تحت المجهر

القناعات المشتركة بين الملك والشعب

ميلود بلقاضي

ينتظر الرأي العام المغربي- بشغف كبير- ما سيعلنه ملك البلاد من قرارات في خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب في حق من أشار إليهم خطاب عيد العرش الأخير، خصوصا بعد ما عرفه المغرب من أحداث بعد هذا الخطاب الذي وجه فيه ملك البلاد انتقادات قاسية للأحزاب وزعمائها، والحكومة وأعضائها، وإلى رجال السلطة والمنتخبين وكبار المسؤولين عن تدبير الشأن العام.

قسوة الخطاب الملكي تجاه هؤلاء المسؤولين رد فعل ملك أحس ووعى بخطورة الأوضاع في كل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية بكل أقاليم المملكة، وليس إقليم الحسيمة فقط؛ هذا الإقليم الذي لازال يعيش على إيقاع الاحتجاجات التي من الممكن أن تتطور إلى ما هو أسوأ، في أي لحظة، إذا لم تعد الثقة بين الدولة وأهل الريف.

إن خطورة الأوضاع دفعت الملك إلى تشخيص أسباب الخطورة- بكل شجاعة وبلغة صارمة- ومن أهمها اتساع دائرة ثقافة الاستهتار عند الحكومة والأحزاب والسلطات والمنتخبين والمسؤولين، استهتار مس حتى المشاريع التنموية الإستراتيجية التي توقع أمام ملك البلاد، الأمر الذي يعكس في العمق أزمة ثقافة الحكامة الجيدة والديمقراطية التشاركية والكفاءة والمصداقية والنزاهة وقيم المواطنة وربط المسؤولية بالمحاسبة. ومما يزيد من مخاطر هذا الاستهتار تزامنه مع سياق وطني ودولي مضطرب، انهارت فيه الكثير من القيم ومن الوسائط الاجتماعية.

*سياق خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب

خطاب هذه السنة لن يتعالى عن شروط سياق إنتاجه العامة. سياق يطرح أسئلة حارقة، من أهمها: ماذا بعد خطاب عيد العرش؟ أي قرارات سيتخذها ملك البلاد من موقعه الدستوري- الفصل 42- في حق الذين باعوه الوهم؟ لماذا استقل إلياس العماري من الأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة في هذا الوقت بالذات؟

ما هي أبعاد تصريحات بنكيران، رئيس الحكومة السابق، أمام انعقاد دورة شبيبة حزبه الحاملة لرسائل قوية ومشفرة إلى من يهمه الأمر؟ كيف سيتعامل الحراك بإقليم الحسيمة مع قرارات الخطاب الملكي؟ هل سيلعن الخطاب إعفاء بعض الوزراء وقادة الأحزاب والولاة والعمال ومديري مراكز الاستثمار ورؤساء الجماعات ورؤساء الجهات ومديري بعض المؤسسات؟ ومديري مؤسسات إعلام القطب العمومي الذين يعيشون زمن ما قبل دستور 2011؟

وما هو مآل الحراك بإقليم الحسيمة بعد خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب 64؟ وهل سيتم إصدار عفو عن بعض أو كل معتقلي الحراك بالحسيمة؟ وماذا بعد إعفاء المسؤولين، هل ستكون المحاسبة؟

يتبين من سياق الذكرى 64 لثورة الملك والشعب لهذه السنة أنه سياق دقيق وصعب يوجد فيه المغرب في مفترق الطرق، وليس أمامه إلا السير وفق الخيار الديمقراطي رابع ثوابت البلاد، وتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لردع أجندات ومخططات قوى الفساد ومناهضي الإرادة الملكية في الإصلاح، وهو ما أصبح موضوع حتى اهتمام الصحافة الدولية؛ وهو ما أشارت إليه الصحافية الفرنسية شارلوت بازونيت بجريدة "لوموند" في مقال تحليلي بالقول إن "خطاب الملك المقبل يأتي في سياق "مشحون" بالمقارنة مع خطاب العرش الأخير، خاصة مع إعلان وفاة عماد العتابي، (25 عاما)".

