تحليل

استقالة الياس العماري .. ماذا بعد؟

هشام الطرشي

تعتبر استقالة إلياس العماري من الأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة حدثا بارزا خلق رجّـة في المشهد الحزبي والسياسي بالمغرب، وخلّف أصداء سياسية، من خلال مختلف المواقف المعبر عنها، داخل البلاد وخارجها؛ وذلك بالنظر إلى حجم التفاعل الاعلامي مع هذا الحدث الاستثنائي.

تأتي استقالة قائد "الجرار" في خضم محيط سياسي وحزبي متداع، أدانه ملك البلاد في الخطاب الأخير لعيد العرش، ووجه فيه جـام نقده إلى الطبقة السياسية، خصوصا المنتخبين والإدارة والأحزاب المسؤولين مباشرة عن تنفيذ مشاريع التنمية.

وعندما يقدم الياس العماري استقالته أثناء اجتماع المكتب السياسي لحزبه، ويؤكد حيثياتها وأسبابها الواقعية في ندوة صحافية خصصت لتسليط الضوء على قراره هذا، فإنما كان كمن يلقي حجرا في بركة راكدة، وكان من المفترض أن تحدث تموجات ورجع صدى، على الأقل بحجم قرار استثنائي في وضع سياسي استثنائي.

لا مجال للجدل أن الخطوة التي أقدم عليها الياس العماري باستقالته من قمرة قيادة "البام" أتت في إطار تفاعل إيجابي لفاعل سياسي مع مضامين خطاب العرش، باعتباره معنيا أولا، كما عبّر عن ذلك أمام الاعلام، بما ورد في هذا الخطاب، وإخلاصا أولا وأخيرا لمبادئ وقناعات الرجل.

كما يمكن أن نعتبر كذلك أن هذه الاستقالة أحرجت نظراء لـه في عديد من الأحزاب، خصوصا من يسعى منهم جاهدا إلى تطريز ديمقراطيته الحزبية الخاصة به، وتفصيلها على مقاسه، في تجاهل نكاد نقول سافرا، سواء للقوانين الحزبية المنظمة أو للأعراف البسيطة للسلوك الديمقراطي في أي بلد أو لأسس الاختيار الديمقراطي الذي انخرطت فيه بلادنا، وأخيرا وليس آخرا، لتوجيهات الملك الذي قـال في الخطاب السامي المذكور: "وفي غياب روح المسؤولية، والالتزام الوطني، فإننا لن نحقق ما ننشده لجميع المغاربة، من عيش حر كريم"، بل إن كثيرا من قـادة أحزابنا من ينتظر، من جديد، ما سوف يتضمنه خطاب ملكي آخر، في مناسبة أخرى لاحقة.

في مقابل هذا، أثارت هذه الاستقالة اهتمام الرأي العام الوطني، من خلال التصريحات السياسية ومقالات الرأي والآراء المتداولة في وسائط التواصل الاجتماعي، بالتنويه والاشادة، وأحيانا بالنقد والتشكيك، إلا أنها أجمعت على شجاعة ومسؤولية رجل سياسة أوفى بما ناضل من أجله، في احترام تـام للمبادئ التي عُـرف بالدفاع عنها قبل الحزب وأثناءه. لهذا فقد أصر العماري خلال الندوة الصحافية على الترجل من قيادة حزبه ورجوعه ضمن قواعده، وفيا ومنسجما مع قناعاته.

على المستوى الحزبي الخاص بالأصالة والمعاصرة، الأمر يكاد يشبه آراء ومواقف الرأي العام، وصور استيعاب هذا الحدث، على أهميته، لا تكاد تكتمل بعد. لهذا فمن الطبيعي أن تتوزع الآراء المعبر عنها لدى مسؤولي ومناضلي الحزب في التعاطي مع حدث الاستقالة بين فئة، وهي عريضة، تدعو إلى التفاعل مع هذا الوضع بمسؤولية في حجم الحدث، من خلال اجتماع المؤسسات الحزبية، خصوصا المعنية منها بالأسباب التي ساهمت بتقديم العماري لاستقالته، ونقصد هنا بالخصوص المكتب التنفيذي للهيئة الوطنية لمنتخبي حزب الأصالة والمعاصرة، الذي كان ينبغي أن يتداول تلقائيا وبشكل استعجالي حول استقالة الأمين العام لحزبه، والتعبير بوضوح عن رأيه وموقفه، لاسيما وأن أداء المنتخبين وضع على المحك، إن في الخطاب الملكي أو في حيثيات استقالة الأمين العام لحزب "الجرار".

أما الفئة الأخرى، فتضم بعض مسؤولي الحزب، الذين حاولوا جاهدين، في ما يشبه هرولة وهروبا إلى الأمام من الوضعية الجديدة التي خيمت أجواؤها على الحزب، التنصل من مسؤوليتهم بتوجيه الاهتمام بأن ما حصل، سواء تعلق الأمر بقرار العماري أو بالأسباب التي ساقت إليه، إنما هو، من وجهة نظرهم، نتيجة حتمية لوضع عـام، سـاد أداء أجهزة الحزب برمتها، مما يومئ باختلال تدبيري يعرفه الحزب، ويؤشر، في اعتقادهم، على مسؤولية أمينهم العـام عن هذا الوضع.

وبالطبع، فإن الدفع بهذا الرأي يقصد منه تهريب النقاش حول الاستقالة ودواعيها، درءا لكل تحلّ للمسؤولية فيما حدث، ويتقاطع بذلك مع مواقف بعض خصومه.

إن ما قـام بـه الياس العماري يسائل الجميع: نخبة سياسية وكـل الفئات المجتمعية، عن جدوى وقيمة العمل السياسي ضمن الشروط المعقولة، وضمن كـل المبادئ الانسانية والوطنية التي يمكن أن يعانقها أي شخص، وانطلاقا من أية مرجعية كـانت، وأعـاد باستقالته، تلك، قيمة أن يفي المناضل بمـا آمن بـه من مبادئ وخصال.

نكاد نشهد، لأول مرة ربما في تاريخنا السياسي والحزبي المعاصر، مسؤولا سياسيا يشهر استقالته دفاعا عما يعتقد ويؤمن بأنه صواب لوطنه ومجتمعه، بعد أن جعل من حزبه في وقت وجيز قوة سياسية حاملة للمشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي الذي حلم به المغاربة يوما، ويتموقع من جديد ضمن صفوف حزبه للدفاع عنه، وربما بشراسة أقوى مما سبق.