قضايا

الاغتصاب المجتمعي ودلالاته

حسن بويخف

"على المجتمع أن يحمي نفسه بنفسه"، كانت هي الخلاصة التي توصل إليها وزير إيطالي حين أعلن قبل عدة سنوات فشل الدولة في محاربة الاغتصاب في إيطاليا، وقرر اعتماد الخصي البيولوجي لأي مغتصب بعد أن فشلت كل الإجراءات الزجرية في مواجهة الظاهرة، وطالب المجتمع الإيطالي بالتدخل لحماية نفسه بنفسه ضد انتشار تلك الظاهرة. ومناسبة استحضار تلك الخلاصة الإيطالية هي فاجعة الاعتداء الجنسي على مواطنة من ذوي الإعاقات الذهنية في حافلة للنقل العمومي بالدار البيضاء. وخطورة النازلة أنها تتعلق بمحاولة اغتصاب جماعي علني لفتاة مع وجود سائق الحافلة وركاب مفترضين، ما يجعلنا أمام مفارقة صادمة، وهي أن المجتمع الذي استنجد به الوزير الإيطالي هناك كان "ميتا" هنا في حافلة الدار البيضاء التي كانت مسرح الجريمة، إذ لم ينجد هؤلاء جميعا الفتاة المستنجدة ولا قاموا بالإبلاغ عن الجريمة بعد ذلك، ما يعني أننا أمام وضع ينبغي أن يستوقفنا جميعا، مواطنين ومسؤولين، دولة ومجتمعا.

نازلة "محاولة الاغتصاب في الحافلة" من العيار الثقيل جدا في قاموس جرائم الاغتصاب، فهي محاولة اغتصاب جماعي، وعلني، وضد شخص قاصر، ومن ذوي الإعاقة الذهنية، وبحضور سائق وركاب لم ينجدوها ولم يبلغوا عن الجريمة! وكان بالإمكان أن تمر النازلة ويفلت الجناة من العقاب لولا أن "الفيديو" الذي وثق وقائعها الصادمة نشر على الإنترنيت وأثار موجة من ردود الفعل الغاضبة والمحتجة والمدينة، وتحول إلى "خبر خاص" تناولته الصحافة الدولية، التي قدم بعضها المغرب على أنه بلد لا أمن فيه للمرأة بالغا وقاصرا معافاة أو حاملة إعاقة حتى داخل حافلة عمومية بها ركاب وسائق!

وتعيد نازلة الحافلة بالبيضاء إلى الواجهة حالات اغتصاب أو محاولة الاغتصاب في الشارع العام عرفتها بعض المدن المغربية، منها ما كان ضد سائحات أجنبيات، وبعضها أيضا لم يثر تفاعلا مسؤولا من مواطنين عاينوا الجريمة. ونجد أنفسنا في مثل هذه الحلات أمام نوع آخر من الاغتصاب، يتورط فيه المجتمع هذه المرة، وهو المشاركة في تلك الاغتصابات بعدم القيام بواجب المواطنة الذي ينظمه الدستور والقانون، ويقضي بوجوب التدخل لمساعدة شخص في حالة خطيرة، ووجوب الإبلاغ عن الجريمة، وهو ما يمكن تسميته "الاغتصاب المجتمعي".

ومن المفيد إثارة الأسئلة والملاحظات الأولية حول "الحياد السلبي تجاه الجرائم"، والذي يجد أفجع تجلياته فيما سمي "الاغتصاب المجتمعي".. هل يتعلق الأمر بظاهرة تتجه نحو التوسع والانتشار؟ أم تتعلق بمجرد حالات معزولة لا تعبر عن ثقافة المجتمع؟.

وفي غياب دراسة خاصة ترصد سلوك "الحياد السلبي تجاه الجرائم" في المجتمع المغربي، نجد أنه في الواقع لا يتعلق سلوك عدم تحمل المسؤولية تجاه جريمة تتم معاينتها أو العلم بها بجرائم الاغتصاب فقط، بل نجد السلوك نفسه تجاه جرائم السرقة العلنية وبالعنف، سواء داخل الحافلات أو في محطات المسافرين المختلفة أو في الشوارع. كما تتعلق بجرائم التحرش الجنسي بالنساء، وبالاعتداء بالعنف ضد مواطنين عزل وغير ذلك. فكثيرا ما يحكي الناس عن كل تلك الحالات بأسف دون أن يكون هناك من يبادر إلى تقديم المساعدة للضحايا، أو التبليغ عن تلك الجرائم. وحتى إن بادر أحدهم بالتدخل للمساعدة أو أراد ذلك لا يجد عونا من غيره، فيتراجع. ومثل تلك القصص كثيرة ومتواترة، ما يرجح فرضية أننا أمام ظاهرة مجتمعية متنامية.

