رأي

سليمة فرجي: استحضار الخطاب الملكي في ذكرى 20 غشت

لا نجادل في أن حلم المغرب الكبير رافق الأجيال عبر عقود من الزمن وكان الآباء والأجداد يعتقدون أن الاستعمار البغيض هو مَنْ حال دون تحقيق الهدف المتمثل في الاتحاد أو على الأقل ربط علاقات جيدة تضمن تكاملا اقتصاديا، وحرية التجول، وصلة الرحم، ومواجهة الخطر المحدق المتمثل في الارهاب ومحاولة التفتيت والمس بالاستقرار.

لكن وبعد أن كافح كل بلد من أجل التحرر وتمت التضحية بالغالي والنفيس وقيادة ثورات حتى النصر والاستقلال، ذهب ضحيتها شهداء أبرار وسالت دماء طاهرة في ربوع هذه البلدان، أصيب الجيل الحالي بخيبة أمل واستياء وذهول أمام استمرار خلافات واختلافات لم تعد تفهم، فأصابت الكل أحيانا بشعور باليأس والإحباط والاستسلام للواقع المرير، وأحيانا بمحاولات لإيجاد حلول لا تلبث أن تتلاشى أمام جبروت الحقد والعناد.

ولعل الخطاب التاريخي لجلالة الملك بمناسبة عيد العرش سنة 2014 حول استمرار إغلاق الحدود لرسالة إلى كل من يهمه الأمر وتشخيص واقعي حلل واقع معاناة المغاربي من جراء استمرار إسدال الستار الحديدي بين المغرب والجزائر، وأن إعطاء المثال بالاتحاد الاوروبي الذي تكوّن رغم الخلافات بين أعضائه لتعبير عن الرغبة في تحدي الصعاب والأيديولوجيات والعمل على فتح الحدود.

الاتحاد الأوروبي نشأ في أعقاب حرب طاحنة وبدأ بدولتين ليصل عدد الأعضاء إلى 28، ومن يقوم بزيارة إلى البرلمان الأوروبي يدرك الرسائل الممررة التي تنطلق من معاناة أوروبا من ويلات الحروب والفقر والجرائم ضد الانسانية، والإبادة الجماعية والعدوان.

ولعل الممر المظلم الذي يشير إلى 1914-1918 بمختلف الصور البشعة التي واكبت الحرب العالمية الأولى، أو ممر الحرب العالمية الثانية وما خلفته من خراب ودمار في الأرواح والعمران وضرب الثقافات، يجعل الزائر يخال أن الرسائل تود أن تصرح لذاكرة التاريخ: نحن لا ننسى وأخذنا العبر ولا نريد أن تتكرر ويلات الحرب ومعاناة ساكنة أوروبا من الفقر والدمار ومخلفات الحروب، وتدعو إلى الانفتاح والتكامل الاقتصادي لدول الاتحاد مهما اختلفت الإيديولوجيات والمذاهب واللغات والديانات ونظم الحكم، وأن الهاجس وأولوية الأولويات يتمحور حول سلامة ورخاء وازدهار دول الاتحاد.

لكن في المقابل، بالنسبة لدول شمال أفريقيا التي عانت من ويلات الاستعمار الذي كان يبحث آنذاك عن الثروات الطبيعية التي استنزفت، لا زالت الجراح لم تلتئم ولا زال التكامل الاقتصادي بعيد المنال بين الأقطار المغاربية رغم التاريخ المشترك الذي سجل انتفاضات شعبية عنيفة في المغرب والجزائر ضد عدو مشترك استعمر البلاد واستنزف الثروات ونهب الخيرات وكان سببا في اختلاق أسباب النزاع بين هذه الدول.

ولعل الخطاب الموجه بتاريخ 20 غشت 2016 من طرف الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، والإشارة إلى ارتباط المغرب بمحيطه، ليعد تشخيصا للوضع المغاربي انطلاقا من تاريخ مشترك مبصوم بتضامن المغرب المطلق عبر التنسيق بين قيادات المقاومة المغربية وجبهة التحرير الجزائري، بالإضافة إلى المساعدات القيمة التي قدمها المغرب للجزائر من أجل الحصول على استقلالها، علما أن سكان مدينة وجدة والمدن الحدودية يتذكرون قبل 1962، تاريخ استقلال الجزائر، جميع المساعدات المادية والمعنوية المقدمة والتفاني في مد يد العون واستقبال الجنود الجزائريين وإيوائهم، بل ولم تنشرح قلوب المغاربة في مغرب استقل سنة 1955 إلا بعد استقلال الجزائر سنة 1962.

لذلك استنتجنا من الخطاب الملكي السامي الموجه إلى الشعب بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب السنة الماضية أن الروح التضامنية التي سادت أثناء حروب التحرير والتي مكنت شعوبنا من مواجهة الاستعمار وطرده هي نفسها تلك الروح التضامنية التي نحتاجها ونصبو اليها ونحِنّ إليها من أجل رفع التحديات التنموية والأمنية المشتركة؛ لأن العدو المشترك كان آنذاك هو الاستعمار الذي استنزف الثروات وخلف وراءه الشهداء والأرامل وخلق النزاعات بين الدول، أما العدو المشترك في الوقت الراهن فإنه يتجسد في الجماعات الإرهابية والحروب الأهلية والصراعات والهجرة والفقر المدقع ومختلف آلام شعوب مكلومة تعيش حالة ترويع مستمر.

ولا تكون مواجهة هذه الأخطار المحدقة ممكنة إلا بتضامن الشعوب وشد أزر بعضها ببعض؛ لذلك فإن إشارة عاهل المغرب في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب السنة الماضية إلى ربط الماضي بالحاضر، والتطلع إلى تجديد الالتزام والتضامن الصادق الذي يجمع شعوب المغرب الكبير لمواصلة العمل بحسن نية لمواجهة تحديات المرحلة، ليعتبر في قمة الحكمة والنضج السياسي والوفاء التاريخي والنبل الأخلاقي خدمة للمصالح العليا للمحيط المغاربي والإفريقي!

لذلك ألم يحن الوقت بعد لربط الماضي بالحاضر واستحضار الروح التضامنية التي ناضلت من أجل استرجاع الكرامة والحرية؟ ألم يعد من الممكن الاستفادة من تضامن الماضي لإحياء أمجاد التاريخ وتحقيق حلم مغاربي يستفيد منه مواطنون يصبو جلهم إلى تكامل اقتصادي واستقرار وأمن وأمان وصلة الأرحام.

ونحن نخلد ذكرى ثورة الملك والشعب ونستحضر الخطاب الملكي للسنة الماضية، ما هي الخطوات التي قد تبشر بالانفراج وتفتح باب الاستثمار والتسويق وإغناء العلاقات الانسانية ومقاومة الأحقاد والمعيقات؟ في زمن كثرت فيه الأهوال واشتدت الأزمات، ما أحوجنا إلى التدثر بماضينا المشترك وتاريخنا المبصوم بالتآزر وموروثنا الثقافي الغني والمتشعب الذي يعوض شعوبنا عن التيه الايديولوجي ومختلف الانزلاقات الخطيرة المتربصة بنا. ومتى توفرت الإرادة لدى الشعوب، فان المستحيل يصبح ممكنا مهما كبرت التحديات.

*محامية نائبة برلمانية سابقة