تحليل

الرسائل القوية في الخطاب الملكي

خالد الشرقاوي السموني

إن خطاب جلالة الملك، بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لعيد العرش بتاريخ 29 يوليوز 2017، يمكن اعتباره بالخطاب القوي من حيث المعاني التي حملها، والقوي في الألفاظ التي استعملها؛ فقد حمل العديد من الرسائل القوية والإشارات الكبرى التي يجب أن تشكل أساس العمل المستقبلي، سواء بالنسبة إلى الحكومة أو الأحزاب السياسية أو البرلمان أو الجماعات الترابية.

إن الخطاب جعل خدمة المواطن المحور الأساسي والهدف الأسمى لكل المشاريع التنموية، خصوصا عندما ركز الملك في خطابه على ضعف حصيلة البرامج التنمية البشرية والترابية، وأزمة الإدارة العمومية، وغياب العدالة المجالية.

ومن بين الرسائل القوية التي حملها خطاب العرش، نذكر ما يلي:

أولا: انتقاد شديد للإدارة العمومية وتوجيهات بخصوص الحكامة والنجاعة

وجه جلالة الملك انتقادا إلى القطاع العمومي محمّلا برسائل مهمة وصارمة إلى الإدارة المغربية التي تعاني من ضعف الحكامة ومن قلة المردودية، واعتبر الساهرين عليها غير مسؤولين وينعدم فيهم الحس الوطني والكفاءة وروح الإبداع والطموح اللازم، في حين أثنى الملك على القطاع الخاص الذي يتسم بالنجاعة والتنافسية بفضل نموذج التسيير القائم على آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز واعتبره قاطرة حقيقية للتنمية.

وقد سبق للملك محمد السادس أن وجه خطابا بمناسبة افتتاح أشغال الدورة الأولى للبرلمان يوم الجمعة 14 أكتوبر2016، في الاتجاه نفسه، وجه على إثره نقدا شديدا إلى أداء الإدارة المغربية التي وصفها بأنها تعاني من التضخم ومن قلة الكفاءة وغياب روح المسؤولية لدى العديد من الموظفين وتعاني بالأساس من ثقافة قديمة لدى أغلبية المغاربة، وهي تشكل بالنسبة إلى العديد منهم مخبأ يضمن لهم راتبا شهريا دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه، وأن صلاح الإدارة يتطلب تغيير السلوكيات والعقليات وجودة التشريعات من أجل مرفق إداري عمومي فعال في خدمة المواطن.

كما شدّد جلالة الملك، في خطابه يوم 14 أكتوبر 2016، على ضرورة تعميم الإدارة الإلكترونية بطريقة مندمجة تتيح الولوج المشترك إلى المعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق، لتسهيل حصول المواطن على الخدمات في أقرب الآجال دون الحاجة إلى كثرة التنقل والاحتكاك بالإدارة الذي يعد السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة الرشوة واستغلال النفوذ.

إن واقع الإدارة العمومية المغربية لا يخفى على كل مهتم بضرورة إصلاحها، ولا يخفى كذلك على المختصين بأن أوراش الإصلاح التي انطلقت منذ سنوات لم تؤدّ إلى نتائج ملموسة قد يشعر بها المواطن المتعامل مع الإدارة، حيث صار الإصلاح شعارا عند كل حكومة وعند كل حزب في برنامجه الانتخابي؛ لكن على مستوى الممارسة فهناك واقعا آخر.. لذلك، فإن إعادة النظر جوهريا في الإدارة على جميع المستويات أصبح أمرا ضروريا حتى تتمكن من القيام بدورها وتحقيق أهدافها.

وأمام هذا الواقع، أصبح من الصعب تحقيق تنمية إدارية واقتصادية وتواجد نظام إداري فعال، يقوم على مبادئ الحكامة والنجاعة، بدون توافر نوع من المساءلة والمحاسبية وقياس وتقييم أداء مختلف الوحدات الإدارية، سواء على مستوى الإدارة العمومية أو الإدارة الترابية، وأيضا بدون تطبيق آليات ومناهج العمل المتبعة بالقطاع الخاص على الإدارة العمومية، وبالخصوص تلك الآليات والمناهج التي أظهرت نتائج ملموسة في التدبير الفعال والنجاعة والحكامة الجيدة.

إن الرقابة المالية أو التدقيق الداخلي الفعال يمكن لهما أن يجنبا الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تبديد الأموال العمومية أو استخدامها في مشروعات غير مجدية لا تتوفر فيها المقاييس والمعايير المناسبة لتحقيق الأهداف التي من أجلها رصدت لها الأموال العمومية. كما أن الرقابة يمكن لها أن تسهم في بناء إدارة فعالة لمواجهة المخاطر، والتي تساعد على التقيد والالتزام بالقوانين والإجراءات الإدارية المتبعة.

كما أن العمل المقاولاتي الفعال، من حيث تدبير الوقت واستعمال التكنولوجيا المتطورة وتحقيق المردودية، يمكن أن يكون نموذجا للساهرين على الإدارة العمومية، لمواجهة الاختلالات والبطء والتعقيد الإداريين؛ وذلك لتحقيق خدمات بجودة مطلوبة وداخل آجال معقولة، وبتكلفة أقل.

ثانيا: مقاومة العقليات التقليدية وانتهازية الأحزاب وعدم الثقة في الطبقة السياسية

شدد جلالة الملك على كون الاختيارات التنموية، التي دخلت فيها الدولة هي صائبة، إلا أن المشكل يكمن في العقليات التقليدية التي لم تتغير ولم تستطع مسايرة ركب اختيارات الدولة، وفي القدرة على التنفيذ والإبداع.

