رأي

عبدالصمد بنشريف: منطقة الريف تستوجب "إصلاح التاريخ وتأهيل المجال"

-1-

الريف: التاريخ والدلالة والرمز

ليس هناك تاريخ مطلق خال من التعثرات والأخطاء، وليس هناك أمة متعالية عن التاريخ والمجال أو مفصولة عن مكوناتها الاجتماعية والثقافية ومقوماتها الاقتصادية، وهذا ما ينسحب في اعتقادي على المغرب كدولة وكمجتمع؛ لأن العلاقة لم تكن دائما مبنية على الثقة والاطمئنان المطلق، بل كانت هناك فترات حرجة ومراحل متوترة اختلطت فيها الأوراق، وتداخلت الأسباب والمسببات وتعددت الروايات، مثل ما حصل بالنسبة لأحداث 1958 بالريف، وهي أحداث استغلت بكيفية انتهازية وماكرة لتهميش المنطقة وتطويقها بكل أشكال اللامبالاة والإهمال.

ورغم تباين التفسيرات والقراءات والتباس الرؤى والمواقف حيال هذا المنعطف المفصلي من تاريخ المنطقة وتاريخ المغرب المعاصر عموما، فإنه كان من المكن الشروع مبكرا في تضميد الجراح وتطهير الذاكرة التاريخية والوطنية والمحلية من لحظات سوداء ومشاهد مأساوية، كما كان بمقدور الدولة أن تتخلص من اللعنة الوهمية للريف المتمرد وشبح عبد الكريم الخطابي الثائر الذي يزعج وإن كان رفاتا يرقد في مقبرة الشهداء بالقاهرة، والذي استخدم بشكل سلبي كسلاح لقمع الإنسان والمجال، علما أن الريف لم يشكل في يوم من الأيام حالة جغرافية شاذة، ولا أعلن تمردا بالمعنى الانفصالي للكلمة، ولا خطرت ببال أبنائه وبناته فكرة طعن الوحدة الوطنية من الخلف رغم أن بعض الأحداث العابرة والمعزولة يمكن أن تؤول وتوضع في سياق مخالف لمفهوم ومبدأ استقرار النظام السياسي.

المجاهد عبد الكريم الخطابي، برمزيته ودلالته الكفاحية، لم يكن غولا ولا شبحا من شأنه أن يزلزل البلاد ويفكك وحدتها. كل ما فعله وفي ظرفية تاريخية كانت مطبوعة بتصاعد وهيمنة الظاهرة الاستعمارية، هو أنه واجه بشراسة ورباطة جاش قوات الاحتلال الاسبانية معتمدا على جغرافية المنطقة وولاء قبائلها وصلابة رجالها الذين لولا تكالب وتواطؤ الاستعمار الفرنسي لدمروا الجيش الاسباني الذي ألحقت به هزيمة قاسية مازالت قائمة في ذاكرة الإسبان، ولم تمح آثارها حتى الآن.

والكل يعرف أن المغرب في تلك المرحلة كان مفتتا وكان لقمة سائغة في أفواه القوى الاستعمارية وتبعا لذلك يمكن أن نفهم ونبرر الدواعي التي دفعت المجاهد عبد الكريم الخطابي إلى الإعلان عن قيام جمهورية الريف، لكنها لم تكن تحدوها نزعات انفصالية، بل كانت تطمح إلى قيادة الكفاح ضد الاستعمار الأجنبي وتحصين الريف من الأطماع التوسعية لهذه القوى. بيد أن إعلان النوايا والكشف عن الأهداف الحقيقية والنبيلة لمشروع عبد الكريم الخطابي، لم يكن كافيا لتبرئة ساحة زعيم وطني وكوني، ولم يكن مقنعا لتخليص عدد من الروايات من الانحرافات التي سقطت فيها. وهكذا نسجت حول الرجل أساطير كثيرة وأقاويل مغرضة، وحورب حضوره كجزء من تاريخ وذاكرة المغرب، ومنع في سنوات الجمر والرصاص من التداول في وسائل الإعلام الرسمية.

