رأي

الزكري عبد الرؤوف: هل المدرسة في مخاض الفوضى الخلاقة؟

سيرا على درب العبث المنهج، وإمعانا في إغراق المدرسة في قاع لا قرار له، رغم المقاومة التي تبديها نساء ورجال التعليم في الحيلولة دون السقوط المريع، الذي تذكيه المشاريع الإصلاحية الفاشلة التي لا يستشارون فيها ولا يؤخذ برأيهم قبل تنزيلها، ها هي اليوم تشهد فصلا آخر من فصول العبث والفوضى بتعطيل المذكرة الإطار للحركة الانتقالية، وتنظيم حركة خارجة عن قيم الاستحقاق والتنافس الشفاف والنزيه، وتراجع الوزير عن تصريحاته بصددها أمام ممثلي الأمة، وإعلان نتائج يحار المرء في تحديد بواعثها والدوافع الكامنة ورائها التي هي بالتأكيد لا تربوية ولا قانونية.

المدرسة تخليق للمجتمع لالتزامها القيمي:

كانت المدرسة ملجأ لطلب التخليق كلما استفحلت ظاهرة موبوءة في المجتمع، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو البيئي... فطالما احتضنت فضاءاتها أنشطة تحارب الرشوة، أو تدعو إلى المساواة والأخوة الإنسانية ومحاربة التمييز، أو التربية على السلوك المدني وقيم المواطنة والاهتمام بجمالية المحيط والاعتناء به، أو التنبيه إلى آفات اجتماعية تنخر المجتمع.

وما كان لها أن تتبوأ هذه المكانة في إعادة الرشد للمجتمع، وتتصدر ضميره وأناه الأعلى، إلا لأحقيتها وأهليتها لذلك بما تحمله من قيم، وما تبشر به من أخلاق تربي عليها النشأ ويلتزم بها الفاعلون في منظومتها وتحببها لكل روادها. فلا حديث بين جدرانها إلا عن النزاهة والاستحقاق وتكافؤ الفرص وهلم جرا من الترسانة القيمية التي تطفح بالعدل والإنصاف والحق. فأين هي اليوم من هذه الحمولة القيمية؟ وهل تحول دورها التاريخي في زرع الأمل إلى نشر اليأس وانقطاع الرجاء؟

أهمية القانون لمدرسة المواطنة:

لا يمكن للمرء أن يتغافل دور المدرسة في ترسيخ السلوك المدني وقيم المواطنة، وهو الموضوع الذي أفردت له المنظومة التربوية مصوغات في غاية الجدة والحداثة، وواكبته بتشريعات تنهل من الكونية في توفيق مضني مع الخصوصية. ومن نافلة القول، إن التربية على القيم تقتضي الإيمان بها أولا، ثم الالتزام بها ثانيا، حتى لا يصدق علينا قول الشاعر: "هلا لنفسك كان ذا التعليم".

والتربية كشأن مجتمعي، لا يكتب لمؤسساتها التوفيق والنجاح بدون تشريعات وقوانين تحدد الواجبات والحقوق لكل طرف ضمن منظومتها، والتسيير الفعال لمرافقها ومواردها. فما وجد مجتمع إلا وجد قانون، ينضج ويتطور تبعا لرقي وتقدم المجتمع. ومن أهم أهدافه "حماية أفراد المجتمع، ودوره الأساس قائم على توزيع الحقوق والواجبات بطريقة عادلة وحماية المصلحة العامة للأفراد"؛ لأنه هو المرجع الموضوعي حين تتعارض المصالح، ويتهدد السلم الاجتماعي، وهو الحامي لكرامة الإنسان من أن تهان، وبه حريته تصان، والرفيع والوضيع أمام عدالته سيان.

التراتبية الإدارية والوظيفة التربوية:

توخيا للجودة في المردودية التعليمية وسعيا إلى الفعالية التدبيرية للموارد البشرية والمرافق المؤسسية، كان لا بد من توزيع المهام والمسؤوليات بين الفاعلين في النسق التربوي والشركاء في المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

وقد اقتضت الضرورة أن يكون التوزيع هرميا وعموديا، فهو لا يعكس سلطوية، بقدر ما يعكس توزيعا للأدوار والوظائف يسمح لعجلات المنظومة بأن تدور دافعة المركبة التربوية إلى الأمام بتأدية كل طرف لدوره في إطار ما أنيط به من مسؤوليات يحددها القانون يسهر على تطبيقه جهاز إداري المفروض فيه النزاهة والحياد بمرجعية قانونية لا تحابي أحدا مهما كان موقعه في الهرم التربوي، بعيدا عن السلطوية واستخدام أسلوب الأمر والنهي الذي لم يعد ينفع حتى مع الأطفال الصغار.