*دلالة خطاب ثورة الملك والشعب

تعتبر ثورة الملك والشعب من الأحداث التاريخية التي لا يعتبرها ملك البلاد مجرد حدث للذكرى أو الاحتفال، بل يعتبرها لحظة هامة لاستحضار القيم والمبادئ التي صنعت ماضي المغرب، والمحددة لمعالم حاضره ومستقبله؛ إنها لحظة/ ثورة وطنية متجددة وتلاحم بين الشعب والمؤسسة الملكية.. إنها ثورة الإرادة المشتركة للمؤسسة الملكية والشعب لمواجهة كل التحديات..

إنها رمز الوفاء لثوابت الوطنية ولمقدساته، وتجديد العهد للوطنية المغربية وغاياتها ومطامحها.. ما أحوج مغرب 2017 إليها اليوم بعد تراجع قيم الوطنية والمواطنة وانهيار الوسائط الاجتماعية في زمن مضطرب وصعب.

والأكيد أن خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب لهذه السنة سيخلد الذكرى وفق رهانات إستراتيجية، قوامها قيادة الملك مع شعبه ثورة جديدة من أجل استرداد قيم الوطنية والمواطنة وتفعيل ربط مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإقرار سياسات عمومية تحقق العدالة المجالية والاجتماعية، وفق ما صرح به خطاب عيد العرش الأخير.

*بين خطاب عيد العرش وخطاب ثورة الملك والشعب.. المغرب أمام مفترق الطرق

ينتظر المغاربة من خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب لهذه السنة أن يكون تفعيلا لمضامين خطاب عيد العرش الأخير، عبر اتخاذ قرارات عملية وحاسمة ضد بعض أعضاء الحكومة والمسؤولين الكبار ورجال السلطة والمسؤولين المنتخبين، وكل من ثبت في حقه التورط في الفساد أو التخلي عن القيام بمسؤولياته، ليس بإقليم الحسيمة، بل بكل أقاليم المملكة، لأن مغرب القرن 21 بحاجة ماسة ومستعجلة إلى مبادرات وقرارات عملية وصارمة لاسترجاع الثقة المفقودة اليوم بين السلطة والمجتمع، خصوصا بين فئة الشباب والدولة، وإقناع الرأي العام الوطني والدولي بأن الخيار الديمقراطي الذي اختاره المغرب لا رجعة عنه مهما كان الثمن، وبأن مغرب الانتهازية والتحكم والريع بكل أشكاله قد انتهى وحان وقت ربط المسؤولية بالمحاسبة،

وليكن ذلك انطلاقا من أعضاء الحكومة وأعضاء البرلمان وكل أعضاء المؤسسات الدستورية وقادة الأحزاب، لأن ما قاله الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش الأخير هو ما يردده الشعب المغربي ليل نهار. وحان الوقت لتفعيل المبدأ الدستوري ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو ما تساءلت عنه الجريدة الفرنسية "لوموند": "هل ستسقط رؤوس أخرى على غرار إلياس العماري، رئيس جهة طنجة-تطوان-الحسيمة؟.

لقد دق خطاب عيد العرش الأخير ناقوس الخطر وأكد أن بعض المسؤولين في البلاد يريدون إفراغ مضامين دستور 2011 وما يمكن أن يفرزه ذلك من أخطار ومجازفات، في وقت ارتفع منسوب الوعي عند المواطن مقابل انهيار الوسائط الاجتماعية وتخلف عقليات قادتها، وتزايد حالة الاحتقان الاجتماعي التي لم تعد تسمح بضغطٍ أكثر قد يؤدي إلى الانفجار في أي لحظة. لقد كان خطاب عيد العرش الأخير خطاب تشخيص جريء وصادق حول قضايا هامة اتخذ فيها ملك البلاد قرارات ومواقف صارمة منها:

- تحميل الطبقة السياسية مسؤولية ما يقع في البلاد، محملا إياها الجزء الأوفر من مسؤولية تردي الأوضاع وفشل مجموعة من المشاريع، ومطالبا إياها بالإنصات لهموم الشعب وتقديم خيرة نخبتها، والابتعاد عن التطاحنات السياسية الضيقة وجعل احتياجات المواطن ومصلحة الوطن فوق أي اعتبار سياسي ضيق.

- التأكيد الواضح للملك عدم ثقته في الأحزاب والمؤسسات السياسية وبجزء كبير من الطبقة السياسية، معتبرا أن جلها يختبئ وراء القصر الملكي في لحظات الفشل، في حين تتسابق لقطف نتائج وثمار النجاح.

-المطالبة بإقالة جميع المسؤولين الذين ثبت تورطهم في عرقلة المساعي التنموية، معتبرا أفعالهم وتصرفاتهم خيانة للوطن والشعب، ومشددا على أن المغاربة سواسية أمام القانون.

- مطالبة الملك بضرورة تفعيل جميع بنود الدستور الذي صوت عليه المغاربة بالإجماع، وخصوصا ربط المسؤولية بالمحاسبة .

- نفى ملك البلاد أن تكون المقاربة الأمنية هي المتحكمة في تسيير أمور دواليب الدولة، معتبرا أن هناك توجها واحدا لا غير، وأن من يقول بوجود توجهين واهم ويسترزق من طرح هذه الفرضية، ومشددا على أن الدستور يجبر الملك على التدخل وعدم البقاء متفرجا عندما يهدد أمن وحقوق المواطن، مع تشديده على احترام مبدأ فصل السلط.

- تأكيد العاهل المغربي بأنه سيمارس اختصاصاته الدستورية لوضع حد لهذا الوضع المقلق كما هو منصوص عليه في الفصل 42 من دستور 2011.

بعد هذا التشخيص الدقيق واتخاذ بعض القرارات وإعلان بعض المواقف من طرف ملك البلاد في خطاب العرش الأخير، تتجه كل الأنظار نحو كيفية تفعيل مضامين هذا الخطاب وعن نوعية القرارات التي سيعلنها خطاب الملك المرتقب في ذكرى "ثورة الملك والشعب" يوم 20 غشت؛ لأنه إذا كان خطاب "عيد العرش" خطاب التشخيص، فإنه يُنتظر من الخطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب أن يكون خطاب القرارات، بعد أن فقد المغاربة الثقة في الحكومة وفي الأحزاب وفي المؤسسات، باستثناء ثقتهم بالمؤسسة الملكية التي تبقى الملاذ الأخير؛ لذلك يرتقب أن يكون هذا الخطاب ثوريا بمناسبة ثورة ملك وشعب.

*خطاب ثوري في مناسبة ثورة الملك والشعب

يتفق جل المهتمين بالشأن السياسي والمؤسساتي والعارفين بطبيعة النظام السياسي المغربي على أن خطاب الأحد القادم سيكون تفعيلا لمضامين لخطاب عيد العرش، وخصوصا ما نصت عليه الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور المتعلقة بربط المسؤولية بالمحاسبة؛ لذلك سيحبس خطاب 20 غشت أنفاس بعض المسؤولين، لأن له رمزيته الثورية، خصوصا في اللحظات الحرجة والصعبة التي يوجد عليها المغرب اليوم؛ فبعدما كان يمثل الاستثناء في الوطن العربي بدأت الاحتجاجات الجارية في إقليم الحسيمة وتداعياتها

تفرض طرح عدة أسئلة حول ما يسمى الاستثناء المغربي حتى من طرف أكبر الصحف الغربية، مثل صحيفة "واشنطن بوست"، التي خصصت مقالا تحليليا بعنوان: "المغرب يواجه اضطراباته بعد ست سنوات على الربيع العربي"..

فهل ستكون قرارات خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب ثورة جديدة عمادها تلاحم الملك والشعب ضد الفساد السياسي والاقتصادي والانتخابي والمؤسساتي وضد من يستهدف الإساءة إلى الاستثناء المغربي الذي ترسخه سياسة الملك محمد السادس الداخلية والخارجية بذكاء وبعد نظر واقتناعه بأن الثورة والديمقراطية تتناصبان العداء بدلا من أن تمهد إحداهما الطريق أمام الأخرى؟ كما يقول الان تورين ALAIN TOURAINE !

تلك مجرد أسئلة قد يجيب عنها خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب يوم 20، وقد تؤخر الإجابة عنها إلى الوقت المناسب، لأن هناك قناعات مشتركة بين الملك والشعب حول تفكك المجتمع السياسي وتقهقر السجال السياسي والمس بجوهر معادلة الديمقراطية بالتنمية.

*أستاذ التعليم العالي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال