رأي

مصطفى غلمان: رسالة عاجلة إلى السيد إبليس

خمنت كثيرا وقدرت واعتبرت قبل أن أوجه لك رسالة. تعرف أني أكرهك، وأني لا أطيق سماع اسمك حتى صدفة.

أعترف أنك كنت ولا تزال بطلا خياليا بامتياز، ليس لأنك خبيث وسادي، وكريه مقيت، ولكن، لأنك شكلت طيلة قرون لكل البشرية حاجزا أليما للعيش وشبحا فظيعا ضد الحياة.

نعم يا إبليس قررت مخاطبتك أخيرا بعد أن أسرت كل الإنسانية في قضبان ظلمك، وأغرقت كل جغرافيات الأرض بالدماء وانتهاك الحرمات .

زرعت الحقد في نفوس بني آدم وأمسكت بمضارب القلوب، وجعلت الشر نفثا يجري في كل المسام.

أهرقت كل فعال جنونك على أزمنة الحرب والخراب، وأفنيت كل ما تآلف لأجل إغراق الدنيا بمتاهاتك، فما بقي غير توثيق فضلات آثامك لتدمير العالم وإخضاعه لنزواتك.

أريد تحقيق قدرة طفولية غابرة، شوق صغير يحاذي صمودك القاصم، مبدإ قديم كان يراودني، وشحنة زائدة على حاجة النظر، أن أرى ما تذكره في غيبك، خوفك القادم من انتصار الحب، من إعادة بناء العالم بعد دماره.

أريد أن أرى شراراتك المحذورة وهي تَبْطُل بقوة احتمائنا بنور الله العظيم!

أريد تحقيق شيء من حلم أبي رحمه الله، أن أقرأ الإيمان باعتقاد حليم يباهي رياح التغيير وبهاء الوجد.

أعلم علم اليقين أنك أجبن مما أتصور، لأنك لو كنت شجاعا حقيقة ما غدرت وطعنت، وما أوقعت بين الماء والنار، بين الفتنة والجمال، بين الهمس واليقظة.

أنت علق زئبقي مستطير، تتراخى بين الوريد والوريد، وتستدرج الهوى أن يظل فلا تغفو حتى يعصى الكامن في غيمك، وتلقاه هائما متروكا لمصيره المجهول ..

كنت أود تفويت فرحك بمساري المبتلى، ويأبى احتماؤك بالوساوس والضلالات أن يحيل القهر إلى سجن رهيب يجفل بك إلى مهاوي الأحزان، فلا تصنع البؤس بمزيد، فالعمر الذي تذهبه آثارك ليس مرائي لانعكاس الملك أو لارتقاء الدوام.

يا إبليس، إني أذكرك فقط، إن كان لك عقل يعقل ووجاء يحتذي وهامة تعبر المسافات، أن عليك اللعنة في كل سر وجهر، وأنك لا تطيق فكرا يلين جوهر الصراع بينك والبشرية، إلا لمثل ما يقسو فيه سعارك ونشورك وسحرك وابتلاء الإنسان بك ..فلا تتكبر ولا تغفل عن عواقب الضمير، الذي تلهيه وتشكمه وترابيه وتضعف قدرته على مداراتك !

كل حكماء الدنيا فلاسفة الحياة نبذوك ونفروا منك، داروا جموحك وآثروا أن يسلبوك حجة عصيانك وانحدارك، وأشاعوا في الكتب السانحة مصائد نشبك وفضائح غرورك ودسائس عصورك، ولكنهم تركوا أقدار نهايتك لرجفة أخرى عند المليك المقتدر.

قالوا عنك إنك أس الجرائم والمكائد، وهم مع كل اتهاماتهم يناصبونك العداء ويستهينون بمقدراتك التليدة في المراوغة واستبلاد عقول الناس. فقد تغير الزمن وتبدلت الأحوال، وما عاد باستطاعتك التأثير على الأحداث والسيطرة عليها، بنفس الهم والقوة التي كانت سابقا.

إذ إن أمور الدنيا أضحت أفضل مما كنت تطمح وأضمن مما كنت تحلم، فتلاميذك النبهاء نجحوا في اقتفاء آثارك وصون أفاعيلك من الريبة والشك. بل أقاموا على قداسك هيبة الحلول وشرف التلبس، فعبدوك وانتدبوا من يبدل عليهم من فضل الحرية وشنار الفوضى المتربصة ...

كل الصور يا إبليس التي قاربت ملامح نبوغك الكيدي ودهائك الأسطوري لم تحسم بعد فكرة تجسيدك، ولن تفلح في القبض على ثخومك الغامضة.

هل أنت حقيقة أم خيال؟ صخب أم ضجر؟

هل أنت وحدة أم عدد في الهيولى؟

هل أنت مكيدة إنسانية أم ضربة حظ؟

هل أنت وجود أم عدم؟

هل تعشق النساء لأنهن شكاكات غضبانات ذاعرات أم تألف طمس المواجع ودرء الحتوف في الموت الزؤام؟

كل شيء يرمز لك يصح أن يعوق القابلية للحق والعدل. وكل شيء ينتمي إليك فهو قطعا ضد قيم الحياة والوجود.0

فهل يصح بعد كل ذلك أن تستمر متاهاتك البليدة في تمجيد السواد والعماء والشقاء والشرور؟

السيد إبليس، أخيرا أريد أن تقرأ رسالتي بإمعان قبل أن تجنح للشرور والآثام مرات أخرى، فالإنسانية جميعها ملت من كراهيتك، وأنا واحد منهم طبعا .. اليأس من أن يستمر العالم على النحو الذي تخطط لتدميره وتخريبه، يكبح استرداد الأنفاس بعضا من سعادات مفقودة وهاربة ..

Ghalmanepresse@gmail.com