رأي

العربي الرودالي: للثقافة أيضا أخلاقها

-الثقافة منتوج شمولي، بشتى التصورات والأنماط والسلوكات...منتوج يتنامى ولا ينقطع على مدى الكون..فهي من تصنع مفاهيم الوجود والإنسان والتاريخ والمعرفة... وتمثل بتميزها شعوبا وحضارات وأجناسا...وحين تضيع، تضيع معها مقومات الإنسان وكيانه: الهوية والقيم والمثل والآفاق...من هنا فهي تمثل في موطنها خاصة، أدوارا ووظائف ومهنا وكل المسؤوليات النشيطة ، ذهنية كانت أو حركية...

- وانطلاقا من جوهرها هذا، يمكن أن نميز ونفصل بين كل من "ثقافة عالمة" و"ثقافة حالمة".. على أن الأولى، مهما كانت، فهي"النحن" بما نمتلكه من أدوار ذات مصداقية لاختيارنا لها، كاحتراف وامتهان، سواء كانت تراثية أو حديثة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر،الصناعات"التقليدية"والحرف اليدوية والخدماتية وغيرها من جهة..ومن أخرى كل التخصصات العلمية والدراسية، كالطب والتعليم والقضاء والهندسة وأنواع التقنيات، وأيضا الاشتغالات المؤسساتية والسياسية وكذا الجمعاوية، من جهة أخرى.. أما الثانية، أي "الثقافة الحالمة"، فهي كل ذائقة موهوبة وملهمة لذواتنا، بانفتاحها في/وعلى الكيان الذاتي الذي ترتبط به تنويرا وجماليا.. وقد تكون، دون حصر، إما هواية أو نشاطا فكريا أو أدبيا أو فنيا، فتمثل الرأسمال المعنوي للمجتمع، كالنقد والإبداع والفنون والرياضات... وإذا وعينا أخلاق هذه الطاقات والملكات، بإيجابية لديها، نحولها إلى وظائف نهواها، لتخدم رقي الأمة ذوقيا وتربويا..وهكذا يتموقع المثقف مسؤولا مبدئيا عن ثقافته، محبا ووفيا لها في الانتماء..فالمسألة إذن هي مسألة أخلاقيات الذات العارفة والماهرة والذواقة بما تتلقى وما تنتج، بوعي وحماس.

- وإجمالا فإن علاقة الثقافة بمن يتبناها أو يختارها بشتى أنواعها واختلافاتها، لا تتوطد إلا متى كانت تعلي صاحبها إلى مرتبة مثقف عضوي أو مثل يقتدى، ويكون هو جدير بها وبالدور الذي هي منوطة به،فيعتز بها ويوظفها لعلو شأنه أخلاقيا وشأن مجتمعه حضاريا

- هذه النماذج من الثقافات التي صنفت في السياق المذكور، هي من يتحمل مسؤولية المشروع الحضاري للمستقبل إن وجدت بأخلاقها،لأنها من أسس ومعالم نهضة الشعوب.. ولهذا فالثقافة بأخلاقها تبدأ من حيث يبدأ الاشتغال، فتقوده وتتماشى معه، وتشع فيه وتستنهضه... فكل مسؤول، كان رئيسا أو مرؤوسا،عاملا أو رب عمل، موظفا أو مديرا، وزيرا أو برلمانيا... هو مواطن قبل كل شيء بحسه وأخلاق ثقافته.. فالطبيب مثلا لا حصرا، له ثقافته تسبق الدخل لديه، وكذا الأستاذ والمحامي والقاضي والمهندس، بحيث لا يكون في حسبانهم القبلي إلا تطوير طرق الاستشفاء وإمكاناته، وتنمية مناهج التعليم ونجاعته، والدفاع عن الحقوق وتكريسها، والقيام بالعدل ونزاهته، وضبط التخطيط وإتقانه...ليتمكن الجميع من أداء مهمته بشكل مثالي ومبدئي.. فعندما تسند مأمورية ما، يجب أن توقظ في الذات، لدى الفرد أو الجماعة، شروط تفعيل المواطنة والتفاني فيها، إلى حد عدم التوقف عن النقد الذاتي، حتى لا يسمح كل فرد لنفسه بالتهاون أو التخلي أو الإهمال، إذ هو قبل كل شيء مسؤول على أخلاق مهنته، التي هي ثقافته، والتي تجعله يستحق كل تقدير...

- ولذا نتساءل أين منا نموذجا من أخلاقيات الثقافة هذه، ونحن نرى الإفساد ينخر جسد الوطن بأساليب غير مسؤولة، والجشع يسطو على مقدرات البلاد، والإهمال يشل التطور ويعدمه؟...فهل نرضى، بلا اكتراث، بأن نشاهد التخلف قابعا بجانبنا، دون إحساس أو غيرة على الوطن وأبناء الوطن... ثم، والحالة هذه، نغض النظر عن الضياع وهو يطال كل شيء في عقر الدار والانتماء، أطفالا وشبابا وطاقات؟ كما نرى، ونحن سعداء سلبا، الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لا تستقيم أبدا في الوطن، فنصمت ونغفل، ونحتسي "نخب" اللحظة المزيفة ونرقص على الجراح.. إن أي شخص لا يؤمن بأخلاقيات ثقافته فهو لا يستحق مسؤوليته،إذا كانت هذه الثقافة لا تحترم نفسها وتعمى عن واقعها ؟..فمن لا تهذبه ثقافته لا قيمة له، ولها.. حبذا إذن لو تخلقت وتشبعت بثقافتها الصرفة كل نخبنا، فيبنون المستقبل، ملتزمين مع قواعدهم وأتباعهم والمشتغلين معهم، والذين هم تحت إمرتهم، ليربوا فيهم الاعتزاز بنجاح منجزاتهم، والافتخار بصعود نجم وطنهم..فهل يصح أن نتملص من واجباتنا ونتنكر لأخلاقيات ثقافاتنا؟ ..ثم، إلى متى نخاطب بعضنا بقول "أنت.. ولست أنا"؟

*باحث متخصص في علم الاجتماع