رأي

محمّد محمّد الخطّابي: الحُسَيمَة تُنَاشِدُ ملك البِلاَد

محمّد محمّد الخطّابي

أنا الحسيمة، الحاضرة الصّغيرة، المغمورة ،النائية ،التي يحيط بي البحرُ ، وتطوّقني الجبالُ الشّاهقة، والهضابُ الشّامخة من كلّ جانب، صديقتكم المُخلصة الخُزاميّة النّفْس ، والعِطرية الهوىَ والنّفَس،والعَبِقة الرّوح والقبَس،أنا التي حفظتُ لكمُ الودَّ الجميل ، وصُنتُ لكمُ العهدَ الأثيل، وأنتم الذي رَدَدتُم التحية بأحسنَ منها، فغمرتموني،وأسعدتم أهلي بشرف زياراتكم المتوالية الميمونة لي غيرَ ما مرّة، وأقمتم بي مرّاتٍ، ومرّاتٍ، وأحببتموني من سويداء قلبكم ، وأُعْجِبتم بي إعجاباً كبيراً، ومنذ سنوات عديدة أضحيتُ وِجهتكم المأثورة فى كلّ صيف، وحضورُكم المبارك بين مناكبي عرّف بي، وبشواطئي الجميلة، وبسواحلي الفسيحة، وبمناظري الطبيعية الخلابة، وبأهلي الطيّبين، وبأناسي البَررة فى مختلف أرجاء المعمور، داخل الوطن الغالي الحبيب وخارجَه.

فى هذا الصّقع الرّيفيّ النائيّ البعيد ذي التضاريس الطبيعية الوعرة ، والأخاديد الجبلية الصّعبة، عاش سكّاني على الفِطرة ، ترعرعُوا على البساطة ، عَشِقوا الحياة الحرّة الكريمة . فى ربوعهم، وأحيائهم، وأرباضهم، ومرابعهم ومرابضهم، وقراهم، ومداشرهم، وَضِيَعِهم لم ينفكّوا يدقّون أبوابَ الحريّة الحمراء دقّاً عنيفاً حتي يتسربلون بألوانها القانية، ولا يرضون أبداً بها أو لها بديلا . ويشهد لهم التاريخ أنّ حُسنَ الجِوار كان دأبُهم، والذّود عن وطنهم، وحوضهم، كان دَيدَنُهم، وعدم الرضىَ بالظّلم والضّيم، والجّفوة والجفاء كانت غاياتهم ومراميهم.

  ينعتونني تباهياً، وإعجاباً ب ” ذيل الطاووس” لألواني القوسقزحيّة الزّاهية،  ولجمال شطآني، وروعة طبيعتي ،وسِحر مناظري، ولبُعدي ونأيي عن مراكز القرار،وعن سائر حواضر ومدن أخواتي التوائم فى الجغرافيا والتاريخ فى بلادنا السّعيدة ، ولا شكّ أنّ هذا النعت جاءهم من تأثير حكاية طريفة شهيرة متواترة لرحّالة مغربي ذائعِ الصّيت، كان قد زار ذات مرّة فى القرن الرابع عشر مدينة بغداد التي كانت تُسمّى إبّانئذ مدينة السّلام ..! فى زمنٍ لم تكن فيه القارة الأمريكية قد إكتُشفت بعد ، وكان الناس يعتقدون فى ذلك الإبّان أنّ العالم ينتهي عند هذا السّاحل الأقصى البعيد فى بلادنا الحبيبة، وفى إسبانيا بمنطقة جليقة أو غاليسيا يوجد مكان يُسمّى )فينيشتيرّي) ومعناه حيث تنتهي الأرض، ويقال إنّ الفاتح عقبة بن نافع دخل بحصانه فى مياه المحيط الأطلسي على الشواطئ المغربية حتى غطّت مياهُ البحر قوائمَ فرَسه ، وإستلّ سيفه ورفعه إلى أعلى فى العنان مخاطباً المحيط الهادر قائلاً له : “والله لو كنتُ أعلم أنّ وراءكَ أرضاً لفتحتها بسيفي هذا “…! ووأسفاه لم يطلق الفارس الهمام لأشرعة مراكبه العنان فى الفضاء اللاّزوردي الفسيح لإقتحام المحيط وإجتيابه بسبب الأمواج العالية،واللّجج الصاخبة لبحر الظلمات المُرعب ،وظلّ حيث وقف حصانُه،حتى قام بهذه المهمّة بعده الرحّالة والبحّار المغامرالجِنوي ( نسبةً إلى جِنوة بإيطاليا (كريستوفر كولومبوس..المهمّ أنّ رحّالتنا عندما حطّ رحله ببغداد العامرة رمقته عيون الخليفة (وبلغة عصرنا هم المُخبرون السريّون أو الجواسيس)..  الذي ما أن أبلغوه بوجوده بالمدينة حتّى أمرجندَه بإحضاره إليه فوراً، فلمّا مثل الرحّالة بين يديّ الخليفة قال له متهكّما، وساخراً، ومزدرياً، ومستهزئاً : يا مغربي،  قيل لي إنك قدِمتَ من بلدٍ بعيد جدّاً ، وقيل لي كذلك إنّ الدّنيا هي على شكل طائر كبير، ذيلُه المغرب الأقصى لبعده عن حواضر وبلاد المشرق .فأجابه الرحّالة على الفور: أجل يا أميرَ المؤمنين هذا صحيح، ولكنّ الذين أخبروكم بذلك نسوا أن يقولوا لكم أنّ هذا الطائر هو الطاووس، وأنّ أجملَ ما فى الطاووس ذيلُه…! وبذلك نفهم مغزىَ الحكاية وعمقها عن نعتي بهذا اللقب الجميل .

