رأي

طارق البركاني: الحب في زمن الكوليرا .. الزمن ينهك الإنسان

"ستفقد صوابك، صرخَت من غرفتها بمجرد ما سمعَت صياح الديكة. ليست هناك امرأة تستحق كل هذا"، هكذا احتجت الأم ترانسيتو على سهر ابنها الدائم لكتابة رسائله في رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا".

هي رواية يختلط فيها الحب بالمرض والألم بالجنون، رواية ينقلنا من خلالها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز إلى منطقة الكاريبي لنقف على قصة فلورينتينو أريثا ولنعايش لحظات عشقه وتردده ويأسه… إنه شاب مغمور خجول يخطو أولى خطواته في الحياة. تدور الأحداث في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في مدينة لا نعرف اسمها، لكن يظهر أنها تشبه تلك المدن التي خلفها الاحتلال الإسباني: قديمة، حزينة ومتهالكة.

هذا ما تركه الإسبان هناك بعدما طردهم سيمون بوليفار. يحب فلورينتينو فيرمينا عن بعيد مثل الفرسان الجوالين، يتبعها أينما ذهبت. كتب لها رسائل كثيرة وتردد طويلا قبل أن يرسلها إليها. تواصلا عن بعد لسنوات دون أن يتمكن من لقائها مباشرة. لمدة ثلاثة أعوام لم يفعلا شيئا غير حب بعضهما والحلم ببعضهما.

يوم التقته بدد القرب الشوق، صارحته:

"اليوم، برؤيتي لك، فهمت أن قصتنا لم تكن سوى وهم". بهذا الجواب قطعت علاقتها به..التفتت إليه فاكتشفت شابا خجولا، فقيرا ونحيفا لا يلائم تطلعاتها. كان جسده يعكس وضاعته الاجتماعية. إنه لا يستحق كل العناء الذي بذلته من أجله. نبذته لتتزوج آخر، طبيبا شابا قادما من باريس، استطاع أن يبهر والدها وينتزع موافقتها. يبدو أن السفر والإقامة خارج البلد يرفعان مكانة الفرد في جميع الثقافات. هنا اتخذ الشاب قرارا مصيريا: عاهد نفسه على علاج وضاعته والترقي اجتماعيا لكسب قلب التي رفضته. إنه تحد لا يناسب قرن انتصار الليبرالية. قضى فلورينتينو حياته ينتظر فيرمينا، يتأملها عن بعد، يحبها في صمت. وهربا من مرارة الرفض، انغمس في العمل ليصير الرجل الثاني في شركة للملاحة النهرية، ونسج شبكة من العلاقات الغرامية الخفية مع نساء من مختلف الأعمار والطبقات. ربط علاقات عاطفية جنسية مع مئات النساء، لكنه في النهاية لم يحب إلا التي خانته.

على امتداد القصة، ينقل غابرييل حكايتين متوازيتين لحياة العاشقين السابقين. تلتقي القصتان بعد وفاة الدكتور خوفينال، بعد سقوطه من أعلى شجرة وهو يحاول الإمساك ببغائه المثقف الهارب. من حسن حظ العاشق الأبدي أن الببغاء المثقف العنيد رفض النزول من الشجرة. حين توفي الزوج الأرستقراطي بتلك الطريقة العجيبة، ظهر فلورينتينو عجوزا في السادسة والسبعين لنفخ الروح في حب قديم. يبدو أن الحظ قد ابتسم له بعد خمسين سنة من الانتظار. كثيرا ما لا يبتسم الحظ للإنسان إلا في لحظاته وأيامه الأخيرة. اقترب العجوز من هدفه بفضل خططه الإستراتيجية عكس شعرائنا العذريين القدامى الذين فقدوا عقولهم وتاهوا في الصحارى عند أول فشل. "كانت تفكر فيه دون إرادتها، وكلما فكرت فيه كلما زاد حنقها، وكلما زاد حنقها كلما فكرت فيه"، هكذا عاشت فيرمينا ليلتها الأولى بعد وفاة الزوج وظهور فلورينتينو لملء الفراغ.

