتأسست عبر التاريخ تلقائيا من طرف المجتمع المغربي ليس بقرار إداري أو بإرادة سياسية وهي اليوم رمز مراكش بل رمز المغرب يجب احترامها وحمايتها وهذه مسؤولية الإنسانية ومسؤولية العالم ككل".

لا يحتاج غويتوصولو في مثل هذه المواقف لأكثر من إرواء شعوره العارم بحبه المسكر والمنيب لمدينة تتحرك في دواخله دون استئذان، فهو المستيقظ دوما على تغلغل مواقد حلقاتها، المرابط في جنبات أبطال روادها، ممن جادت به قريحة أحيائها الشعبية الباذخة، ك"فليفلة" و"مول لحمام" و"الصاروخ" و"باقشيش" و"برغوت" ...إلخ.

لكنه كان دائما مجادلا للصور الجديدة التي أضحت في السنوات الأخيرة تستبد بالساحة الأسطورية، حيث أضحى مطعمها التوسعي المفتوح شوكة في ظهر تاريخها وإنسانها وحلقاتها.

تبددت منيات غويتوصولو رويدا رويدا، ومعه تبدلت كل أبعاد الاحتفاء بالثقافة اللامادية التي كانت وازعا أساسا في رحلته الطويلة.

لم تعد ساحة جامع الفنا كما صاغتها أنامل أحلام غويتوصولو فسيحة منيعة مملوءة بالأهواء والتحف الإنسانية والتجريب الساخر وحكايا الجدات. شاخت وتمايل عودها.

في كل مرة يستهوي غويتوصولو أن يرى جامع الفنا وقد هده سراب العمر وأدارت المحنة جوانب من مروره الداكن جنبات الساحة، كان يجد صعوبة بالغة في الاشتداد مرة أخرى إلى الأصوات المنبعثة، ما بين الخيوط المتشابكة التي مزقتها علب المطاعم المتنقلة. يدفع به مساعده وهو الجالس على كرسي متحرك باتجاه رؤية واضحة لملامح حلقات مندثرة ومتوارية خلف جلبة الصراخ وأدخنة داكنة ، دون أن يعثر على أثر لساحة توارت إلى موات هديم.

كأنه كان يشعر بانتهاء الأجل .. وكأن معشوقته ساحة جامع الفنا أسرت إليه بلا جدوى الحياة، بعبث الامتثال لغربة تغدو سفرا في قائمة الشذر!؟

Ghalmanepresse@gmail.com