بناء الثقة أولا:

هذا الاسترجاع أردت من خلاله إيصال فكرة مفادها أن كثيرا من التعليلات والتفسيرات التي أعطيت لمختلف الأحداث التي عاشتها منطقة الريف، والحسيمة تحديدا، ولمشروع عبد الكريم الخطابي، تحكمت فيها دوافع وخلفيات غير وطنية وغير بريئة، كان يقف وراءها مهندسون تخصصوا مبكرا في إشعال الفتن وزرع البلبلة وتجريم السكان، والأخطر في المسألة هو إقناع الدولة بمصداقية وصحة ما قدم ويقدم لها من روايات ومعطيات ومعلومات.

أما الآن وقد قرر المغرب الانخراط في ورش كبير لترميم تاريخه وتنقيته من الطفيليات وعناصر التشويش الضارة وتخليص ذاكرته من المناطق الرمادية وآثار الأحداث المؤلمة، فإنه لم تعد هناك فرصة للافتراء وفبركة التهم غير المستندة إلى أدلة وقرائن، وإلصاق نعوت حاطة من كرامة سكان الريف ومخونة لهم، أو فرض حصار على رموز المنطقة، أو إشاعة بعض الصور النمطية التي تنطوي على جرعة عالية من الشك والاحتراز وعدم الثقة في الإنسان الريفي.

إن الريف جزء لا يتجزأ من المغرب وهو مصدر إثراء تاريخي وجغرافي وثقافي واجتماعي واقتصادي لبلدنا، وذاكرة الريف وإن مازالت تعاني من صور قاتمة ومرعبة، فإنها قادرة على نكئ الجراح وطي صفحات عدم الثقة تجاه عدد من المؤسسات والفاعلين، وفي المقابل الاندماج في مصالحة عميقة وشاملة ومفصلية بأجندة محددة، وجدولة زمنية واضحة، ومدعومة بمخطط تنموي استعجالي بأولويات متفق عليها بين مختلف المتدخلين والمؤسسات المنتخبة والنشطاء الذين خرجوا على امتداد شهور للدفاع عن حقوق اجتماعية واقتصادية وثقافية.

ويجب أن يكون هذا المخطط مكملا لمشروع منارة المتوسط. ونظرا لدقة المرحلة وخصوصية تاريخ وجغرافية المنطقة، يستحسن أن تسهر على تنفيذ أهداف ومشاريع هذا المخطط لجنة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والاستقامة والبعد عن أي حسابات سياسوية، وتكون تابعة مباشرة إلى المؤسسة الملكية.

وأعتقد أن الالتزام بهذا الاختيار الوطني والحضاري من طرف الدولة والحكومة ونشطاء حراك الريف وممثلي السكان والفاعلين السياسيين ومختلف الوسطاء، هو المدخل الفعلي والجدي لبناء ثقة دائمة بين كل الأطراف، وهو الخطوة الجريئة على طريق إرساء دعائم الدولة الديمقراطية والعقلانية والمواطنة التي تتفاعل وتتواصل مع مواطنيها في شتى مناطق المغرب وتتعامل معهم بدون خلفيات.

خيار الانفراج والإفراج:

غير أن المفتاح الأساسي لأية مصالحة تنقذ ما بذل على امتداد حوالي عشرين سنة من حكم الملك محمد السادس لبناء الثقة مع منطقة الريف والانتصار على جزء محتقن ومتعفن من تاريخ المنطقة، وتحصين المكتسبات التي تحققت، يمر عبر إصلاح شامل لتاريخ المنطقة، وعبر استئصال مختلف الأورام التي حالت دون حدوث تحول نوعي وملموس في العقل والمجال، وعبر اعتماد خيار الانفراج والإفراج؛ لأنهما مرتبطان ارتباطا عضويا ومتلازمان ولا يمكن الفصل بينهما.

فلا يمكن أن يتحقق الانفراج إلا بالإفراج عن معتقلي الحركة الاحتجاجية بالريف، خاصة إذا أدركنا وعلمنا أن الحكومة والأحزاب ومختلف الفاعلين الحقوقيين والمدنيين ومؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الدستور، كلها تجمع على مشروعية ووجاهة المطالب التي تتظاهر ساكنة الريف من أجل تحقيقها منذ أكثر من سبعة شهور.

