تحت المجهر

خطاب ذكرى ثـورة الـملك والـشعب : المنظور الملكي الشامل

قد يستغرب البعض لتخصيص خطاب العرش الأخير للقضايا والألويات الداخلية.

وهي أوليات ملحة وهامة بالنطر للطرفية الراهنة، والتطورات التي تعرفها البلاد. وهو ما يدل على التجاوب الملكي مع مطالب المواطنين، وإحساسه بنبض الشارع المغربي.

وقد أشار جلالة الملك، في نفس الخطاب، إلى أنه لم يتناول ملفات السياسة الخارجية، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية للمملكة، وإفريقيا.

إلا أن جلالة الملك، من منظور متكامل، كان يعرف أن هذه القضايا لا يمكن أن تغيب عن اهتماماته الوطنية والدولية. لذا، وفي ما يمكن اعتباره تكملة لخطاب العرش، خصص جلالته خطاب ذكرى 20 غشت لهذه السنة، للقضية الوطنية الأولى للمغرب ولإفريقيا.
وفي هذا الخطاب يربط جلالة الملك بأسلوب واضح، وبتسلسل منطقي، هذه الثورة المجيدة، بإفريقيا وبقضية الصحراء المغربية. لأن هذه الثورة مكنت من استقلال المغرب، وساهمت في تحرير الدول الإفريقية، وأعطت الانطلاقة لبناء إفريقيا المستقلة الواثقة من نفسها والمتطلعة نحو المستقبل بكل عزم وثقة وعمل ؛ ثم بعد ذلك العمل على النهوض بتنميتها.

وتكتمل هذه العلاقة الثلاثية بالربط بين توجه المغرب نحو القارة، ومدى تأثيرها الإيجابي على قضية الوحدة الترابية للمملكة.
ومما يدفع باتجاه تخصيص خطاب للسياسة الخارجية هو أن سنة 2016 – 2017 كانت سنة دبلوماسية بامتياز، بفضل الانخراط الشخصي لجلالة الملك في الفعل الدبلوماسي، والتحرك الفعال الذي قامت به الدبلوماسية الوطنية.

وهو ما تكلل برجوع المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، والموافقة المبدئية على انضمامه إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.

جـلالـة المـلك: هناك ارتباط وثيق بين ثورة الملك والشعب وحركات التحرير في إفريقيا

صحيح أن ثورة الملك والشعب هي ملحمة وطنية خالدة، جمعت ملكا مجاهدا وشعبا مناضلا من أجل الحرية والاستقلال، وعودة السلطان الشرعي. ولكن جلالة الملك في هذا الخطاب يسلط الضوء بالخصوص على أبعادها الجهوية والقارية.
حيث يستحضر جلالته، أنها ألهمت بشكلها الشعبي التلقائي، وبقيم التضحية والوفاء، التي قامت عليها، حركات التحرير في المنطقة المغاربية وفي إفريقيا. وقد سبق لجلالة الملك في خطابه بنفس المناسبة، خلال السنة الماضية، أن أبرز تأثيرها على الثورة الجزائرية، والروح التي بعثتها فيها، لمقاومة الاستعمار.

واليوم، يتناول جلالة الملك الانعكاسات الإيجابية التي كانت لثورة الملك والشعب، كمنارة مشعة في تاريخ تحرير القارة الإفريقية، والارتباط الوثيق بين المغرب وقارته، في مختلف المراحل التاريخية.
فقد عمقت الوعي والإيمان بوحدة المصير المشترك، بداية من الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، ثم بعد ذلك في بناء الدول الإفريقية المستقلة، على أساس احترام سيادة بلدانها ووحدتها الوطنية والترابية. وهو ما يتواصل اليوم، من خلال العمل التضامني مع بلدان القارة، من أجل تحقيق التنمية والتقدم المشترك لفائدة شعوب القارة.
ووفاء لانتمائه الإفريقي ولالتزامه بالدفاع عن قضايا القار، يؤكد جلالة الملك أنه ليس بغريب أن تكون أولى قرارات المغرب المستقل في خدمة إفريقيا وشعوبها.

وفي هذا الإطار، يستعرض جلالة الملك، عل سبيل الذكر، بعض المواقف المشهودة للمغرب تجاه قارته : ومن بينها المشاركة في أول عملية لحفظ السلام بالكونغو سنة 1960، واحتضان مدينة طنجة لأول اجتماع للجنة تنمية إفريقيا، وإحداث وزارة مكلفة بالشؤون الإفريقية في حكومة 1961.
وتوضح هذه القرارات أن المغرب كان يهتم بكل القضايا التي تهم القار، سواء في مجال توطيد الأمن والاستقرار، أو في مجال النهوض بالتنمية إضافة إلى دعم حركات التحرير، ونصرة قضايا شعوب القارة.
وقد تم تتويج تلك الجهود باجتماع الدار البيضاء، الذي وضع اللبنة الأولى لقيام منظمة التحرير الإفريقية.

جـلالـة المـلك : التزام المغرب بالدفاع عن قضايا إفريقيا نهج تاريخي راسخ

أبرز جلالة الملك أن توجه المغرب نحو إفريقيا لم يكن قرارا عفويا، ولم تفرضه حسابات ظرفية عابرة. بل هو وفاء للتاريخ المشترك، وإيمان صادق بوحدة المصير.
وهو ما تجسده السياسة الملكية التضامنية تجاه دول القارة، من خلال اعتماد منظور استراتيجي اندماجي بعيد المدى، يقوم على التوافق وعلى تحقيق النفع المشترك لشعوبها.
وهذه السياسة الملكية قائمة على معرفة دقيقة بالواقع، وبانشغالات المواطن الإفريقي وتطلعاته. فمنذ توليه العرش، قام جلالة الملك بأكثر من 50 زيارة لأزيد من 29 دولة.

