رأي

جمال محافظ: "اغتصاب فتاة حافلة البيضاء"..الحاجة إلى مقاربة تربوية

خلف الاعتداء الجنسي الجماعي الذي تعرضت له إحدى الفتيات بحافلة بمدينة الدار البيضاء استنكارا كبيرا، وأثار في الوقت نفسه جدلا بين مختلف الأطراف، خاصة حول من يتحمل المسؤولية في هذه السلوكيات والممارسات الشاذة التي تذكرنا بما كانت تنشره الصحافة المغربية خلال الثمانينيات والتسعينيات نقلا عن الصحف المشرقية، خاصة المصرية التي كان البعض منها مختصا في هذا النوع من حوادث الاغتصاب، وأيضا ما كانت تصفه بـ"جرائم الشرف والأخلاق".

إلا أن ما وقع في واضحة النهار داخل حافة النقل الحضري بالدار البيضاء، مع توثيق ذلك بواسطة الكاميرا وتعميمه، يفوق من ناحية الشكل والمضمون أيضا حوادث مماثلة بالخارج، منها "جريمة اغتصاب فتاة العتبة" الشهيرة سنة 1992، التي روعت أمن المجتمع المصري، وجرت أطوراها وسط القاهرة بإحدى محطات الحافلات وليس داخلها، وبالليل وليس في واضحة النهار، إذ اعتدى أحد الشبان على فتاة عشرينية بمساعدة ثلاثة من الركاب؛ وذلك على مرأى من كل الجهور.

كما أن جرائم الاغتصاب، وإن كان لا يخلو منها أي مجتمع مهما بلغ مستوى تطوره، إلا أنها فرصة للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذه المسلكيات العدوانية التي عرفت انتشارا مهولا؛ وهو ما يستدعي الاستغراب ويتطلب التفكير العلمي والنقاش العمومي الحقيقي المسؤول، البعيد عن لغة الخشب والتضليل، بل مواجهة المعضلات الاجتماعية بشجاعة.

وبغض النظر عن موجة الاستنكار التي لقيها هذا الحادث، والاستهجان الذي عبر عنه الرأي العام الوطني بمختلف شرائحه، والاهتمام الواسع من لدن الإعلام الوطني والدولي ووسائط الاتصال الاجتماعي، فإن تفاعلي معه يرجع إلى مقالتين، توصلت بهما عبر بريدي الإليكتروني من الزميلين والصديقين الشاعر والكاتب الصحفي محمد بلمو، والإعلامي الكاتب العام لنادي الصحافة بالمغرب عمر أشن.

فالزميل بلمو دعا في مقال نشره بأحد المواقع الإلكترونية إلى "نبذ تصنيف القروي مواطنا من درجة حمار"، على خلفية حادث "اغتصاب" قاصري أحد دواوير سيدي قاسم لأنثى حمار. وخلص المقال بأسلوب إبداعي جميل إلى أن الأمر "لا يتعلق بضحية واحدة هي أنثى الحمار التي تعرضت للاغتصاب، بل إن الأطفال القرويين الذين قاموا بفعل الاغتصاب هم أول وأهم الضحايا".. كيف ذلك؟ يجيب الكاتب، وهو مدير مهرجان يحتفي بالحمير، بملاحظة ذكية مفادها أن الفترة التي وقعت فيها الواقعة تدخل ضمن موسم التخييم ببلادنا، وقطعا فإن الأطفال المعنيين لم يستفيدوا من التخييم، ولكم يفكر أحد في أن لهم الحق في ذلك.. نصيب أطفال البادية المغربية خلال موسم الصيف يكون هو العمل المضني..عوض أن يكون الترفيه والتربية..".

وإذا كان حادث "اغتصاب" "الحمارة" سبق الاعتداء على "اغتصاب فتاة الحافلة"، فإن الزميل عمر أشن اعتبر في مقالة ساخرة تختلط في فيها اللغة العربية بالدارجة أننا فقط "نجني ثمار المزرعة السعيدة التي زرعناها منذ الاستقلال"، متسائلا عمن أوصل شباب المغرب إلى هذه "الشمكرة"، ومحملا المسؤولية بالخصوص إلى نخب المجتمع، وزاد أن "حادث حافلة الدار البيضاء ليس سوى جبل ثلج صغير؛ لأن ما خفي نشاهده يوميا من عنف مادي ورمزي أكبر من تحرش بفتاة فقيرة محطمة ترافق شبابنا لا يقلون تيها وضياعا عنها".

من يتحمل المسؤولية عن هذا الحادث؟ هل هم المغتصبون، أو الركاب والسائق الذين تعاملوا بسلبية مع الفعل وظلوا وكأن على رؤوسهم الطير، وكأنهم في يتابعون ويتسلون بعرض مسرحي مثير، وليس أمام ذئاب آدمية مفترسة؟ أم أن المسؤولية تقع على عدم توفير الأمن في وسائل النقل، وبصفة عامة على الدولة بكل مؤسساتها؟ هل المسؤولية مشتركة تتقاسمها السلطات العمومية والمجتمع عبر منظمات وهيئات الوساطة؟.

