قضايا

" شارلي إبدو" والإساءة المُتَعمّدة للإسلام مرة أخرى

عبد الله النملي

"شارلي إبدو"، الصحيفة الفرنسية الساخرة التي تعرضت في يناير 2015 لهجوم مسلح أسفر عن مقتل 12 شخصا بينهم أهم رساميها، عادت يوم الأربعاء 23/8/2017 لتنشر على صفحتها الأولى رسما اعتبره الكثيرون مسيئا لديانة المسلمين التي يعتنقها مليار ونصف مليون شخص في العالم؛ إذ بدا في الرسم شخصان منطرحان أرضا وسط الدماء بعدما دهستهما شاحنة صغيرة، إلى جانب عبارة بالخط الأحمر "الإسلام دين السلام.. الأبدي"، في إشارة واضحة إلى اتهام الإسلام بكونه ديانة عنيفة مسؤولة عن الحادث الإرهابي لبرشلونة.

وتصدر الموضوع النقاشات المطروحة على "تويتر" في فرنسا، وعلق النائب الاشتراكي البارز الوزير السابق "ستيفان لوفول" بقوله إن الرسم "شديد الخطورة"، وأضاف قائلا: "عندما تكون صحافيا، عليك ممارسة ضبط النفس؛ لأن هذا النوع من الاستنتاجات قد يستغله آخرون".

إن ما حدث في فرنسا من نشر بعض الصحف الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام، ما هو إلا موجة في بحر كراهية الإسلام؛ بحيث تحولت مقدسات المسلمين ورسول المسلمين إلى "مادة للهزل" لدى مثقفي وصحافيي الغرب، تحت ستار حرية الفكر والتعبير.

ولا يحتاج الأمر إلى كثير من العناء لإظهار فظاعة الجريمة المُقترفة في حق الإسلام من قبل الصحيفة الفرنسية. فالرسوم المسيئة للإسلام التي نشرت تباعا على صحف ومجلات فرنسية وغربية، أثارت ردود فعل متباينة في مختلف أقطار العالم في مناسبات مختلفة، كما أن الشارع العربي والإسلامي أبدى غضبا شديدا، غير ما مرة، ضد هذه الأفعال القبيحة.

وهو غضب يعكس موقفا من الآخر الذي يسمح بتجاوز منظومة القيم الدينية والحضارية، وفي مقدمتها ما يتعلق بحرية التعبير، التي يبدو أنه يفهمها ضمن منظور خاطئ، يستند إلى التهجم على مقدساتنا الإسلامية، مما يؤشر إلى أن كل ما بذلناه من حوار الأديان والثقافات لم يفض إلى نتائج تحد من مساحات التباعد.

ومنذ قرن من الزمن شاعت عند الغربيين عبارة للكاتب روبرت هانلاين (Robert Heinlein) الذي قال: "حقك في أرجحة قبضتك ينتهي حيث يبدأ أنفي". ويصوغها بعضهم في شكل طرفة يصور فيها رجلا يتثاءب ويتمطى على مقعده بحديقة عامة، فيفرد يده بكل قوة لتستقر في أنف جاره الغافل، الذي ما أن رقأ دمعه، وذهب احمرار وجهه، واختفت أصداء صرخته، حتى قال لجاره: يا عزيزي لقد هَشّمت أنفي!

وحتى لا يحدث مثل ذلك، وضع الحقوقيون قوانينهم الوضعية لتكفل عدم المساس ببعض تلك الحريات البديهية، وإن أدى الأمر إلى منع الحرية عن طريق الحبس لأولئك العابثين بالحريات. فاحترام الأديان السماوية والأنبياء قضية محل اتفاق؛ لذلك يمكن تفعيل الاستفادة من القوانين الدولية لتقريرها وعقاب من يخالفها، إلا أنك تجد عند التطبيق تَفَلُّت دعاتها من الغربيين عنها.

ولنأخذ على سبيل المثال فرنسا، فقد أطلقت يد الإعلام فنال من الإسلام بل من رسول البشرية؛ حيث تطاول حثالة من أَسْفَهِ سُفهاء الغرب على الإسلام وجناب الرسول الكريم واستهزؤوا به، وكان نصيبهم من ديمقراطية الغرب الزائفة، السلامة من العقاب، على الرغم من وجود أعداد كبيرة من المسلمين في فرنسا، تحتل ديانتهم الرتبة الثانية في تلك البلاد، فضلا عن شعوب كاملة يسوؤها ويغضبها مثل هذا الصنيع، إلا إنك لا تجد لأدعياء الحقوق أثرا، وكأنهم لم يوقعوا بالأمس أو يدعوا العالم إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

لقد جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات السياسية واحترامها"، ثم قرر الإعلان أن من الحريات الدين؛ حيث تنص المادة الثامن عشرة: "لكل شخص الحق في حرية التفكير وفي حرية الضمير والدين". وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية تحظر بالقانون "أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف".

