تحليل

المغرب والجزائر والأزمة القطرية الخليجية

خالد فتحي

من مفارقات أزمة الخليج اتفاق المغرب والجزائر الجاران اللدودين اللذين يخوضان صراعا منذ أزيد من أربعة عقود على موقف موحد من مشكلة شائكة كل مؤشراتها تدل على توجهها إلى الاستفحال وشطرها العرب انشطارا إضافيا يستند على الاصطفافات القائمة سابقا بين دولهم، وذلك بإعلانهما التضامن مع قطر ضد الدول المقاطعة لها. وإذا كان موقف الجزائر المنسجم مع مواقفها عربيا، أتى كما توقع له المحللون للشأن السياسي العربي، فإن موقف المغرب شكّل مفاجأة غير منتظرة للجميع؛ بل وكان مباغتا لأغلب أطياف الشعب المغربي، حيث كان يفترض ولادته مؤيدا للحصار واصطفافه بجانب السعودية والإمارات نظرا للعلاقات الإستراتيجية المتميزة الذي تربطه بالبلدين؛ وهو ما أظهر طبيعة الميكانيزمات المركبة التي يخضع لها اتخاذ القرار الدبلوماسي في المملكة المغربية، والتي يتداخل فيها الوطني بالدولي، بل ويطرح أكثر من سؤال حول فحوى هذا الاصطفاف الجديد للخارجية المغربية من قبيل مدى عكس هذا الموقف المعلن لحقيقة الشعور الرسمي والشعبي المغربيين.

أبرزت مسارعة الجزائر إلى مساندة قطر حرصها البقاء ضمن معسكرها الدائر في فلك القطب الإيراني، وهو موقف يرد الصاع صاعين حسب حكام المرادية لدول خليجية كبيرة اتخذت دائما مبادرات رادعة لمشروعها الرامي إلى خلق دويلة البوليساريو جنوب المغرب فوق صحرائه المسترجعة منذ 1975. هذا الردع الذي بلغ حد أن دولتين كالإمارات والسعودية كانتا تدعمان بوزنهما المالي والنفطي صمود المغرب في الحرب الاستنزافية للعصابات الانفصالية بدعم من الجزائر وليبيا القذافي بتأدية رواتب الجنود والموظفين المغاربة والاستثمار في المشاريع الاجتماعية والخيرية والعقارية والسياحية في السنوات العجاف. وبذلك كان الوقوف ضد الحصار خيارا وحيدا مطروحا للجزائر، خصوصا أن قطر لم تستهدف النظام الجزائري بالرغم من مثالبه الكثيرة، ولا سعت إلى تثوير الشارع الجزائري أو تأليبه على حكامه من خلال نشرات ذراعها الإعلامي الضارب، قناة الجزيرة، خلال موجة الربيع العربي التي ضربت البلدان العربية، متجاهلة الانسداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي البين في الجزائر، وانعدام الأفق الديمقراطي في بلد المليون شهيد، بالإضافة إلى غضها الطرف عن المرض المزمن لبوتفليقة الذي يسير شؤون أكبر بلد عربي إفريقي فوق كرسي متحرك، وهو ما كان مفروضا أن يشكل مادة دسمة لصحافيي الجزيرة، ناهيك عن تخاذلها في تلميع صورة التيار الإسلامي سيرا على نهجها في البلدان العربية، وبالتالي عدم الأخذ بيده نحو مصعد السلطة في بلد يشن نظامه حربا مبرمجة طويلة النفس ضد حركات الإسلام السياسي منذ الانقلاب على نتائج الانتخابات التي فاز بها مدني سنة 1989.

يبدي تحليل هاته العناصر أن الموقف الجزائري نبع من العلاقة النفعية التي تجمع بين قطر والجزائر، بالرغم من الاختلاف البين بين النظامين، ويتساوق مع الهدنة الضمنية التي يتمتع بها حكام الجزائر من قبل الآلة الإعلامية القطرية. ومن ثمّ، كان طبيعيا أن الجزائر أول بلد مسلم يصدر بيانا يدعو إلى تبني الحوار كحل للمشكلة الطارئة مشددة على ضرورة التحلي بحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومستبقة أي تطور عسكري للأزمة بالتأكيد على احترام السيادة الوطنية في كل الظروف.

لكن المغرب سيتأخر على غير عادته 6 أيام ليصدر بيان خارجيته؛ وهي المهلة التي رأى الكثير من المعلقين السياسيين أنها استغلت لانتظار وضوح الرؤية، وتجميع المعطيات وتقليب الرأي ودرس السيناريوهات الممكنة للصراع وانعكاساته المرتقبة على المصالح المغربية المرتبطة بالدول المتناحرة.

من نافلة القول إن المغرب يتحرك في المجال الدبلوماسي بوحي من هواجسه الخاصة. لذلك، ستحضر مشكلتا الوحدة الترابية والاستقرار الأمني بقوة أثناء بلورة القرار الذي جاء غير مختلف عن القرار الجزائري من حيث المضمون. فهل أخلف المغرب الموعد مع حليفيه الاستراتيجيين، الإمارات والسعودية؟ وهل اتخذ القرار المناسب للنأي عن صراعات الإخوة الأعداء؟ وما هي مكاسبه من الموقف مع قطر؟ وما هي انعكاسات ذلك على علاقاته الوثيقة مع الملكيات الخليجية؟ وهل نحن أمام اصطفاف جديد للدبلوماسية المغربية؟ أم أن المغرب المستوثق من صلابة تحالفاته قرر هذه المرة ببراجماتيته المعهودة فيه منذ أخذ العاهل المغربي بنفسه ملف العلاقات الخارجية، ومنذ انتظام الاحتجاجات الشعبية المرتبطة بارتدادات الربيع العربي أن يلعب أوراقه في الداخل والخارج بذكاء واستقراء صحيح للمستقبل معولا هذه المرة على تفهم حلفائه الكلاسيكيين لظروفه الخاصة. فيستثمر هذا الصراع لتمنيع نفسه مجددا ضد رياح المشرق العربي الغارق في التقاطبات المذهبية والقبلية والعرقية، والاستمرار كواحة استقرار في خضم العالم العربي المضطرب المشتعل بالأزمات ومحاولات التقسيم، أي أنه اختار تغليب مصلحته الوطنية على ما عداها، خصوصا أنه يعي جيدا بأن هذا الصراع لن يبلغ حد التماس العسكري للوشائج التي تجمع الخليجيين، والتي يعرفها المغرب أكثر من غيره.

في تقديرنا، يمكن إجمال العناصر التي أطرت القرار المغربي حيال أزمة الخليج في خمسة:

1/ نهج المغرب لدبلوماسية مبادرة منذ أن قام الملك محمد السادس بزرع روح جديدة في أوصال الخارجية المغربية للسعي إلى سحب البساط من تحت أقدام الجزائر في المحافل الإقليمية والدولية؛ وهو بذلك يواصل سياسته الهجومية التي استعاد بها مقعده في المعقل الإفريقي، ويحاصر الجزائر في معسكرها، ويمنعها من جني أية ثمار محتملة بخصوص قضية الصحراء المغربية. كما ينزع منها الورقة القطرية تحسبا ليوم يصفو فيه الجو في الخليج. فيزيد بذلك عزلها عربيا، ومنعها من حشد التأييد لمعركتها المفتعلة جنوب المغرب.

2/ لا يجد المغرب غضاضة في التزام الحياد، خصوصا أن سلطنة عمان والكويت نحتا المنحى نفسه، بالرغم من عضويتها في مجلس التعاون الخليجي. وإذا أضفنا إليهما الموقف الأردني، فإن المغرب لا يمثل نشازا بل قراره منسجم تماما مع مواقف الملكيات العربية.