هل الأمر مرتبط بغياب رؤية وإستراتيجية واضحة؟ وهل يعود إلى تحول في منظومة القيم نتيجة التحولات المجتمعية؟ أم إلى هشاشة بنيات الاستقبال التربوي وإنتاج القيم؟ هل القضية قضية التأثير السلبي لوسائل الإعلام؟ أم الرد يقتصر فقط على التذكير بأن عدم التبليغ عن الجرائم التي ترتكب علنا أمام أنظار عموم المواطنين، أحيانا، للسلطات المختصة، وفق ما ينص عليه القانون "يسيء إلى الجهود المبذولة من لدن السلطات في مجال مكافحة الجريمة، وعلى سيادة القانون وتطبيقه على المخالفين بما يحقق الردع المطلوب".

وإذا كانت المسؤولية مشتركة، كل حسب إمكانيات ومستويات هذه المسؤولية، فإن التعاطي مع هذه الإشكاليات المجتمعية والتصرفات المشينة يستدعى الانفتاح على جميع المقاربات، وفي مقدمتها الجانب التربوي، مع الابتعاد عن أسلوب الوعظ والإرشاد وتكريس ثقافة الجمود في التفكير، مع الإنصات إلى الشباب المغربي بدون نظرة أبوية وتلبية مطالبه المشروعة، والإيمان بقدراته على العطاء.

وإن كان من نافلة القول التأكيد على ضرورة ضمان المحاكمة العادلة لكل من ثبت تورطه في هذا الجرم، فإنه لا ينبغي أن يقتصر الأمر على الوقوف عند "ويل للمصلين" بالاكتفاء بالمطالبة باعتقال "المجرمين" ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات عليهم، والاكتفاء بتسجيل المواقف وإصدار بلاغات الإدانة، بل إن الأمر يستدعى إسهام الجميع في نقاش عمومي هادف، مستقل، يساهم فيه كل طرف من موقعه ومسؤولياته.

وإذا كان هذا الحادث الذي ينضاف إلى حوادث كثيرة مشابهة تناسلت خلال السنوات الأخيرة، وروعت وجدان المجتمع، وساهمت في تكريس صور نمطية عن بلاد يحاول مسؤولوها أن يقدموها كنموذج واستثناء بالمنطقة على المستويات السياسية والاجتماعية، فإن المطلوب القيام وباستعجال بالانتقال من مرحلة تبادل الاتهامات وجعل هذه القضية مشجبا من أجل تعليق فشلنا، إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتفادي الأسباب الحقيقية لتفاقم مثل هذه الأمراض الاجتماعية عوض اللجوء إلى المسكنات التي أبانت عن قصورها ومحدوديتها الظرفية، وإعادة الأسطوانة المشروخة نفسها كلما وقعت حوادث من هذا القبيل، بالتلويح من لدن "خبرائنا متعددي الاختصاصات" بأن "اغتصاب فتاة بالحافلة" "قضية غريبة على المجتمع المغربي، وتتنافى مع كل القيم الدينية والأخلاقية والعادات والتقاليد".

إن من شأن فتح تحقيق جدي حول هذه الحادثة المروعة، تطرح فيه كافة الأبعاد، وتحدد فيه جل المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة، المادية والمعنوية، أن يساهم في الحد من انتشار مثل هذه الظواهر التي ستتزايد بفعل عوامل داخلية وخارجية متنوعة، والتي تحمل العديد منها أسرارا غامضة، كما حصل لـ"فتاة حافلة البيضاء" الذي نعتقد أنه غالبا لم كان بدافع تفجر الغرائز والشهوات الجنسية، لكنها جريمة عدوانية شرسة، والمنفذون حسب الأسلوب الذي اعتمدوه في فعلهم يظهر أنهم ذوو شخصيات مضطربة، ما يجعلهم فاقدين القدرة على التمييز أو تقييم العواقب الناجمة عن أفعالهم.

وما دام المكلفون بتدبير الشأن العام الوطني والنخب يتماهون مع كل ما هو فرنسي من غير الديمقراطية والحداثة طبعا، فحبذا لو اقتدوا ولو مرة واحدة بالدور الذي تقوم به وسائل الإعلام خاصة السمعية البصرية في التعاطي مع الإشكالات التي تفاجئ المجتمع، عبر إعداد برامج خاصة يساهم فيها مختصون في حقول متعددة، يلامسون القضايا المطروحة من زوايا متنوعة. فهل يمكن أن نشهد مبادرة من هذا القبيل على قنواتنا الثلاث؟ وهل ينتقل إعلامنا من التعامل مع هذا الحادث كخبر للإثارة إلى التعاطي معه بمهنية ومسؤولية أيضا؟.