وأدعو صادقا كمواطن ينحدر من إقليم الحسيمة، وتحديدا من بني بوفراح، وتربطه علاقة صريحة مبنية على الثقة والصدق مع جزء كبير من ساكنة الإقليم، (أدعو) جميع الأطراف إلى أن يبذلوا كل المساعي والجهود لتجنيب البلاد ردة ديمقراطية ومؤسساتية، أو فتنة عناصرها وشروطها قد ترقد بين ظهرانينا إذا لم نأخذ الأمور على محمل الجد.

هناك أزمة ثقة في المؤسسات، وهناك مقاربة مهما قلنا عن ضرورتها أو أهميتها في السياق الحالي بالنسبة للدولة، فإنها قد تزيد الأوضاع تأزما. هناك ما يشبه حربا أهلية، من يخرج للاحتجاج والتضامن مع ساكنة الريف يصور على أنه ضد المؤسسات وضد النظام بمعناه الشامل. والذين يعارضون الاحتجاجات ويتهمون أصحابها بكل الصفات المبتذلة يتم تصويرهم على أنهم حماة المؤسسات، بما في ذلك المؤسسة الملكية.

من موقعي ككاتب وكإعلامي واكب مراحل دقيقة وحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، وكان شاهدا على عدد من الأحداث والمحطات، بما فيها تغطية الزيارة الأولى التي قام بها جلالة الملك محمد السادس إلى الحسيمة ومناطق أخرى بالريف عام 1999، أتفهم هيبة الدولة ورموزها، وأتفهم دلالة الخطوط الحمراء. لكن عقل الدولة المواطنة والعقلانية عادة ما يكون مرنا وبراغماتيا؛ لذلك لا يجب أن يصرف رجال الدولة النظر عن احتجاجات عدواها تتسع من يوم إلى آخر، وقد يصعب احتواؤها والسيطرة على تداعياتها النفسية أولا.

هل استعمال القوة هو الحل؟ هل إنتاج المآسي والجراح والعودة إلى سنوات الرصاص والترهيب هو البديل؟ إن الذين يملكون حاسة التقاط حادة لا يمكن إلا أن يدبروا المرحلة بما تقتضيه من حكمة ورزانة ونباهة ووطنية صادقة، وكل المغاربة، بما في ذلك عائلات معتقلي حراك الريف، يطلبون من الذين يهمهم الأمر أن يجدوا مخرجا يضمد الجراح ويعيد الثقة والطمأنينة إلى المنطقة والبلاد كافة.

بصراحة أنا لا أفهم كيف يمكن تجاهل كل هذه الأصوات الصادرة من طرف عقلاء وحكماء ومثقفين ومنظمات حقوقية ومواطنين من مختلف الآفاق ولا يؤخذ بها. إذا كانت هناك أشياء لا يعلمها الرأي العام، فالمنطق يحتم شرح وتفسير ذلك وتقديم الأدلة رفعا لكل التباس ودرءا لأي تأويل.

أعتقد أن هناك عقلاء وحكماء في الدولة، فليعجلوا باحتواء ما أصاب البلاد، وليطبقوا القانون إذا كانت هناك دواعٍ منطقية وواضحة لا غبار على تبريرها والترافع بشأنها، أو إذا كان هناك ما يدعو فعلا إلى ذلك. وعلى العقلاء والحكماء في شتى مرافق الدولة أن لا يفهموا أن التفاعل الإيجابي مع منطقة لها خصوصية تاريخية بأنه تنازل وتعميم لمذلة الدولة.

مرة أخرى أخاطب في كل المسؤولين العقل والعاطفة والذاكرة، خاصة مع قرب عيد الفطر، لأقول لهم بأن البلاد في الوقت الراهن في حاجة إلى أجواء الانفراج والإفراج، علما أنني من موقعي كإعلامي وككاتب سعيت دائما إلى الخير والمصلحة العامة في هذا الوطن ودافعت عن الأمن والاستقرار، وليست لدي أيه أطماع أو مصالح أو حسابات مع أي كان، والمغاربة يعرفون جيدا مواقفي وأفكاري وقناعاتي وسيرتي والقيم التي أدافع عنها.

