تحليل

سيناريوهات مابعد خطاب العرش .. حلّ البرلمان وإعفاء الحكومة

ميلود بلقاضي

شكل خطاب عيد العرش بمناسبة الذكرى الثامنة عشر بلغته القوية -التي منحته آفاقا جديدة-وبمضامينه الصارمة وبرسائله الواضحة، الحدث الأبرز نهاية الأسبوع؛ حيث إنه فضح حقيقة الفاعلين وعرى واقع المؤسسات الحكومية والحزبية والسياسية والمنتخبة، وكشف العقلية المتحجرة للمسؤولين في سياق وطني دقيق وصعب ومأزوم في كل المجالات التنموية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى التدبيرية. تحديات دفعت ملك البلاد إلى أن يضع المسؤولين، من وزراء وولاة وعمال ورؤساء جهات وجماعات ترابية وزعماء أحزاب، بين خيارين: إما الاستقامة أو الاستقالة.

خطاب عيد العرش لهذه السنة جاء خطابا وصفيا لمؤسسات ولفاعلين قاصرين وعاجزين برهنت آليات اشتغالهم وتدبيرهم للشأن العام على أنهم لا يحسنون تدبير المشاريع وإدارة الأحداث، الأمر الذي جعل الخطاب الملكي يتفاعل مع هذا الواقع بتشكيلة خطابية متميزة على أكثر من مستوى.

خطاب دون مقدمة مطولة:

خلافا لباقي خطابات عيد العرش السابقة، نهج جلالة الملك مقاربة انكلوساكسونية في صياغة خطاب العرش لسنة 2017؛ حيث تحاشى المقدمات الطويلة ودخل في هذا الخطاب مباشرة إلى عمق القضايا التي تشغل باله وبال شعبه، مؤكدا أنه سيمارس مهامه الدستورية كرئيس دولة –ف42-لإعادة التوازن لمؤسسات فقدت مصداقيتها ومشروعيتها ونجاعتها وهيبتها وأصبحت تشكل خطرا حتى على النظام السياسي ذاته. وعليه، فغياب مقدمة الطويلة في خطاب عيد العرش لهذه السنة يؤكد أننا إزاء نمط جديد من التواصل المؤسساتي إطاره العام نظرية التواصل الاقتصادية.

لغة خطاب عيد العرش:

جاءت لغة الخطاب متينة وصارمة وواضحة لوعي منتج الخطاب – أي الملك-بوزن الكلمة في صناعة الفعل السياسي وتوجيه الرأي العام. لغة برهنت على أن منتج الخطاب – أي جلالة الملك-يضع المواطن جوهر كل تنمية بغض النظر عن موقعه المجالي أو الجغرافي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاثني أو العمري أو الجنسي. لغة أحدثت زلزالا في نفوس المستهدفين وانتصبت في الخطاب الملكي كسلط تذكر الفاعلين والسياسيين والوزراء والعمال والولاة ورؤساء الجهات والمجالس المنتخبة بأنهم أصبحوا يعيشون خارج تاريخ مقتضيات دستور 2011 وخارج زمن عهد الملك محمد السادس، وبأنهم أصبحوا– أيضا-عائقا انطولوجيا أمام تحقيق التنمية وخدمة المواطن، مما جعل ملك البلاد يرد على هذا الوضع في خطابه بلغة جازمة وصارمة قائلا: "هذا الوضع لا يمكن أن يستمر؛ لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. وأنا أزن كلامي، وأعرف ما أقول … لأنه نابع من تفكير عميق".

يتبين من لغة الخطاب أن ملك البلاد اختار كلمات خطابه بدقة وعناية كبيرتين لوعيه بسلطة الكلمة في مجال السياسة، خصوصا في سياق حراك الحسيمة وفي عز انهيار الوسائط الاجتماعية، إنه الوعي الملكي بأسرار دلالات كلمات خطابه بهدف إنتاج خطاب قوي لعله يزلزل عقول فاعلين ومسؤولين اعتقدوا أن الدولة قد فقدت هيبتها وسلطها بعد الربيع العربي.

تكتيك واستراتيجية خطاب العرش:

كل خطاب سياسي له مستويان: مستوى تكتيكي يصرح فيه بأشياء، ومستوى استراتيجي يحجب فيه أشياء. وخطاب العرش لا يخرج عن هذه القاعدة، تكتيكيا عرى الخطاب واقع المؤسسات الحكومية والسياسية والإدارية وأعرب عن عدم ثقة الملك فيها، طالبا من كل مسؤول فيها إما الاستقامة أو الاستقالة.

أما استراتيجيا -وهذا هو الأهم الذي لم يتناوله العديد من الباحثين والإعلاميين-فقد سكت الخطاب الملكي عن الإجراءات التي سيتخذها جلالة الملك في حق كل هؤلاء الفاسدين والمفسدين، كانوا وزراء أو ولاة أو عمالا أو برلمانيين أو سياسيين، وسكت – أيضا –عن آليات أجرأة هاته الإجراءات وتوقيتها، وهذا هو ما ينتظر الشعب، خصوصا أنه يتعطش لمعرفة مآل تقارير لجنة المفتشية العامة للإدارة الترابية ووزارة المالية التي شكلت للبحث في تعثر المشروع التنموي المتعلق بمنارة المتوسط.

