تحليل

عودة الأيديولوجيا .. أو سقوط نظرية العدو!؟

عادت الأيديولوجيا من جديد لتستقل عن مفاهيم البدهيات الفلسفية الرائجة في علم الاجتماع التاريخي وفلسفات الصراع السياسي القطبي، حيث ينجلي حضورها اليوم في ظل الاصطفافات الهامشية واختلال بنى العملية الديمقراطية، على مستوى الدعامة الانتخابوية الهشة في البلدان النامية كالمغرب، من منطلقات التأسيس لشكل من أشكال الممارسة السياسية المدغمة في تبخيس المبادئ الديمقراطية وتحويلها لمجرد كومبارس فارغ على إيقاع التمويه الديمقراطي للعبة سياسية خارج الأخلاق وخارج مفهوم سلطة الشعب الرمزية.

بل إن عودة الأيديولوجيا في الصورة العامة للحالة المغربية لا يوازيه سوى الضمور المنهجي لقالبها المتشاكل المغلف ببراغماتية قطيعية تستعدي كل أشكال الانحراف بها عن مدلولها التاريخي الماركسي أو الديني أو الليبرالي أو ما شابه.

فالأيديولوجيا اليوم هي اللامعنى، وهي اللاشيء في وجه قبيح لاستفحال قيم المواجهة، لغة الحوار، أو حدود الاصطراع الفكري بين نمطين أو أكثر من مذاهب السياسة وعواصفها الارتدادية الآسنة.

وأكبر دليل على اتساع هوة نظرية سقوط الأيديولوجيا هذا الخليط الناشز لمجموعة لقطاء سياسويين يستحوذون على واجهات الحكم في أكثر من بلد عربي، خصوصا في الحالة التي أصبحت تعرف بالربيع العربي مقلوبا، حيث التركيز الملح على احتواء الثورات والحفاظ على كراسي السلطة والحكم!

وحتى تنعم هذه الأيديولوجيا بنعيم التخفي خلف المصلحة القومية أو الوطنية، سارت تدشن عمليات شد الوجه بعمليات تجميل مكلفة ماديا وأخلاقيا، على مستوى الالتزام بعملية الانتقال الديمقراطي، وإطلاق مشاريع التنمية وتجسيد ذلك في التربية على الحرية وحقوق الانسان وما يجري في دمائها من حقوق اجتماعية وبيئية وثقافية واقتصادية ومجالية وصحية وتعليمية .. وهلم جرا.

انظروا كيف تحولت الأيديولوجيا في حكومات ما بعد 2011 وإقرار دستور جديد لبلادنا، كيف تحولت من قطبية فكرية حضارية مخلخلة للمفاهيم والثقافات والبنيات والأنساق الفلسفية الوطنية والأخلاقية وسوسيولوجيا السلم والأمن والكرامة، إلى مجرد قنفذ متهارش يحصر أدوار وجوده وتفاعله مع المحيط في جدار الحك وتنغيم تربة المواءمة والمكارشة وتضبيع ماعداه من كائنات السباق الأخرى، التي تخلف الوعد وتقطعه مع بزوغ زمن آخر، ينتمي للحقبة الدينية الممخزنة والمفعول بها تحت طائلة انتقال الشيوعية المغربية إلى ممثلة سامية لوفد الحجيج !؟

أليس من النظر البعيد ترميم البعد الجديد لإيديولوجيا الاختراق التي مسخت كل مقاربات علم الاجتماع السياسي، وجعلت المنظومة الفاعلة الآن، والأكثر امتدادا في جسد السياسة المغربية المنهوكة، هي ما توظفه سلطة الأيديولوجيا القائمة من مغارم سياسية قليلة التأثير في العملية الديمقراطية المزعومة، من مساحات العراك الغاصب للإرادة الشعبية والمتخلف عن ركب صناديق الاقتراع ونسبيته في ظل الانتهاكات الجسيمة التي حصلت خلال الاستحقاقات البرلمانية السالفة؟

كل الأحزاب السياسية، حتى التي كانت لها امتدادات عميقة في تاريخ استقلال المغرب وما بعده، فشلت فشلا ذريعا وأدارت ظهرها لمواثيقها التاريخية والنضالية، بعد سقوط أيديولوجياتها المنهكة وتكالبها على الباب العالي وتزلفها لانتشال حصتها من كعكة فاسدة موجهة بدقة لإفلاس مقصود ومحكم القبضة.

فعلت ذلك بعد أن نهشتها ذبابات المخزن، الذي عمل على توسيع هامش تقسيمها وتفتيتها إلى كيبوتسات مصنفة يسهل تطويعها وترويضها وتوجيهها!

كانت الأيديولوجيا في اعتدالها وقياسها الفكري بؤرة للخلاف الخلاق والروح الجسورة والاقتدار على الفعل السياسي المتناغم مع التوجهات الكبرى للمنظومة السياسية الحزبية.

أما الآن فأصبحت الأيديولوجيا علقا من الاستبداد والظلم الاجتماعي والفكري. أصبحت الأيديولوجيا عنصرا هادما للمجموعة السياسية الواحدة والمتعددة، سلطة قطعية للاتجاهات الداعمة للخلط بين الالتزام السياسي والتغول الفرداني. بل إنها تقمصت أدوار التبعية والتقيد بالنص الواحد وبالتمجيد اللامبرر للقداسة الشخصية للحاكم.

كان ماركس يغلب فعل الأيديولوجيا في دلالته على التنوع والتبدل الفكري والثقافي، ويحذر من التقصير في فهم عوامل تنزيلها وتوسيعها، لأنها حسب رأيه لا تستقر على حال، مثلها مثل النهر الجاري الذي يجرف من ورائه كل الحجارة والرزايا العالقة بالهوامش. ومثل هذ الفهم الإبستمولوجي الفلسفي سار عليه المفكر المغربي عبدالله العروي في "مفهوم الأيديولوجيا" حيث التراكم والتداول الفكري بالمعنى التناظري الصراعي المتجذر ..

العودة إلى الأيديولوجيا هي عودة دائمة للاستعمال البدهي، وحبذا الاستغناء عنها بالمرة كما قال العروي، لأنه من دونها سنضمن على الأقل وحدة للعقل وتفكيرا مستقلا يكون منطقه أخلاق وقوة مبدأ وتداول للسلطة وتعبئة للمدنية والثقافة والحق في الحياة