تُرى..ماذا حدث..؟ بعد عشية وضحاها أمسى ساكنتي يتنفّسون الصّعداء، ويرفعون أنظارَهم إلى السّماء، ويجيلون بأبصارهم فى فضاءاتها الواسعة المترامية الأطراف، ويحدّقون فى سديمها السّرمدي الأبدي الفسيح ، وبقدَرٍ مُشْعَلٍ على شفاههم يرجونها أمراً فى قرارة أنفسهم، ويستعطفونها سرّاً فى أعماقهم ،ويناشدونها بلسماً شافياً، وترياقاً مُداوياً لجروحٍ غائرةٍ مُجترّةٍ لا تندمل..! فأهلي الأماجد أصبحوا يُسامُون اليوم سوء الصّنيع، ويعانون البعاد والتباعد، والإقصاء والتنابذ، والتهميش والجحود، والنكران والنّسيان،والتعتيم والتعنيف ، إنهم يعاتبون الأيّام الحالكات ، ويلومون الليالي المدلهمّات التي لا تُؤمَنُ بوائقها ، فعسىَ هذا اليأس يتلوه الرّجاء على يديكم الكريمتين، ولعلّ اللهَ يأتي بفضل حَصافتكم، وحِكمتكم بعد هذا الكرْب بِفرَجٍ قريب، إنهم  يشكون الدّهرَ القاهر، ويناغون الزّمن الغادر،ويناشدون قلبكم الغامر صفاءً، ووفاءً.

فى هذا الرّكن القصيّ الجميل بين جوانبي ومناكبي تظلّ  الشمس ناشرة خيوطها الذهبية، وأشعّتها المخمليّة، حيث أمواج البحر تتلاحق، وتتسابق،وتتعانق، وتتبارىَ للوصول إلى شاطئي الجميل ” كيمادو” الذي يبدو ساحله وكأنّه مرشوش بمساحيق التِّبرٍ الخالصٍ ، أو بدقيقٍ المسكٍ والعنبرٍ ، وحيث  يظلّ قرصُ الشمس ساطعاً، لامعاً، ناصعاً فى الأفق البعيد، وكأنه زورق حالم ينثر الضياءَ فى فضاءات هذا الكون الهائل الفسيح، راسماً للعيان منظراُ رائعاً خلاّباً  فى أبهىَ صُوره، ورونقه  لخليجي الفريد فى بابه الذي إنتُخِب مؤخراً من بين أجمل خُلجان العالم .

أهل حاضرتي الفيحاء لم يعودوا يثقون سوى فى عاهلهم ، فأنتم ملاذهم الوحيد، وأملهم العتيد، فبعد أن تفضّلتم مشكورين ، ومبرورين، وأطلقتم على بركة الله وعونه شرارة الأمل لإنطلاق أشغال الأوراش الكبرى فى إطار برنامج “الحسيمة منارة المتوسّط” (2015- 2019)، بغلاف مالي يناهز 6,5 مليار درهم، حيث تمحور مخطّط هذا البرنامج التنموي الضّخم فى خمسة محاور أساسية، هي التأهيل الترابي ، والنهوض بالمجال الاجتماعي، والصحّي ، وحماية البيئة، وتدبير المخاطر، وتقوية البنيات التحتية، وتأهيل المجاليْن الثقافي والديني، لبلورة مشروع تنموي طموح يروم إخراج هذه المنطقة من العزلة والهشاشة الطويلتي الأمد، وإلحاقها بقاطرة التنمية الوطنية على المستوى المتوسّط والبعيد، والذي يهدف إلى “تشجيع الإستثمارات والمشاريع التنموية، المدرّة لفرص الشغل، خاصّة في قطاعات السياحة، والصيد البحري، وبناء إقتصاد فلاحي عصري منتج، كفيل بجعل منطقة الريف قطباً من أقطاب التنمية الحضرية والقروية في جهة الشمال، مندمجاً في النسيج الاقتصادي الفسيفسائي الوطني”. إلاّ أنّ هذا المشروع الضخم لم يرَ النور، ولم يلمس ساكنتي حتى اليوم أثراً ملموساً بعد عين لهذه الأشغال التي يُفترض أنها إنطلقت منذ سنتين إثنتين خلتا،وقد عبّرتم جلالتكم مُحقّين عن القلق ، والضيق، والإستياء، والإنزعاج الذي إعتراكم من جرّاء تأخّر، وتعثّر هذه الأعمال حرصاً أكيداً منكم على تحقيق هذا المشروع الطموح، والرقيّ بي، وبجِهَتي ، لأستعيد مكانتي فى الإشعاع والإزدهار اللذين كنتُ أنعم بهما حتى وقتٍ قريب، لذا فإنّ الهواجس والدواعي التي تعتمل فى أنفس هؤلاء الفتية ، ولدى أولئك الشّباب الذين إنتشروا  فى شوارعي، وأزقتي، ومياديني، وساحاتي العمومية، وأرباضي كانت الغاية منها التذكير ببعض المطالب، والمآرب التي غابت عنيّ، وعن منطقتي التي طالما طالها الإهمال، وعانت التهميش،والنسيان، أو التناسي من قبل. والحالة هذه ما فتئت الأصواتُ الإحتجاجية تتزايد، ومطالبُها الإجتماعية تتعالى حيال قطاعات الصحّة، والقضاء، والتعليم، وخلق مناصب الشغل، و إشكالية الصيد البحري، وسواها من المطالب التي تأخّرت وتماطلت فى الإنجاز ،وقد بلغت أصداء هذه المطالب،وإنتقلت عدواها إلى بعض ضواحي، ونواحي مغربنا الحبيب وخارجه. وأصبح أو كاد أن يصبح الشّغل الشاغل للبلاد والعِباد فى مختلف المناطق، والعشائر، والضّيع، والمداشر ، والمدن، والحواضر هو ما يحدث فى الرّيف من إحتجاجات سلمية ،وأقول سلمية لأنّ هؤلاء الشباب لم يُدعُوا قطّ لأيّ إنفصال،ولم يقوموا بأيّ أعمال عنف، وقد أجمع المراقبون على هذه البدهيّات فى منتدياتهم، ومداخلاتهم، ومقالاتهم . وما فتئتم  تلحّون جلاللتكم على الحوارالجادّ البنّاء، وترجيح العقل ، والحِكمة، والحِلم، لرأب هموم هؤلاء الشباب ، وجبرخاطرهم ، والحثّ على إجتثاث شأفة العطالة، وبتر آفة البطالة المتفشّية بينهم .

ما إنفكّت الإدارة تتمادىَ في عدم ذكر حقائق الأمور فى العديد من المسائل الحيوية فى البلاد، وفي طليعتها دواعي الإحتجاجات السلمية التي عرفتها ساكنتي فى مختلف مرافقي ومناطقي ، بعد أن تأكّد للجميع أمام الملأ أنّ محتويات التقارير المرفوعة إليكم بشأنها تمّ الإدّعاء فيها أن لها دوافعَ ودواعي أخرى لا صلة لها بمطالب التنمية الاجتماعية، والإقتصادية، والصحيّة، والثقافيّة ، والبشريّة ،إذ زعموا أنّ لهذه الإحتجاجات غاياتٍ وأهدافاً وخلفياتٍ ونوازعَ إنفصالية ، وإتّضح فيما بعد أن ذلك ليس له أيّ أساس من الصحّة ، ومن ثم جاء إنزعاجكم المُبرّر خاصّةً بعد أن تماشت،وإنصاعت أحزاب الحكومة يوم الرابع عشر من مايو الفارط بدون رويّة ولا تمحيص لتؤكد وتؤيد كلّ ما ورد في  تلك التقارير من إفتراءات ، وتلا ذلك الأمر إلقاء القبض على عشرات من الشّباب، والشابّات من نشطاء،وناشطات هذه الإحتجاجات، وإلحاق غير قليل من الإتهامات المتفاوتة ضدّهم .

ولقد إنشرحت الصّدور جَذلاً وحُبوراً ،وعمّ البِشْرُ والإستبشارُ الجميع بعد ترؤّسكم بتاريخ 25 يونيو الفارط للمجلس الوزاري بقصركم العامر بالدار البيضاء ،وإصداركم لبلاغٍ صريحٍ، شافٍ، وضافٍ حيث عبّرتم  للحكومة، وللوزراء المعنيّين ببرنامج “الحسيمة منارة المتوسط” بصفة خاصّة فيه عن إستيائكم ،وإنزعاجكم ،وقلقكم، بخصوص عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمّنها هذا البرنامج التنموي الكبير في الآجال المحدّدة لها، والذي تمّ توقيعه تحت رئاسة جلالتكم الفعلية بحاضرة تطوان في أكتوبر 2015، وأصدرتم تعليماتكم لوزيريْ الداخلية والمالية، قصد قيام كلّ من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية، والمفتشية العامة للمالية، بالأبحاث والتحريّات اللاّزمة لتقصّي أسباب عدم تنفيذ المشاريع المُبرمجة، وتحديد المسؤوليات ، وإعداد تقرير بشأنها فى غضون أسبوع واحد. كما ذكّرتم مرّة أخرى، بتعليماتكم التي سبق أن أعطيتموها للمسؤولين، وللحكومات السّابقة، بأن لا يتمّ تقديم أمام أنظاركم سوى المشاريع، والاتفاقيات التي تستوفي جميع شروط الإنجاز والتنفيذ فى وقتها المُحدّد لها.

وبذلك كله، وبسواها من المبادرات التي عملتم على إتخاذها أكدتم على مشروعية هذه الإحتجاجات، وعلى عدالتها، وعلى ضرورة الإنخراط الجماعي في حوارعقلاني بنّاء وهادئ ينفتح على الجميع، وأصررتم غير ما مرّة بحكمتكم المعهودة على ضرورة تحقيق المطالب العادلة لساكنتي، وفق مقاربة شمولية تُحدّد الأولويّات القطاعية، والمجالية بالمنطقة، وألححتم على ضمان مبدأ الشفافية والنزاهة فى هذا القبيل .

وبعد ذلك كلّه، فإنّ ثقة ساكنتي، بل وكلّ أبنائي،وبناتي، وأبناء،وبنات منطقتي،وجِهتي، وأرباضي – كما عبّروا عن ذلك  مراراً وتكراراً – تظلّ موضوعة فى آخر المطاف فى جلالتكم، فأنتم ملاذُهم الوحيد ، وأنتم أملهم الكبير، فى إيجاد الحلول المناسبة لتهدئة هذا الإحتقان الذي تعرفه المنطقة منذ حوالي ثمانية أشهرٍ خلت ، ونستأذن جلاللتكم لنستلطفكم، ونستعطفكم بأن تتكرّموا ممنونين بإصدارعفوكم الأبويّ الشّريف على الموقوفين، والمعتقلين من هؤلاء الشباب رحمةً بهم ، ورأفةً بأهاليهم ، وذويهم، وإخوانهم،وأخواتهم فى الوطن الغالي الحبيب .

+ كاتب من المغرب  ، سفير سابق ـ عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا