قضايا

من الذي جعل من شبابنا إرهابيين في الخارج؟

محمدأكديد

هو سؤال طرحه أحد الأصدقاء على صفحته من أجل التفاعل معه بعد الأحداث المأساوية التي وقعت في برشلونة، والتي عبر صاحبها ذو الأصول المغربية عن وحشية لا يمكن أن تصدر عن إنسان سوي فضلا عن مسلم يدعي الإلتزام بعد دهسه للمارة بسيارته ليقتل عددا من الأبرياء؟؟

لا ريب أن هذا التساؤل يجر وراءه الكثير من الأسئلة التي تلتقي بدورها في حلقة إشكالية كبيرة عن سر هذا الإنحراف السلوكي الخطير لدى بعض المنتسبين إلى الإسلام، مما بات يستدعي فعلا تدخل القائمين عن الشأن الديني في الدول الإسلامية بعد أن أصبح هذا الدين يرتبط في ذهنية الآخر بالإرهاب والتطرف والرجعية، وبعد أن شوهت تداعيات هاته الأفعال النكراء صورة المسلمين في العالم، وأصبحت تهدد استقرار الجاليات المسلمة في أوروبا والغرب بصفة عامة.

فرغم كل محاولات ووعود الإصلاح التي مافتئ يبشر بها عدد من المسؤولين داخل المؤسسات الدينية في الكثير من البلدان العربية والإسلامية التي طالت شبابها جرثومة الإرهاب، ومن بينها المغرب الذي بات يتصدر شبابه قوائم المجندين في العصابات التكفيرية المسلحة في الشرق الأوسط ومنفذي الهجمات الإرهابية في أوروبا، مازالت تطالعنا بين الفينة أخبار عن القتل والتخريب التي يتفنن في القيام بها هؤلاء كواجب مقدس!!

فمن المسؤول عن ذلك؟ وكيف السبيل إلى وقف هذا النزيف القاتل؟

بداية، يتبين بأن هؤلاء الإرهابيين والتكفيريين المجندين لزعزعة الإستقرار في الأوطان الآمنة يتقاطعون في نفس الأيديولوجيا التي تتبناها المدرسة السلفية الوهابية اليوم، وتروج لها عبر آلاتها الإعلامية الضخمة، وتدعم مشاريعها في العالم ماديا ولوجيستيكيا بأموال البترودولار.

فخلال العقود الأخيرة، وخاصة بعد اكتشاف النفط في الجزيرة العربية استطاع هذا التيار الذي يعود إلى مؤسسه محمد بن عبد الوهاب الذي جاء بإخراج جديد لعقيدة التوحيد كفر على ضوءه أغلب المسلمين، بعد قراءة متطرفة لفكر شيخ السلفية ابن تيمية الحراني. حيث مهد له تحالفه مع آل سعود الذين دعموا مذهبه بالمال والعتاد طريق التوسع والامتداد على حساب كل القبائل الأخرى في الجزيرة العربية وإسقاط مكة التي قتل فيها أئمة من مذاهب مختلفة لم يعترفوا بتأويلات ابن عبد الوهاب السطحية لبعض الآيات المتشابهة في القرآن والمتون والوقائع المختلف حولها في السنة والسيرة لنصرة رؤية متطرفة أغرقت الأمة قديما وحديثا في بحار من الدماء، وشوهت صورة الإسلام والمسلمين شرقا وغربا1.

واليوم يبدو أن هذا المذهب قد استطاع أن يفرض نفوذه على المشهد الديني في أغلب بلاد المسلمين في غفلة من القيمين على الشأن الديني أو بتواطؤ مفضوح مع بعضهم، خاصة بعد أن تبنت المملكة السعودية بعد قيامها هذا المذهب كمذهب رسمي للدولة وحاولت تصديره لكل الدول الأخرى مع الهدايا والمشاريع وكل ما يلزم لترسيخه في النفوس والعقول2.