كما أكد أن التطور السياسي والتنموي الذي يعرفه المغرب لم ينعكس بالإيجاب على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين، مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة منتقدا انتهازية الأحزاب والطبقة السياسية.

وفي هذ الصدد، وجه جلالة الملك انتقادات إلى الطبقة السياسية والأحزاب محملا إياها الجزء الأوفر من مسؤولية تردي الأوضاع وفشل مجموعة من المشاريع، مطالبا إياها بالإنصات لهموم الشعب وتقديم خيرة نخبتها، والابتعاد عن المصالح الشخصية والصراع الحزبي وتصفية الحسابات السياسوية إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين، وجعل احتياجات هؤلاء ومصلحة الوطن فوق أي اعتبار سياسي ضيق.

كما أشار جلالة الملك في خطابه التاريخي إلى تراجع الأحزاب السياسية وممثليها عن القيام بدورها الدستوري، فضلا عن انعدام المصداقية والغيرة الوطنية لدى العديد من السياسيين.

وحمل الملك أيضا مسؤولية عزوف الشباب عن الانخراط في العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات إلى ممارسة بعض السياسيين والمنتخبين، حيث أفسدوا السياسة وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل، ثم أنه لم يعد يثق في الأحزاب والممارسات السياسية السائدة وبجزء كبير من الطبقة السياسية.

فلأول مرة يخرج فيها الملك عن صمته، ويعلن عدم اقتناعه بالطريقة التي تمارس بها السياسة وعدم ثقته في الطبقة السياسية، معتبرا أن جلها يختبئ وراء القصر الملكي في لحظات الفشل، في حين تهرول لقطف نتائج وثمار النجاح.

إن الشخصانية والرغبة في تصدر المشهد السياسي والحزبي، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التقليدية، فضلاً عن تمسك القيادات بمواقعها من جانب آخر، أدى بدوره إلى عزوف المواطن، خاصة الشباب، عن الممارسة السياسية والانخراط في الأحزاب والمشاركة في الانتخابات.

لقد أثبتت الممارسة الفعلية أن الأحزاب عجزت عن إشباع الحاجات الأساسية للمواطن، وضاع التمايز في خطابها الأيديولوجي، بعد أن ذابت الفروق بين اليمين واليسار بسبب طغيان عصر العولمة وانهيار الحركات الأيديولوجية اليسارية في العالم لحساب وهيمنة افتصاد السوق؛ وهو ما أدى إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني بأنماطها المتعددة والتي تركز على حقوق الإنسان، السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية.

وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة في أغلب الأحزاب السياسية، بسبب عدم التزامها بخدمة مصالح المواطنين وتأطيرهم ومواكبة انشغالاتهم اليومية. وهذا ما جعلها، بشكلها الحالي، تمثل عائقا أمام انخراط فعال للشباب في الحياة السياسية بسبب الجمود الذي تعرفه على المستوى التنظيمي والوظيفي، وتقاعسها عن تشكيل قوة اقتراحية تقدم البرامج والمشاريع وتسهر على تنفيذها عندما تسند لها مسؤولية التسيير الحكومي.

لهذا، فإن تفكيك أزمة الثقة بين الشباب والأحزاب يمر عبر إصلاح الحقل الحزبي وإقرار ديمقراطية حقيقية داخلية تفتح الباب أمام الشباب للانخراط في العمل الحزبي وتحمل المسؤولية في القيادة وفتح المجال له للإبداع والابتكار داخل المؤسسة الحزبية، ليصير قوة اقتراحية فعالة، وتهييئه أيضا ليكون قادرا على إدارة الشأن العام المحلي والوطني.

ثالثا: ربط المسؤولية بالمحاسبة والجميع سواسية أمام القانون

لم يفت جلالة الملك التشديد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.

وفي هذا الإطار، هدد الملك بإقالة جميع المسؤولين الذين ثبت تورطهم في عرقلة المساعي التنموية، واعتبر أفعالهم وتصرفاتهم خيانة للوطن والشعب، مشددا على أن جميع المغاربة سواسية أمام القانون.

وأيضا، في هذا السياق، وجه نقذا لاذعا إلى كل مسؤول يقوم بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي لحسابات سياسية أو شخصية، وهذا ليس إخلالا بالواجب فقط، وإنما هو خيانة، لأنه يضر بمصالح المواطنين ويحرمهم من حقوقهم.

وعلى هذا الأساس، دعا جلالة الملك إلى بناء مرحلة جديدة بالمغرب، يخضع فيها الجميع للقانون؛ بمن في ذلك الموظفون، بجميع رتبهم ودرجاتهم.

إن مرحلة ما بعد خطاب 29 يوليوز تشكل عهدا جديدا بالنسبة إلى المغرب، عهد سيادة القانون على الجميع بدون تمييز وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأيضا فرصة لا ينبغي أن يضيعها السياسيون والقادة الإداريون وإلا سوف تكون النتائج لا قدر الله وخيمة على مستقبل بلادنا.

إن التفاني في العمل والإخلاص فيه وخدمة المواطن وعدم الإضرار بمصالحه وحقوقه وحسن تدبير الموارد والتقيد بمبادئ القانون والحكامة والنجاعة كلها مؤشرات لتحقيق التنمية وتأسيس قواعد دولة الحق والقانون.

*مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والإستراتيجية