وفي مقاربة تفسير ظاهرة "الحياد السلبي تجاه الجرائم" نجد أننا أمام عدة عوامل مفسرة متداخلة، سنذكر أهما.

في المقام الأول نجد أننا أمام تطرف مجتمعي يقابله تطرف سابق يتم التعبير عنه بـ"شرع اليد"، إذ تتجاوز ردة فعل المجتمع تجاه الجرائم التدخل لمساعدة الضحايا والمساعدة في منع هروب المجرمين والقبض عليهم والإبلاغ عن الجرائم، إلى تنفيذ "عقوبات" ضد هؤلاء المجرمين، تصل أحيانا حد القتل رجما بالحجارة كما كان العرف مثلا في كثير من مناطق المغرب قديما تجاه جرائم السرقة في الأسواق. ومعلوم أن تخلي أي جماعة عن موقف أصبح غير مرغوب فيه لا يتم بالانتقال الكلي إلى الموقف المعتدل المطلوب، بل هناك نسبة من أفراد الجماعة تنتقل إلى التطرف المضاد للموقف المتطرف الأصلي، وهو في هذه الحالة التصرف بحياد سلبي تجاه الجرائم بعد أن كان "شرع اليد" هو السائد.

وفي المقام الثاني نجد عوامل كثيرة أخرى تشجع كلها على تكريس ظاهرة "الحياد السلبي تجاه الجرائم" في المجتمع، سنذكر أهم أربعة منها إجمالا.

أولا، نجد أن مقاومة الدولة والمجتمع المدني لظاهرة "شرع اليد" لا تتم بمقاربات تنويرية وتوعوية كافية تجعل الناس يدركون أن المطلوب ليس هو الحياد السلبي بل عدم الانتقال إلى ممارسة صلاحيات الأمن والقضاء الذي له وحده حق إنزال العقوبات، وعدم المس بحقوق المجرمين مهما كانت درجة الجرائم التي يقترفونها.

ثانيا، الخوف من الانتقام، ففي ظل هشاشة الحماية الأمنية للمواطنين تجاه جرائم الانتقام، وتنامي استسهال استعمال العنف المادي بدراجته الخطيرة في الانتقام، يفضل المواطنون التصرف بالحياد السلبي تجاه الجرائم خوفا على أنفسهم وأسرهم، ويفضلون حتى عدم التبليغ خوفا من انكشاف دورهم في التبليغ بعد ذلك؛ ويفضلون حماية أنفسهم عن طريق "الحياد السلبي" تجاه الجرائم.

ثالثا، في ظل الهشاشة الحقوقية التي مازالت الأجهزة الأمنية و الإدارية تعاني منها، والتي تكون على حساب كرامة المواطن واحترام مواطنته، نجد أن المبلغين أو المتدخلين لحماية الضحايا يتحولون إلى "ضحايا" جدد بما يعانونه من المعاملة غير المناسبة، فبذل التنويه بسلوكهم المواطني الراقي المساعد في الحد من الجرائم، تتم "بهدلتهم" بشكل يندمون معه على مبادراتهم، ويكون أكثر ما يتحدثون به بعد ذلك إلى الناس معاناتهم مع السلطة والإدارة وليس سلوكهم المواطني، لذلك نجد أن من عوامل امتناع الناس عن التدخل أو الإبلاغ عن الجرائم خوفهم من تلك "البهدلة".

رابعا، انتشار ثقافة حقوقية أنانية تنحصر التضحية فيها في تحقيق المصالح الضيقة لأصحابها، على حساب ثقافة حقوقية مناضلة تتجاوز التضحية فيها الدائرة الضيقة لأصحابها لتشمل غيرهم.

ومهما كانت الأسباب التي تقف وراء ظاهرة تنامي "الحياد السلبي تجاه الجرائم" في المجتمع المغربي فالظاهرة تعد من المؤشرات المقلقة على تآكل قيم التضامن في المجتمع لصالح قيم أخرى مدمرة، خاصة في بعد حساس يتعلق بالأمن. وإذا استحضرنا عجز الدولة عن محاربة الجريمة دون سند وعون من المجتمع ندرك الخطر الحقيقي الذي تنطوي عليه الظاهرة المتنامية.

إن انتشار الظواهر التي تقتل المقاومة في المجتمع مسؤولية مشتركة بين الدولة وقوى المجتمع الحية، بين الإعلام والمدرسة، بين السياسات العمومية الماسة بكرامة المواطن والثقافة الأنانية المستبدة بالأفراد.. بين التيارات المهددة للتماسك المجتمعي من جهة والسياسات المضعفة للفعل الجمعوي الجاد من جهة ثانية، وبين عجر المجتمع المدني عن تحصين المجتمع ضد تسرب ثقافات الاستسلام والخضوع والهزيمة...فهل يتمكن المجتمع المغربي من استعادة ما فقده من قدرته على حماية نفسه بنفسه بعيدا عن ثقافة "شرع اليد"؟.