وعليه، نقول بأن قوة أي خطاب تتجلى في مدى الالتزام بأجرأة مضامينه على أرض الواقع للبرهنة على أن زمن الانفلات من العقاب قد انتهى، وأن زمن التطبيق الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة قد حان ضد عدة جهات ومسؤولين أساؤوا-كثيرا-للاستثناء المغربي وطنيا وإقليميا ودوليا، وقد بلغت حدة الغضب الملكي اتجاههم إلى أقصى درجة مخاطبا إياهم: "كفى، واتقوا الله في وطنكم... إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا"، جملة عادية لكنها تحمل بين طياتها حمولات دستورية قوية قد تظهر تجلياتها قريبا.

الجهات والمسؤولون المستهدفون في خطاب عيد العرش:

أشاد الخطاب الملكي بالمخططات القطاعية كالفلاحة والصناعة والطاقات، لكن انتقد –بشدة-برامج التنمية البشرية والترابية التي لها تأثير مباشر على تحسين ظروف عيش المواطنين، والتي لا تشرف ملك البلاد لكونها أصبحت برامج عرقلة وليس برامج تنموية. ومن أهم الجهات التي استهدفها الخطاب الملكي: رئيس الحكومة وبعض وزرائه-وزارة الداخلية وبعض أطرها المركزيين والجهويين والمحليين، خصوصا العمال المسؤولين عن ملف برامج التنمية البشرية– 10 ولاة جهات – 8 رؤساء جهات -10 مديري مراكز جهوية للاستثمار-قادة الأحزاب السياسية – المسؤولون المنتخبون – عمال 10 جهات-سفراء وقناصل– مديرو المؤسسات العمومية– الكتاب العامون للوزارات.

رفض الملك الاختباء وراء القصر الملكي:

من المفارقات الغريبة التي ركز عليها خطاب العرش هو أن التطور السياسي المغربي لم يؤثر في تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة؛ حيث إن عقلياتهم ما زالت سجينة العهود السالفة، وما زالوا يمارسون أسلوب المناورة حتى مع المؤسسة الملكية من حيث تسابقهم إلى الواجهة للاستفادة سياسيا وإعلاميا حينما تكون النتائج ايجابية، لكن عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي لتبرير فشلهم.

ونلاحظ –هنا-كيف تحدث الخطاب الملكي عن "الاختباء وراء القصر الملكي" وليس وراء "القصر"، لكون صيغة "القصر الملكي" أكثر دلالة من مفهوم "القصر" للرد على من يروج فكرة "التحكم" أو تدخل "القصر الملكي" أو "الدولة العميقة" أو "المحيط الملكي" لإلقاء مسؤولية فشلهم على القصر الملكي.

حراك الحسيمة وخطاب العرش:

عكس كل التوقعات، لم تحتل احتجاجات إقليم الحسيمة مكانة كبرى في هذا الخطاب، بل حضرت مرة واحدة وبشكل عرضي أثناء حديثه عن الفراغ المؤسساتي الخطير للأحزاب السياسية التي تخلت عن أدوراها ومهامها، "لتجد القوات العمومية نفسها وجها لوجه مع الساكنة، فتحملت مسؤوليتها بكل شجاعة وصبر، وضبط للنفس، والتزام بالقانون في الحفاظ على الأمن والاستقرار. وهنا أقصد الحسيمة"، رغم أن ما وقع يمكن أن ينطبق على أي منطقة أخرى، وأن المقاربة الأمنية فرضت نفسها ولكن في تطبيق القانون واحترام المؤسسات، وضمان أمن المواطنين وصيانة الممتلكات نتيجة التراجع الخطير للأحزاب ومثيلها في القيام بأدوار الوساطة.

ويلاحظ المختص في تحليل الخطاب كيف عمل الخطاب الملكي على عدم تهويل الحراك بإقليم الحسيمة حتى لا يعطي الانطباع بأن الإقليم يعيش أوضاعا استثنائية وخطيرة؛ لذلك تم التركيز في الخطاب على ما هو أهم من أحداث الحسيمة، ألا وهو أسباب وعوامل الحراك بالحسيمة التي ترتبط بالريع السياسي وبالفساد الانتخابي والإداري وبضعف الحكامة وبتواطؤ السلطات المحلية وبالحسابات السياسوية الضيقة بين حزبي الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية.