ضرورة التأهيل الشامل:

كان من المكن تجاوز الأزمة الحالية منذ دعوة مختلف النشطاء والمتدخلين والفاعلين السياسيين والإعلام إلى الالتزام الصارم بإنجاز تحقيق نزيه ومدقق ومعمق من طرف السلطات المختصة للكشف عن الجهات المتورطة في الفاجعة المؤلمة لوفاة المواطن محسن فكري، وتقديم تلك الجهات إلى العدالة، وتوفير كافة المعلومات والمعطيات قصد استجلاء الحقيقة، وإخبار الرأي العام المحلي والوطني بنتائج التحقيق بشكل متواصل.

وكان من الذكاء والمصلحة الوطنية أن تتفاعل الدولة والحكومة مع الموجة الأولى من الاحتجاجات والمظاهرات السلمية التي خرجت في معظم المدن المغربية أياما قليلة بعد مقتل محسن فكري، التي عبرت عن الحس الوطني الوحدوي وعن القواسم المشتركة بين كافة مكونات الشعب المغربي.

وكان من المكن تحويل مأساة المواطن محسن فكري إلى طاقة خلاقة لإطلاق دينامية تنموية ومدنية مواطنة وتكريس قيم التضامن والوحدة في إطار مغرب يتسع للجميع، بعيدا عن أية توظيفات من شأنها أن تفضي إلى انزلا قات نحن في غنى عنها.

بدون شك مأساة الراحل محسن فكري شكلت في العمق مظهرا من المظاهر التي تختزل أوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة تطوق مدينة الحسيمة وإقليمها، كما مثلت الشرارة التي أشعلت غضبا تراكم عبر عقود، وهذا ما يطرح الضرورة الملحة لاعتماد المخطط الاستعجالي للتأهيل الشامل، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم والشغل والبنيات التحتية، بما في ذلك الانكباب على معالجة الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها قطاع الصيد البحري بالمنطقة، الذي يشكل العمود الفقري لاقتصاد الإقليم.

ومطلوب من الدولة والجهاز التنفيذي وممثلي السكان في المؤسسات المنتخبة التصدي بكل جدية ومسؤولية للإشكالات الحقيقية التي تواجه إقليم الحسيمة، وعدم اختصار وقصر المشاريع التنموية على بلدية الحسيمة المدينة، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار كل المكونات الترابية للإقليم بدون استثناء، لضمان ايقاع تنموي متوازن، ولتعميم الاستفادة من المشاريع التنموية التي تم الالتزام بتنفيذ عدد منها، والتي تم الإعلان عنها في وقت سابق، وذلك حتى يلمس السكان انعكاساتها الإيجابية على حياتهم، وخاصة الشباب.

كما يتعين على من يهمهم الأمر رد الاعتبار للقطاع السياحي مع تبني استراتيجية محددة الأهداف ومضبوطة الإمكانيات، لتفادي الارتجال والتصورات الفاشلة كما حدث مع مشروع كلايريس الذي لم ير النور رغم أكثر من عقد من الزمن، فكان المتضرر رقم واحد هم السكان الذين لم يروا شيئا ملموسا، اللهم تفكيك المخيم الصيفي الذي كانوا يسدون به بعض حاجياتهم.

كما يجب تمكين الإقليم من عدد من المشاريع التي تضمن حركة سياحية على مدار السنة، وتمكينه من شبكة طرقية حديثة وقوية لإخراجه من العزلة، وتقوية النقل الجوي الذي يجب أن يربط الإقليم بعدد من الوجهات والجهات، والعمل على ضمان خط بحري على مدار السنة بين ميناء الحسيمة وعدد من الموانئ المتوسطية، وضرورة تنشيط المنطقة الصناعية مع توفير عروض تحفيزية واعتماد سياسية ضريبة خاصة بالإقليم لتشجيع المستثمرين على إنجاز مشاريع من شأنها أن تساهم في امتصاص البطالة.

*صحافي وكاتب