3/ يريد المغرب بهذا القرار تحييد كل الدول المحتمل إزعاجها له في حراك الريف المشتعل منذ ثمانية أشهر، وخصوصا قطر من خلال تحييد الجزيرة ومنعها من تأجيج شمال المملكة وصب الزيت عليه لما كان لها من تأثير في دعم ثورات الربيع العربي؛ وهو في هذا يبعث برسالة مفادها عدم قبوله لأي تدخل في شؤونه الداخلية. على أنه إذا تصفحنا لائحة المطالب للدول الخليجية الأربع نجد ضمنها نقطة الجزيرة، وهو ما يجعل موقف المغرب متفهما من لدن حلفائه التقليديين، خصوصا في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به استقراره الاجتماعي.

4/ أنه كان لافتا للنظر مسارعة إخوان المغرب الممسكين بدفة الحكومة للتضامن مع قطر ضد الدول الأربع. ولذلك، فإن المغرب بقراره الدبلوماسي الفطن تفادى أي صدع أو تناقض في المواقف بخصوص هذه الأزمة على المستوى الرسمي والشعبي، وهو ما كان سيعني مشكلة إضافية لحراك الريف؛ بل إن المغرب يضرب هكذا أكثر من عصفور بحجرة واحدة، إذ يمكنه هذا القرار من رفع يد قطر عن أي تدخل لها مستقبلا في الشأن السياسي المغربي من خلال دعمها المعهود لتيار الإسلام السياسي بالعديد من الدول العربية، وتحييدها إعلاميا في التجاذبات المقبلة بين هذا التيار وبين الدولة، والتي كان الانحباس الحكومي آخر تجلياتها. والمغرب باستبعاد هذا العامل الخارجي، سيكون له إعادة ترتيب أوراق البيت السياسي المغربي بما يمنع الهيمنة المتزايدة لهذا التيار على مفاصل الدولة. وفي النهاية، فإن تحييد قطر في لعبة التفاعلات السياسية المغربية يلتقي مع الأهداف البعيدة للتحالف الرباعي من محاصرة قطر.

5/ من الواضح أن مواقف المغرب والجزائر تبقى مهمة معنويا فقط. ودون تأثير ميداني نظرا لبعد المسافة، وانعدام الحدود ولا مبالاة الشعوب المغاربية التي ترى الخليج عائلة واحدة، فلا تلقي بالا لخلافات تعتبرها مجرد سحابة صيف ستنقشع؛ لكن المغرب الذي تنظر خارجيته إلى المواقف الدبلوماسية بصفتها قروضا يتعين سدادها يوما ما، تكون بهذا القرار قد طوقت عنق كل البلدان الخليجية. فهو بمشاركته منذ 3 سنوات في عاصفة الحزم التي تقودها السعودية باليمن. وبادر بقطع العلاقات مع إيران تضامنا مع البحرين. ناهيك عن دوره في تحرير الكويت بعد اجتياح العراق، ويرتبط بعلاقات وشيجة مع الإمارات من خلال الصداقات المتينة لملكه مع الأمراء الإماراتيين. وحتى مصر فإن المغرب تعامل معها بحياد بعد وصول السيسي إلى السلطة، بالرغم من مناوشاته الخاصة بالصحراء. وبهذا الموقف المحايد الأخير يستكمل المغرب ديونه على عاتق كل حكام الخليج.

6/ هذا البراجماتية تؤهل المغرب للعب أدوار أكثر حيوية في إعادة الدفء إلى العلاقات الخليجية الخليجية في المستقبل، ويجعله ورقة رابحة مقبولة من الجميع سعوديين وإماراتيين وحتى قطريين للحم الصف الخليجي المحكوم عليه بالوحدة والتضامن. كما يحافظ على الشخصية المستقلة للدبلوماسية المغربية، ويجعلها لا تظهر كتابعة لأي جهة، وعلى وجاهة وفاعلية الصوت والموقف المغربي فيما سيستجد من مشاكل إقليمية، ويجعل منه حليفا قويا للسعودية في المحافل الدولية، وفي الأزمات الكبرى التي تتجاوز الركح الخليجي.

والآن سنتساءل حول انعكاس هذه القرارات على العلاقات المغربية السعودية الإماراتية لنشير إلى:

1/ أن موقف الشارع المغربي تميز بالبرود تجاه هذا الموقف الحيادي، حيث لم تسجل مواقع التواصل الاجتماعي منحى واضحا، خصوصا أن المغاربة جد منقسمين بشأن تقييم أداء قناة الجزيرة، المارد الإعلامي لقطر الذي خبروا دوره في إذكاء الحراك العربي بين مؤيد ومعارض، كما أنهم واعون بأن أكبر جالية مغربية بعد أوروبا توجد بالإمارات والسعودية، ومتيقنون من متانة العلاقات بين المغرب وبينهما، والتي لا يمكن أن تتأثر بحدث عابر، خصوصا أن الموقف المغربي ليس له تأثير فعلي في مجرى هذه الأزمة التي لن تصل في تقدير المغاربة إلى التدخل العسكري.

2/ بالرغم من الامتعاض الذي أبدته بعض وسائل الإعلام بمبادرتها إلى بتر الصحراء من خريطة المغرب، فإنه لم يتحول إلى موقف رسمي؛ بل لم يكن له صدى حتى بالأوساط الشعبية المغربية المعروفة بحساسيتها الكبيرة تجاه مشكلة الصحراء، وهو ما أشر على إستراتيجية وعمق الصداقة المغربية السعودية الإماراتية.

3/ لم يأثر الموقف المغربي في الأجندة الملكية السعودية، ولا أدى إلى قطع الزيارات التي يقوم بها أفراد العائلات الحاكمة بالإمارات والسعودية للمغرب قصد الاستقرار أو السياحة أو الاستثمار.

4/ يمكن القول إن السعودية والإمارات والبحرين لم تثمن هذا الموقف المغربي؛ ولكنه لم يسوءها؛ فالعلاقات بينها وبين المغرب يمكنها أن تحتمل مثل هذا الموقف من حليف كان دائما إلى جانب الجهة الخليجية كلما تعلق الأمر بصراع ضد جهة غير خليجية كاليمن وإيران مثلا.

5/ يعطي حجم الثقة المتبادلة بين الأنظمة الملكية في الخليج وبين النظام الملكي المغربي الذي كان مرشحا لعضوية مجلس التعاون الخليجي الانطباع بالمغرب أو بالسعودية والإمارات أن المغرب معهما في السراء والضراء من خلال المشاعر الطيبة التي تكنها الشعوب فيما بينها. ولذلك، فإن المغرب بتصريف حياده سيعمل على كسب قطر وتليين مواقفها من القضايا العربية ويترك لها شعرة معاوية مع الحضن العربي حتى لا ترتمي كليا في الحضن الإيراني الشيعي، وهو ما سيشكل مكسبا للمغرب وللأمة العربية في مقبل الأيام.

وأخيرا، يمكن القول إن السعودية والإمارات والبحرين لا تحنق على المغرب حياده؛ لأنه موقف دول عربية وازنة، ولأنها ترى سيفه معها في اليمن وفي مواجهة المد الشيعي، وإن كان قلبه اليوم مع قطر.

إن العبرة بالأفعال لا بالأقوال؛ بل يمكننا القول إن الموقف المغربي تكتيكي أكثر منه إستراتيجي، وقد يتحول غدا هذا التقارب المغربي القطري إلى فعل استراتيجي، إذا عاد الوئام إلى البيت الخليجي وتصرفت دوله كعائلة واحدة.. وهذا ما نأمله في المغرب لأمتنا العربية.. وفي انتظار ذلك، للمغرب دور توفيقي يلعبه. بقي أن أشير إلى أن المغرب قد خلط أوراق الجزائر وأفقدها القدرة الاستباقية على توقع قراراته، وهذا ما يمنعها إلى النفاذ إلى حقيقة مواقفه المعلنة وغير المعلنة.