موقف الملك من السياسة والسياسيين في خطاب عيد العرش:

خص الخطاب الملكي حيزا مهما للسياسيين وللأحزاب مفاده أنه أصبح لا يثق في عدد من السياسيين، شأنه في ذلك شأن الأغلبية العظمى من الشعب، خصوصا فئات الشباب التي تقاطع الانتخابات والعمل السياسي لكون بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل، وهذا أحد المخاطر المهددة للخيار الديمقراطي بكونه أصبح رابع ثوابت البلاد. وأمام الوضع الخطير، خاطب الملك بلغة صارمة هؤلاء السياسيين الفاسدين بقوله: "كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا. فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون".

مؤشرات تفعيل الملك لخطاب العرش:

المتأمل في شكل تنظيم حفل الولاء ونوعية الشخصيات المدعوة والموشحة بالمناسبة ومنع الوزراء وزعماء الأحزاب من المرور بالقنوات الإعلامية الرسمية للتعبير عن موقفهم تجاه الخطاب الملكي، واجتماع وزير الداخلية مع ولاة الجهات وعمال عمالات وأقاليم وعمالات مقاطعات المملكة، يدرك أن هناك مؤشرات على بداية تفعيل مضامين الخطاب الملكي، وأن قرار الإقالة وتريب المسؤوليات القانونية اللازمة في حق كل الفاسدين يبقى مسألة وقت ليس إلا، مما جعل العديد من المهتمين يفكرون في عدة سيناريوهات ممكنة في حق عدد من الوزراء والولاة والعمال ورؤساء الجهات ومديري المؤسسات العمومية الخ.

السيناريوهات الممكنة وخطاب العرش:

أمام صرامة الخطاب وصلاحيات الملك الدستورية المحددة في الفصل 42، مقابل المفارقات الصارخة والحصيلة الصادمة للسياسات العمومية والتنموية، يمكن استحضار عدة سيناريوهات ممكن أن تقع في الأيام أو الأسابيع أو الشهور أو السنتين المقبلتين، منها:

- تفعيل الفقرة الثانية من الفصل الأول المتعلقة بربط المسؤولية بالمحاسبة، وهنا تبدو مسؤولية رئيس الحكومة واضحة من زاوية تفعيل هذا المبدأ الدستوري بتنسيق مع الجهات المعنية.

- تفعيل مضمون الفصـل 11 من الدستور الذي ينص على أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي؛ وذلك بالدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، وهذا سيناريو مستبعد آنيا لكنه يبقى ممكنا بالنسبة للمدى الاستراتيجي وإن كانت تكلفته جد باهظة.

- بحكم الفصـل 42 الذي ينص على أن الملك هو رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، يمكنه إعفاء رئيس الحكومة الحالي وتعيين رئيس حكومة إما ائتلافية أو حكومة يترأسها رئيس منتم إما لحزب العدالة والتنمية أو لحزب آخر.

- إمكانية لجوء الملك إلى الفصل 47 وتعيين رئيس حكومة إما العثماني أو رئيسا آخر من حزب العدالة والتنمية الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، مع تقليص عدد الحقائب الوزارية والوزراء المنتدبين وكتاب دولة.

- إمكانية إعفاء الملك عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم. بعد استشارة رئيس الحكومة.

- طلب رئيس الحكومة من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة.

- قبول الملك طلب استقالة أعضاء الحكومة بناء على استقالتهم، الفردية أو الجماعية.

- استقالة رئيس الحكومة العثماني وإعفاء الحكومة بكاملها. وفي هاته الحالة تواصل الحكومة المنتهية مهامها تصريف الأمور الجارية إلى غاية تشكيل الحكومة الجديدة.

- إمكانية حل الملك لمجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير حسب منطوق الفصل 51، طبق الشروط المبينة في الفصول 96 و97 و98. الفصل 96 ينص: "للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية وإخبار رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما. يقع الحل بعد خطاب يوجهه الملك إلى الأمة". الفصل 97 ينص: "يتم انتخاب البرلمان الجديد أو المجلس الجديد في ظرف شهرين على الأكثر بعد تاريخ الحل". الفصل 98 ينص: "إذا وقع حل أحد المجلسين، فلا يمكن حل المجلس الذي يليه إلا بعد مضي سنة على انتخابه، ما عدا في حالة تعذر توفر أغلبية حكومية داخل مجلس النواب الجديد".

- إمكانية القيام بتعديل حكومي جزئي وإعفاء بعض الوزراء في انتظار مؤتمر حزب الاستقلال ومؤتمر حزب "البيجيدي" للقيام بتعديل جوهري، إذا ما استمر التطاحن بين أحزاب الأغلبية الحكومية.

بصفة عامة هذه مجرد قراءة متواضعة للخطاب الملكي الذي من الأكيد ستكون له تداعيات يمكن الإعلان عنها بمناسبة خطاب 20 غشت، وهذه مجرد سيناريوهات ممكن أن تقع ما بين سنوات 2017 و2018 و2019، مع الاشارة إلى أن لكل سيناريو تكلفة وتوافق بين المؤسسة الملكية وباقي الفاعلين.