في الحقيقة لا أدري كيف استطاع أتباع هذا التيار إقناع شعوب هاته الدول التي من المفروض أنها اطلعت على جزء من تاريخ تطور حضارة العالم على الأقل في الكتب المدرسية بأفكار ومواقف متناقضة مع ما وصل إليه العالم المتمدن اليوم من تقدم وانفتاح، وذلك أمام الكم الهائل من أحكام القيمة التي يزخر بها تراث هذا المذهب ويتم بها رشق المخالفين من أبناء الملل والمذاهب الأخرى.

فالغرب في نظرهم كافر والشيعة والصوفية مشركون مبتدعون والحداثيون زنادقة والفلاسفة ملحدون، وعامة الناس ممن هم على غير مذهبهم ضالون إلا من هداه الله إلى سبيلهم الذي هو سبيل الهداية والرشاد!!

والأغرب من ذلك أن ينتقل هذا الفكر بتفاصيله المضللة إلى أبناء الجاليات في أوروبا وأمريكا ممن ولدوا هناك ورأوا بأم أعينهم ما وصلت إليه الحضارة الغربية من إشعاع وتقدم في كل المجالات العلمية والأدبية، وما رافق ذلك من ترسيخ ثقافة الإنفتاح والتسامح وتكريس الحريات والحقوق التي استفادوا منها وآباءهم قبلهم دون الحديث عن توفير احتياجاتهم الضرورية وعلى رأسها الرعاية الصحية والتعليم. وعوض أن يبحثوا في الإسلام وحضارته التي لا تخلو من نماذج للتميز والعطاء الإنساني في كل المجالات ليبزوا به مضيفيهم ويضربوا بذلك أمثلة مشرقة لهذا الدين، باتوا يغوصون في وحل التطرف والرجعية ويقعون في شرك الإرهاب، تتصيدهم فخاخ هذا المذهب الذي يبدو في ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب.

فعادة ما تنشط هذه التنظيمات المتطرفة في أوساط الجالية العربية، حيث تستهدف خصوصا الشباب المنحرف لاستغلال نزوعهم إلى التوبة والتكفير عن نزواتهم الشاردة، ليبدأ مسلسل التجنيد عبر مسار يبدأ بإقناعهم بالإلتزام والدخول في جماعة المسلمين أو الفرقة الناجية حسب التوصيف السلفي الوهابي! ليتم عزله عن المجتمع تمهيدا لشحنه أيديولوجيا بأفكار هذا المذهب المتطرف، قبل أن يتم شحنه إلى إحدى بؤر التوتر لقتال المشركين والمخالفين حسب تعبيرهم، هذا إن لم يتم تجنيده لتنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا نفسها خدمة لأجندات إحدى التنظيمات المقاتلة التي تتقاطع في نفس هاته الأيديولوجيا المدعومة خليجيا والتي استطاعت فرض نفوذها في الديار الأوروبية عبر بوابة المراكز والمساجد التابعة لهذا التيار، كما فرضت قبل ذلك نفوذها في عدد من الدول العربية والإسلامية.

ففي بلجيكا مثلا ومن حي مولينبيك ببروكسيل3 التحق مئات الجهاديين أغلبهم من المغاربة للقتال مع الجماعات التكفيرية المسلحة في سوريا عبر شبكات مرتبطة بها في أوروبا، بل لقد تم تجنيد بعضهم من داخل السجون، وقد كان من بينهم أيضا عدد من الشباب البلجيكي بعد إقناعهم بالدخول إلى الإسلام عبر بوابة السلفية الوهابية..

