قضايا

مخاضات العدالة الانتقالية والخيارات الصعبة

محمد لمرابطي

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب، وعن مدى الأهمية القصوى لتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة وإيجابياتها الكبيرة، فقط كل ما يلزم الأمر لدى الحركة الحقوقية داخل الوطن بالخصوص هو إخراج هذه التوصيات من حالة الجمود التي تعيشها والعمل على تفعيل ما تبقى من مقتضياتها عالقا، مع الحرص على تنزيله في أرض الواقع بشكل يتناغم مع تطلعات المواطنين المعنيين بملف ماضي الانتهاكات، ولعل من أهم ما يسترعي الانتباه في هذا المسار التنويه بكون مسلسل المصالحة مع منطقة الريف المغربية لم يستكمل بعد كافة حلقاته الحقوقية المنتظرة، مما يحيل ضمنا إزاء التفكير في التأسيس للمستقبل المأمول انطلاقا من حيثيات الحاضر المحفزة، وبالتالي الانخراط بجدية في إنجاز ما تبقى من مضامين تلك التوصيات الهامة الصادرة في الموضوع، وهذا المؤشر الأخير فسح المجال لبعض الحقوقيين المغاربة أن يعتبر عملية الانتقال الديمقراطي بالمغرب كونها ذات وضع سيظل محكوما بسياق مسارات معقدة وملتبسة ولفترة ربما قد تطول على مستوى الزمن

لذلك فإن هذا التفسير قد يبدو منطقيا، ولكن فعاليات الرغبة في السعي وراء السلطة لا تساعدنا في الإجابة عن أسئلة دقيقة وشاملة حول العدالة الانتقالية، وهو الأمر الذي حدا ببعض الباحثين من الخبراء المتخصصين في الإجراءات الإصلاحية للعدالة الانتقالية في أمريكا وأوروبا الشرقية إلى طرح أسئلة من قبيل : لماذا تظل القضايا المرتبطة بالعدالة الانتقالية عالقة بعد حدوث الانتقال السياسي بزمن طويل ؟ وما هي أسباب أو سبب بروز العدالة الانتقالية كقضية جوهرية في الغالبية العظمى من نماذج الانتقال إلى الديمقراطية في الحقبة التي تلت وقوع الحرب ؟ وما سر التشابه في سياسات الحق والعدل التاريخيين التي عملت على تبنيها الديمقراطيات الناشئة بالرغم من تنوع سياقاتها الثقافية والسياسية، وقامت بتفضيلها على نسيان ماضيها ببساطة ؟ ونستحضر في هذا المجال بالخصوص تجربة جارتنا إسبانيا وبعض الدول في أوروبا الشرقية

في أغلب الحالات عندما نستحضر التجارب الوطنية للعدالة الانتقالية عبر العالم سواء من وجهة نظر سياسية أو كحقوقيين بالدرجة الأولى، أومن جانب آخر كباحثين أو مهتمين، فإن أول ما يمكن ملاحظته في هذا السياق كون أغلب التجارب التي يتم عرضها والوقوف عند أهم المبادئ الحقوقية المكونة لها، من طرف المؤسسات الدولية والوطنية والبيحكومية، وكذلك عن طريق المنظمات المدنية والحكومية الفاعلة في مجال حقوق الإنسان، إنما تكاد تنحصر بالأساس في تجارب كل من دولة جنوب إفريقيا وسيراليون ورواندا وبعض الدول في أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والشيلي، ويتم إهمال وتغافل تجارب دول أوروبا الشرقية على الرغم من أهميتها وتميز تجربتها الحقوقية بالغنى والخصوصية المجالية والتاريخية ؟ خاصة وأنها بدورها قد أخذت على عاتقها تجشم عناء تحمل مسؤولية هذه التجربة أثناء عقد الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، وإلى غاية المنتصف الأول من العشرية المكونة لعقد التسعينات