إن مجتمع المؤسسات الذي تسعى المدرسة إلى تشييده هو مجتمع القانون، الذي إحدى تفريعاته القانون الإداري المنظم لعمل السلطة التنفيذية وكيفية إدارة المرفق العام والمال العام، كما يحدد العلاقة بين الدولة والموظفين. وهو مرجع كل مسؤول أو ينبغي أن يكون كذلك، في تعاطيه مع مصالح الموظفين تعيينا ونقلا وترقية وأجرا وإعارة... والموظفون أمام بنوده كأسنان المشط لا يفرق بينهم إلا الاستحقاق.

فمتى شعر الموظف بالعدل يسود في مؤسسته، تحصل له الرضى، فأقبل بحماس في أداء واجبه المهني وارتفع منسوب مردوديته، وتقل إذا شعر بالغبن والظلم في توزيع الغنائم ومنح الامتيازات، بعيدا عن منطق الحق والقانون، وضدا على القانون الذي يلقى به بعيدا، والاستحضار المعيب لمزاجية وسلطوية من هو في أعلى الهرم الإداري ممارسا "الحكرة" على الحلقة الأضعف في المنظومة، ويجعلها مشجبا لكل الإخفاقات والتعثرات. ويهمل التدبير الإداري الذي هو على رأسه يسبح في العبثية والفوضى.

الفوضى والفوضى الخلاقة:

إن تنظيرات فوكو ياما وصموئيل هنتجتون في المجالين السياسي والحضاري تنسحب على المجال التربوي باعتباره فعلا حضاريا وسياسيا؛ لأن ما يشهده الحقل التعليمي من تضخم في الخطاب حول الإصلاح والتأهيل ورد الاعتبار للمدرسة العمومية وجعلها نقطة جذب للمتعلم، يتكسر على صخرة إجراءات ما فتئت تتوالى على المنظومة ما إن تستوعب إحداها حتى تلحق بها الأخرى إمعانا في إنهاكها.

فبعد أن تم إغراق المنظومة بأساتذة متعاقد معهم في الأسابيع الأخيرة من الموسم الدراسي، دون تكوين مسبق، مع أن التكوين الأساس حق للأستاذ على الدولة، وما نجم عنه من صراعات على مستوى المجموعات المدرسية في إسناد الفرعيات والمستويات، وإلحاق البعض بمدارس هي حلم ينتظره الكثير من الأستاذات والأساتذة المرابطون في الفيافي والقفار لسنوات قد تتجاوز العشرين، ها هي اليوم الوزارة تقبل على تدبير حركة انتقالية ضاربة عرض الحائط المذكرة الإطار، منسلخة من الالتزامات القانونية والأعراف المهنية التي تدعو إلى تربية النشأ على تحقيق مواطنتهم بها، وخلق الشقاق والرشق اللفظي بين الأساتذة الذين كانوا بالأمس أسرة واحدة.

إن إقصاء الأستاذ من الحركة التي دعي إلى المشاركة فيها هو إهانة ودوس لكرامته، ومعمق لليأس الدافع للكثيرين إلى اختيار التقاعد النسبي على الاستمرار في مهنة لم تعد هناك من جدوى للممارستها سوى كسب القوت وانتظار الموت، فاتحين المجال للقطاع الخاص المخلص من أعباء الخدمة العمومية المجانية التي تتعرض "للهدم البنا"، بتعبير مايكل ليدين، عبر إجراءات حكومية غير مبالية بالأصوات الداعية إلى جودتها، والالتفاف عليها بخلق الأزمات و"افتعالها وإدارتها بنجاح، لفرض مصالح محددة. ويترتب على هذا النوع من الأزمات تفكيك للمنظومة المعنية أو المستهدفة، مما يسهل الولوج إلى مكوناتها الأساسية، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار النظام وإعادة تشكله بطريقة تعكس تلك المصالح». فالنظام ينشأ من الفوضى، والفوضى تحدث الخراب الذي يقام على أعتابه النظام (نيقولا ميكيافيلي).