ولهذا، فالزيارات الملكية لبدان القارة تحمل معها دائما المشاريع والبرامج التنموية.

منها ما هو استراتيجي كأنبوب الغاز الأطلسي نيجيريا – المغرب، وإقامة مركبات كبير لإنتاج الأسمدة، والتي ستساهم في ضمان الأمن الغذائي للقارة وتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. ومنها ما هو مرتبط بالمعيش اليومي للأفارقة كبناء المرافق الصحية ومؤسسات التكوين المهني وقرى الصيادين، وذلك إدراكا من جلالة الملك بأن هذه المشاريع هي التي تساهم في تحسين المعيش للمواطنين.

وقد مكن هذا العمل المتواصل، لأزيد من 17 سنة، على تعزيز مكانة المغرب بالقارة اقتصاديا وسياسيا.
فعلى المستوى الاقتصادي : أتاحت الاتفاقيات التي تم توقيعها من تعزيز الشراكات الاقتصادية بين المغرب ودول القارة، وانخراط القطاعين العام والخاص في الاستثمار على أساس رابح – رابح. حيث تقوم الشركات المغربية بالاعتماد على مكاتب الدراسات واليد العاملة المحلية، وهو ما يساهم في النهوض بالتنمية المحلية بالدول المعنية.

أما على المستوى السياسي، فقد مكنت السياسة الإفريقية لجلالة الملك من عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، ومن الحصول على الموافقة المبدئية للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
ويؤكد جلالة الملك أن انخراط المغرب في إفريقيا لم يكن من أجل تحقيق هذه المكاسب السياسية، وإنما من منطلق إيمانه القوي بأن إفريقيا هي المستقبل، وبأن المستقبل يبدأ من اليوم. أما من أهملها أو قلل من مكانتها، جهلا بقدرات القارة ومؤهلاتها، أو احتقارا لشعوبها، فهذه مشكله تخصه وحده.
وانطلاقا من منظور استراتيجي، ورؤية واضحة، يبرز جلالة الملك بأن انضمام إلى هاتين المنظمتين يشكل علامة بارزة على درب تحقيق الاندماج الإفريقي، الذي لا يمكن تصوره إلا كنتاج لكل التكتلات الإقليمية، خاصة في سياق أصبحت فيه التجمعات الجهوية قوة وازنة ومؤثرة في السياسة الدولية.

وهنا يؤكد جلالته أن المملكة المغربية ستعمل من موقعها على غرساء دعائم اندماج حقيقي في خدمة إفريقيا، وتحقيق تطلعات شعوبها إل التنمية والعيش الكريم في ظل الوحدة والأمن والاستقرار.

جـلالـة المـلك : قضية الصحراء المغربية تبقى دائما أسبقية الأسبقيات

يؤكد جلالة الملك بأن التوجه نحو إفريقيا لن يغير من مواقف المغرب، ولن يكون على حساب الأسبقيات الوطنية.
ويأتي الخطاب الملكي السامي كإجابة واضحة وصريحة على الادعاءات التي تقول بأن المغرب يصرف أموالا طائلة على إفريقيا، ومن الأولى صرف هذه الأموال على المغاربة.
وهنا يوضح جلالة الملك بأن هؤلاء لا يريدون مصلحة الوطن، لأن الانفتاح على إفريقيا والاستثمارات التي تقوم بها الشركات المغربية هناك، تشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وتساهم في تطور هذه المقاولات، وزيادة أرباحها. وهو ما سيخلق المزيد من فرص الشغل للمغاربة بهذه الدول، وبتوسيع مجال نشاطها في المغرب.
كما كان له أثر إيجابي ومباشر على قضية الوحدة الترابية للمملكة، سواء من على مستوى مواقف الدول (سحب الاعتراف أو اعتماد الحياد) أو على مستوى قرارات الاتحاد الإفريقي. وهو ما عزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف على مستوى الأمم المتحدة.
وفي هذا الإطار، يؤكد جلالة الملك أن سنة 2017 هي سنة الوضوح والرجوع إلى مبادئ ومرجعيات تسوية هذا النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء. وهو ما مكن من وضع مسار التسوية على الطريق الصحيح، ومن الوقوف في وجه المنارات التي كانت تسعي للانحراف به إلى المجهول.
وهو ما أكده تقرير الأمين العام المتحدة وقرار مجلس الأمن لأبريل الماضي، سواء في ما يخص تثمين مبادرة الحكم الذاتي، كإطار للتفاوض، أو في تحديد المسؤوليات القانونية والسياسية للجزائر باعتبارها الطرف الحقيقي في هذا النزاع الإقليمي.
كما تطرق جلالة الملك للطريقة الهادئة والحازمة لأزمة الكركرات، والتي مكنت من إفشال محاولات تغيير الوضع بالصحراء المغربية، ومن دفن وهم “الأراضي المحررة” التي ظل أعداء المغرب يروجون لها منذ سنوات. والحقيقة التي يقرها مجلس الأمن الدولي هي أن هناك منطقة مغربية عازلة فقط.
فالمغرب في صحرائه والصحراء في مغربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والمغاربة مجندون للدفاع عنها والتضحية بأرواحهم من أجلها، في التحام قوي بين العرش والشعب، كما كان خلال ثورة الملك والشعب.