صحيح ليس هناك من صيغة نموذجية تستطيع البلدان المعنية الاحتذاء بها، بل يجب على كل بلد تلمس طريقه الخاص لاستنباط حل مناسب من خلال تطبيق المفاهيم الأساسية للعقيدة الحقوقية المرنة التي يؤمن بها ويقوم بتبنيها، فقد لعبت الديمقراطية الليبرالية دورا لا يستهان به في رسم معالم المناظرات المتعلقة بالعدالة الانتقالية في عملية توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية، فمع وجود انتقال سياسي من هذا النمط، كان من البديهي أن نتوقع وجود درجة عالية من الجزاء، لكن مقاربة العدالة الانتقالية في هذا البلد بين عامي 1989 و1990 ، كانت في واقع الأمر عبارة عن خليط متنوع من الألوان، فقد غاب القصاص العنيف عن المشهد السياسي تماما، ولم يتم اللجوء إلى المحاكمات، وأيضا اصطدمت الملاحقات القضائية بحواجز قانونية صلبة، بحيث ظل عدد المحاكمات ذا نسبة محدودة وقليل جدا، وجرى بالأساس تبني سياسات التطهير وإعادة تأهيل الضحايا وتعويضهم ماديا وإعطاء كامل الأهمية لعملية المصارحة والبوح بالحقيقة، ليتضح لاحقا أن عملية توحيد ألمانيا سنة 1990 كان عاملا حاسما انعكس بالإيجاب على نتائج هذه التجربة وأدى إلى منع تسييس قضية العدالة الانتقالية، ونتج عن وضع من هذا القبيل كذلك سقوط مبدأي تعويض وتأهيل الضحايا من الأجندة الحقوقية والسياسية لأسباب عديدة، بعد أن شعر معظم البرلمانيين في ألمانيا الغربية أن الدولة الألمانية قدمت ما يكفي لأشقائهم الشرقيين حين تحملت النفقات المالية الضخمة والمكلفة الخاصة بعملية إعادة التوحيد، والتي من المفروض أن تجسد أفضل بل أقصى ما يصبون إليه من تأهيل وتعويض جراء ما تعرضوا إليه في ماضيهم الأليم من الانتهاكات منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية سنة 1949

أما بولندا فقد كانت تجربتها مع العدالة الانتقالية الدولية مثالا نموذجيا لتلك الدولة التي اتبعت نهج "التسامح ونسيان الماضي " وهكذا أجمع كل من اليسار الديمقراطي والجناح الليبرالي في بولندا أن التطهير الذي يترتب عنه طرد الناس من وظائفهم إجراء قانوني باهظ الثمن، وبالتالي فإن فكرة التطهير في جوهرها هي وليدة الفكر الشمولي تنطوي على خرق للأصول القانونية وتتعارض حتى مع مبادئ الدستور، إضافة إلى كون التطهير مفهوم غير ليبرالي كإجراء يتصدى بالجزاء لمخلفات الإثم الجماعي، وفي هذا السياق أثنى حزب تحالف اليسار الديمقراطي في بولندا على النموذج الإسباني في الإصلاح المتدرج، وفي المقابل مهد السبيل خلال التفاوض على الانتقال التدريجي للسلطة من أجل تبني سياسات حاضنة للأطراف البولندية كلها، ومثل إسبانيا تماما في تجربة انتقالها السياسي خلال عقد السبعينات، فإن بولندا لم تبذل جهودا مضنية في سبيل المصالحة مع ماضيها، فقد سلط تحالف اليسار الديمقراطي الأضواء على الحاضر والمستقبل أملا في صرف الأنظار عن الماضي الذي اعتبر مع حلول 1993 بمثابة مستنقع سياسي آسن، مما جعل بولندا تشتهر بتحاشيها وابتعادها عن محاكمة الشيوعيين السابقين وقيادات الشرطة، على الرغم من تنظيمها لبعض المحاكمات على غرار ألمانيا

وفي روسيا لا يمكن الحديث بالقطع في هذا السياق عن برنامج البريستوريكا ( perestroika ) المتعلق بإعادة البناء، وهي مجموع الإصلاحات التي أطلقها رئيس الاتحاد السوقياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ذات الصلة بالخصوص بالهيكلة الجديدة للاقتصاد السوفياتي ومعاييرالمنافسة في السوق الحرة، بل ما يهم بالأساس مبادرة غورباتشوف المتعلقة بالغلاسنوست وتعني مقاربة هذا الأخير المفضلة لتسوية جرائم الماضي، وهي سابقة تاريخية ثبتت الجدوى منها مع مرور الزمن، وقد اعتمد على النخبة المثقفة لحمل راية الغلاسنوست، ومهما يكن الأمر لا يمكن القول أن الشعب الروسي فقد اهتمامه بالمطلق مع ماضيه الأليم، غير أن ما حدث بالضبط أن المصالحة مع الماضي لم تكن قضية سياسية بارزة على المستوى الوطني، كما حدث في ألمانيا وبولندا

فقد شعر غورباتشوف من جهته أن الإصلاحات المؤسساتية التي قام بإجرائها أصبحت تمثل رد فعل واف على الجرائم المرتكبة في ظل النظام الستاليني، خاصة مع عجز ما يسمى بالتحريفية التاريخية نصيره الإيديولوجي في دفعه لتبني الإصلاحات التي تستبطنها عقيدة الديمقراطية الليبرالية مثل إصلاح القانون الجنائي ومؤسسات القضاء وأجهزة الاستخبارات، كما أن القصاص من الجاني والتعويض للضحية إنما هما في جوهرهما ثمرتان من ثمار الديمقراطية الليبرالية، لذلك نجد لدى الأحزاب الوطنية في بولندا موقفا يؤيد بقوة العدالة الانتقالية، في الوقت الذي طغى فيه الفتور والوهن البين على موقف الأحزاب الروسية تجاه قضية إدانة ماضيها السوفياتي الذي عملت دوما على جعله مفخرة لها

وعلى هذا الأساس فقد أظهرت تجارب بلدان أخرى مثل إسبانيا أن العدالة الانتقالية غير ضرورية لدعم مسار الديمقراطية في الواقع، فقط تأتي أهميتها نظرا لكونها تعد مدخلا إيجابيا نحو إرساء لبنات الإصلاح المؤسساتي الذي من شأنه أن يفضي إلى ضمان الاستقرار الديمقراطي والانتقال السياسي السليم في البلاد، فقد آثرت روسيا نسيان ماضيها والحكومة وحدها هي القادرة على ضمان عدم تكرار جرائم الماضي، وفي استطلاع سابق حول الشخصيات السياسية السابقة في بداية سنة 2003 أدلى 36 في المئة من المواطنين الروس بتصريحات تفيد أن الستالين جلب الخير لبلادهم أكثر مما أضر بها، واعتبر أكثر من نصف الشعب الروسي أن دوره إيجابيا في تاريخ روسيا المعاصر

وختاما يمكننا القول عند التمعن في سياسات الحق والعدل التي تشكل مبادئ أساسية في فلسفة العدالة الانتقالية، المتدرجة وفق مرتكزات تستند على كل من السياسات التالية : القصاص/ المحاكمات/ التطهير/ إعادة تأهيل الضحايا/ التعويض المادي/ المصارحة والكشف عن الحقيقة، أن معضلة العدالة الانتقالية في هذه الدول الأوروبية الثلاثة من خلال مسار تحولها من دول شمولية إلى دول تحظى بصفة الديمقراطية، يجعلنا نستخلص درسا أساسيا نستنتج على ضوئه أن هذه الدول عملت قدر الإمكان على تحاشي سياسة المحاكمات، وأطلقت سراح العديد من المعتقلين المنحدرين من أوساط نافذة وحتى قبل إنهاء عقوباتهم لدواعي إنسانية بالأساس ولأسباب أخرى، وحتى محاكمة جنود حرس الحدود الذين اضطروا لاتخاذ قرارات رهيبة في وضع جد محموم حينما أطلقوا النار على إخوانهم من المواطنين الهاربين من جحيم اليأس في ألمانيا الشرقية بقصد تخطي حاجز حدود جدار برلين أملا في دخول تراب ألمانيا الغربية، فإن قرارا كهذا لم يحظ مطلقا بأية شعبية تذكر، ونظر إليهم الرأي العام الألماني ومؤسستهم القضائية على حد سواء بنظرة ملؤها العطف والشفقة، وعوض ذلك التجأت هذه الدول ومجتمعاتها إلى اعتماد آلية أو سياسة التطهير، لعلاقة وضع كهذا باستفحال عوامل الفساد الإداري والريع السياسي والاستبداد، وأيضا نظرا لطبيعة هذه المجتمعات وسياقاتها التاريخية الخاصة .