وما دمنا نتحدث عن أساليب التعبئة والهيمنة الأيديولوجية، فلا بد من التعريج عن نموذج المغرب الذي يهمنا مصير شبابه داخل هاته المتاهة. ذلك أن البلد قد شهد ابتداء من فترة الثمانينيات التحاق العديد من الأئمة والدعاة بالديار السعودية لإعادة تكوينهم على نغمات المذهب الوهابي لتبدأ عملية غزو الجامعات والأحياء الشعبية والمؤسسات الدينية الرسمية والمساجد والمكتبات والمعارض ثم بعد ذلك وسائل الإعلام والفضائيات طيلة الفترة اللاحقة، استطاع خلاله المشرفون على هذا التيار التأثير على عقائد وممارسات عوام الشعب المغربي، وخاصة فئة الشباب الذي أصبح مهيئا للانخراط في مشاريع ترتبط بأجندات خارجية باتت تعلن عن نفسها تباعا انطلاقا من حرب أفغانستان إلى ما يجري اليوم في سوريا والعراق، وذلك وفق مشروع ارتبط عادة بخطط الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية الإسلامية من أجل تغيير خرائط سايكس بيكو التي وضعها الإستعمار الفرنسي البريطاني بتوافق مع الروس في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الرجل المريض –الدولة العثمانية- بما يلاءم مصالح وتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة التي لم يستسغ صناع القرار داخل دهاليزها هذا التقسيم المتجاوز حسب تقييمهم بعد تغير موازين القوى في العالم4.

ولا داعي للتذكير بانخراط بعض دول الخليج في تنزيل هاته الرؤى على أرض الواقع عن طريق الشحن الأيديولوجي للمرشحين للالتحاق بجبهات القتال من جهة والدعم المادي واللوجيستيكي لهاته المغامرات من جهة أخرى، وذلك تلبية لرغبات الأسياد الجدد كمقابل لضمان استقرار عروشهم وحمايتهم من الخطر الإيراني المزعوم.

لكن هاته المغامرات لم تكن لتمر دون تداعيات خطيرة على كل الدول التي تورطت في دعم هاته الجماعات، ومن بينها تلك التي غضت الطرف عن شبكات التهجير التي تكلفت بإرسال أبنائها إلى جحيم الحروب الطائفية في الشرق الأوسط.

ففضلا عن فشل مشاريعها في تغيير خرائط المنطقة وفق الرؤية الأمريكية الجديدة، أصبحت هاته الدول عرضة لإرهاب العائدين من أتون هذه الحروب الفاشلة بعد أن خبروا القتال بكل أنواع الأسلحة والمعدات اللوجيستيكية في ميادين حقيقية وظلت معهم نفس القناعات الوهمية التي ذهبوا بها إلى جبهات القتال في بؤر التوتر من أجل إقامة شرع الله في الأرض وقتل الكفار والمارقين.

ففي جواب منسوب لأحد منفذي عملية الدهس الإرهابية في برشلونة (موسى أوكابير) عن سؤال حول ما سيفعله في أول يوم له كملك للعالم أجمع، قال: "سأقتل كل الكفرة، وأترك فقط المسلمين الملتزمين بدينهم".

لقد شكلت أحداث 16 ماي 2003 الأليمة في المغرب فرصة جد مواتية لإعادة النظر في مسارات هذا التيار في البلد وترتيب المشهد الديني وفق الإختيارات الأيديولوجية التي تبنتها الدولة لعقود5، والتي لا يهمنا التناقض فيما بينها بقدر ما تهمنا سلمية واعتدال المدارس التي تنتمي إليها وارتباطها بأصول ومناهج متفق عليها في الاجتهاد والحجاج والتربية قد تبلورت عبر تاريخ يتجاوز بقرون تاريخ ظهور الوهابية في الجزيرة العربية وفرض وصايتها على المدرسة السلفية ثم باقي المذاهب السنية فيما بعد.

لكن المقاربة الأمنية طغت على المعالجة الفكرية والثقافية لهذا الإختراق المذهبي الذي بات يهدد ثوابت المؤسسة الدينية بالمغرب، ليعود إلى الواجهة خطر هيمنة هذا التيار المتزمت على المشهد الديني، رغم التنديد المحدود لبعض النخب المثقفة ورجال الدين والإعلاميين الذين استفاقوا متأخرين من الغيبوبة. حيث برزت مؤخرا الكثير من الدعوات لمراجعة المناهج والمقررات الدراسية وغربلتها من بعض الأحكام والقراءات المتطرفة وأخص بالذكر هنا مقررات التربية الإسلامية6، و كذا مواجهة الإفتاء العشوائي وتكفير المخالفين وظواهر أخرى ترتبط بهذا المذهب طغت خلال السنين الأخيرة..

إن خطر هاته الأيديولوجيا لا يزال قائما مادام المسؤولون يغضون الطرف عن قنوات الاشتغال التي تشرف عليها المؤسسة الوهابية ذات الأذرع العالمية، والتي تشتغل على مايبدو بذكاء وبعد نظر وبكل الوسائل المتاحة لها7 لتتصيد فرائسها من كل المواقع، من أنصاف المتعلمين والشباب المنحرف إلى النخب المثقفة وكبار المسؤولين، فكل الطيور على أشكالها تقع، ولكل ثمنه..

وإذا كان المجتمع الدولي قد فطن هو الآخر متأخرا إلى خطورة المد السلفي الوهابي بعد أن وقف على ارتباط أتباعه بأجندات إرهابية زعزعت استقرار العديد من الدول الغربية –ولو أن بعض السياسيين خاصة في اليمين المتطرف بأوروبا يحاولون ربط هاته الأعمال عن قصد أو عن غير قصد بالإسلام جملة وتفصيلا- فإن الأولى أن يعترف القائمون على الشأن الديني في المغرب كما في باقي الدول الإسلامية بخطورة أفكار هذا التيار وانحرافاته الأيديولوجية والسلوكية المتطرفة، ويبادروا قدر الإمكان إلى تصحيح الكثير من المواقف والتمثلات التي عبث بها أقطاب هذا الفكر عبر إعادة مد الجسور مع الهوية الإسلامية الغنية باختلاف وتنوع روافدها، والتصالح مع تاريخ الإسلام والمسلمين بسيئاته وحسناته مع الإنفتاح على باقي التيارات والمذاهب الأخرى ليكتمل المشهد أمام المسلم الذي بات يعيش في أغلب هاته الدول أزمة فراغ ثقافي و روحي مما جعله صيدا يسيرا لعدد من الأيديولوجيات المتطرفة.

هوامش:

1- راجع مقالنا  عن جذور التكفير عند المسلمين-3 http://www.hespress.com/writers/339547.html

2- كشف وزير الأوقاف السابق السيد عبد الكبير العلوي المدغري وصاحب الحكومة الملتحية في حوار له باللغة الفرنسية مع مجلة تيل كيل-العدد 150 عن تساهل الداخلية خلال فترة ولايته مع هاته المجموعات المتطرفة في المغرب والتي كانت تستغل عادة دور القرآن والمساجد العشوائية في الضواحي و الأحياء الشعبية لتمرير أيديولوجيتها.

3- هو أحد الأحياء الهامشية في بروكسيل، وقد تم فيه اعتقال الفرنسي من أصل مغربي صلاح عبد السلام الذي كانت له صلة بتنظيم الدولة في 18 مارس 2016، وهو أحد أهم المتهمين والمدبرين لهجمات باريس في 13 نوفمبر 2015 التي خلفت 130 قتيلا.

4- Thierry meyssanللكاتب الفرنسي الجريء Sous nos yeux : Du 11 Septembre à Donald Trump أنظر كتاب

5 -نتحدث هنا عن ثلاثية المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد.

6- خلال الموسم الدراسي المنصرم حدثت ضجة كبيرة بعد أن قام المشرفون على كتاب منار التربية الإسلامية، الخاص بالسنة الأولى ثانوي في درس "الإيمان والفلسفة" بوضع الفلسفة موضع اتهام في مقابل الدين منتصرين لآراء بعض الفقهاء المحافظين الذين كانوا يعادون الفلسفة، حيث انتهى الأمر بسحب هذا الكتاب من السوق بعد تدخل الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة.

7 من بين ذلك الفضائيات المدعومة خليجيا والمساجد والجامعات حيث ينشط أبناء الحركات الإسلامية التي تأثرت أيضا بهذا المذهب، ودور القرآن والمكتبات التي تم إغراقها بمراجع ومصادر هذا الفكر، والمعارض التي تستأثر دور النشر الخليجية وخاصة منها السعودية بحصة الأسد على مدى سنين.