فبموجب نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية، فإن على حكومة فرنسا أن تحترم الدين الذي أفادت تقارير الأمم المتحدة نفسها بأنه أكثر الأديان انتشارا، وأن تحظر بالقانون أي دعوة تثير الكراهية الدينية لدى المسلمين. فهل من احترام الدين السخرية من الإسلام ونبي ملة تعظمه أكثر من مليار نفس بشرية في العالم؟

إن الاعتراض على الإسلام في الغرب أمر مفهوم، لكن غير المفهوم الإساءة المتعمدة والمتكررة للإسلام بحجة حرية التعبير؛ إذ إن تلك الطعون الرعناء في الإسلام وفي نبي الإسلام تنبئ عن مصداقية بعض الدول الغربية، وتبين ما يعنيه التزامها بتلك القوانين المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية.

فالإهانات الوقحة الموجهة إلى الإسلام والنبي الكريم، تمثل محاولة لاستفزاز المشاعر الراسخة للمسلمين عبر العالم؛ ذلك أن الاعتداء على المقدسات الدينية لا يندرج تحت مسمى الحرية، بل هو وجه من وجوه الاعتداء على حقوق الإنسان بالاعتداء على مقدساته. وبينما يحظر على البعض البحث ولو في مسألة تاريخية مثل المحرقة اليهودية سدا لذريعة معاداة السامية، يُباح لآخرين الطعن في دين الإسلام ونبيهم جهارا، في دلالة واضحة على التحدي المتعمد لمشاعر المسلمين.

وتحضرني في هذا الإطار قصة الثعبان الذي قرر يوماً أن يتوب ويكف عن إيذاء الناس وترويعهم، فذهب إلى حكيم يستفتيه في ما يفعل، فقال له الحكيم: انتح من الأرض مكاناً معزولاً، واكتف من الطعام النزر اليسير. ففعل الثعبان ما أُمر به، لكن قض مضجعه أن بعض الصبية كانوا يذهبون إليه ويرمونه بالحجارة، وعندما يجدون منه عدم مقاومة كانوا يزيدون في إيذائه، فذهب إلى الحكيم يشكو إليه حاله، فقال له: انفث في الهواء نفثة كل أسبوع، ليعلم هؤلاء الصبية أنك تستطيع رد العدوان إذا أردت. فعمل بالنصيحة وابتعد عنه الصبية وعاش بعدها مستريحاً من عبث الصغار به.

هذه القصة المعبرة تؤكد أن "من أمن العقوبة أساء الأدب"، ونعرف جميعاً أن الهدف من العقوبة هو الردع والتخويف من شيء ما حتى لا يتكرر ويتفشى، وتقال لمن يتجاوز حدوده بالتصرف مع أو التعدي على الآخرين دون الخوف مما قد يردعه من عقاب أو حتى توبيخ؛ ذلك أن الإساءة إلى الأديان دون رادع أو زجر لها تداعيات خطيرة على حياة البشرية، بالنظر إلى كونها تهدم كل الجهود الإنسانية الخيرة التي ترمي إلى تعزيز حوار الحضارات بين مختلف معتقدات الأمم والشعوب التي تسعى إلى التقارب.

كل ذلك يؤدي إلى خلق العداوات بين أهل الديانات المختلفة، وتهيئة أسباب النزاعات والحروب، وهو اتجاه يخالف الاتجاه العالمي العاقل الساعي إلى تقارب الأديان وتفاهمها، فضلا عن أنه لا يوجد عامل في نشأة الإرهاب أقوى من عامل الإساءة إلى الدين ورموزه؛ لأن الطرف المعتدى عليه سيكون في حالة تشنج، خاصة حين لا يسمح له بالتعبير عن نفسه وعرض وجهة نظره، ويعامل بمكيالين، والواقع خير شاهد على ذلك؛ فإذا اعتدي على الإسلام ورموزه، اعتبر ذلك من حرية التعبير، لكن مع اليهودية يعاقب كل من يتعرض لها، ويصبح ملاحقا في حياته ومهددا في مستقبله.

وإذا كانت هناك آثار سلبية للإساءة على الأديان، فقد بات من الضروري علاج هذه الظاهرة بالاحترام المتبادل بين الأديان؛ وذلك عبر إصدار قانون يجرم الإساءة إلى المقدسات على غرار قانون "معاداة السامية".

*كاتب وباحث