اكتشفت فيرمينا أن زواجا دام خمسين سنة لم يستطع أن ينسيها علاقة شباب ربطتها بشاب مغمور.. اكتشفت أن زواجها السابق أملاه العقل، ومثل فيه الحب بذرة تنمو بفعل الألفة والزمن، تظهر فيه المشاعر وتغيب. في تفسير الأم لسلوك ابنها تردد: "المرض الوحيد الذي أصاب ابني هو الكوليرا". في كلامها خلط بين الحب والكوليرا، ربما لتشابه أعراضهما: الإسهال، فقدان الشهية، الإعياء، الدوار.. لم يصب فلورينتينو بالكوليرا الذي فتك بالكثيرين، لكن فظاعة الألم جعلته يتمنى لو عانى الكوليرا بدل الحب. تطرح الرواية السؤال حول العلاقة الزوجية ومعايير نجاحها وأهدافها. في حديثه إلى زوجته يكشف الطبيب أن الأهم في العلاقة الزوجية ليس قوة المشاعر، بل أن تمتد هذه العلاقة في الزمن. الاستمرارية والاستقرار هما سمتا الزواج الناجح الذي يشبه الشركة. أقرأ هذا الكلام فيخيل إلي أن المتكلم ليس ماركيز، بل شيخ يسكن إحدى مداشر المغرب المنسية. يغلب على الرواية النفس الدرامي، فالعاشقان لم يحققا السعادة التي كانا يحلمان بها بعدما اكتشفا أن للسن سلطة على الإنسان، وأن التقدم في العمر يطفئ أحلاما كثيرة. وتظهر الدرامية كذلك فيما تحدث عنه ادوين موير Edwin Muir من هيمنة عنصر الزمن على عنصر المكان في النص الروائي. إن الذي يقلق فلورينتينو ليس المكان الذي يقطنه، بل الأيام والسنوات التي تمضي دون أن يحقق هدفه.

وإذا كانت الحبكة تعني سرد الحوادث مع تركيز الاهتمام على الأسباب فإن ماركيز لم يكتف بمبدأ التتابع الزمني كتقنية للحكي، بل إنه جعل من التلازم المنطقي وربط الأسباب بالنتائج معيارا أساسيا للسرد. نتفهم فلورينتينو وقراراته لأن الكاتب يبرر مواقفه ويفسر دوافعه. بالإضافة إلى حبكته، يستمد هذا العمل قوته من أسلوبه. ولعل من أهم خصائص هذا الأخير الحضور القوي لعنصر الوصف. يبرع الكاتب في إمتاع قارئه حين يصف خوف الشاب قائلا: "أحس فلورينتينو اريثا بأن أحشاءه قد امتلأت برغوة باردة، لكن صوته لم يرتعش، لأنه أحس أيضا أنه ملهم بوحي". ويتميز أسلوب النص كذلك بالتوظيف المكثف للسخرية التي تظهر في مواقف منها اللحظة التي مات فيها الطبيب بتلك الطريقة السحرية، وبالانتقال من التفاصيل والجزئيات إلى تقديم نظرة بانورامية عن أحداث القصة. عندما ناقش السيميولوجي الفرنسي كلود بريمون Claude Bremond أشكال النهايات في الرواية، تحدث عن الرواية التي لا تنتهي بالنصر ولا بالهزيمة بل بالنصر والهزيمة معا. ويظهر أن ماركيز قد اختار لروايته هذه النهاية بالضبط، ففلورينتينو العجوز انتصر وانهزم. انتصر حين استطاع أن يحقق هدفه الإستراتيجي الوجودي المتمثل في الارتباط بفرمينا، وانهزم حين اكتشف أن الزمن قد أنهك جسده ونفسه وكذلك فعل بقرينته. انتصر العجوز على واقعه ومجتمعه لكن الزمن هزمه. أدرك متأخرا أن حلمه فات أوانه.