تحليل

في المسألة الدستورية ومتطلبات تعاقد سياسي جديد

عبد المطلب أعميار

هل نحتاج في كل مرحلة سياسية وثيقة دستورية جديدة، للخروج من أنفاق الأزمة السياسية التي ترتسم معالمها في المجال العام؟، وهل التوافق الوطني حول مضامين الدستور كاف لوحده لإخراج البلاد من دوائر العبث المؤسساتي، وضعف الحكامة، والفساد الإداري؟.

ثم، إذا كانت الدساتير تصاغ من أجل إقرار التعاقدات الكبرى المرتبطة بمنظومة الحكم، فمن الذي يا ترى سيعمل على ترجمة روح هذه التعاقدات، أليست هي المؤسسات الدستورية، والنخب الحاكمة، والطبقة السياسية، والمجتمع المدني؟...

وفوق هذا أو ذاك، هل تكفي المراجعات الدستورية لتحقيق شروط الانتقال نحو دولة القانون، وسلطة المؤسسات؟.

مناسبة هذه التساؤلات ترتبط ببعض القراءات التي تعتبر بأن أزمة المغرب أزمة دستورية، وبأن البحث عن مخارج الأزمة السياسية يقتضي العودة مجددا لمطلب الإصلاح الدستوري كشرط لا محيد عنه من اجل إقرار الإصلاحات السياسية المطلوبة.

ولأن هذه القراءات، على الرغم من مشروعيتها، لا تستحضر معطيات من صميم الوضع السياسي العام بالبلاد، فإننا نرى من الضروري طرح الإشكال بصيغة أخرى.. كيف لبلاد خرجت من إصلاح دستوري بموجب دستور 2011، ولم يستكمل بعد كل الهندسة المرتبطة به، ولم يستنفذ بعد كل "الاحتياطي" الذي يضمنه، أن تعلن انسداد الأفق السياسي، واختناقه الكلي، للدخول مجددا في معترك الإصلاح الدستوري؟.

ثم، فوق هذا وذاك، هل الطبقة السياسية مؤهلة في المرحلة الراهنة أن تضمن موازين القوات المطلوبة لربح رهان المسألة الدستورية، وهي المصابة اليوم بقصور المناعة السياسية الكفيلة بإعادة الروح للمشهد السياسي برمته، وبالأحرى أن تزايد بورقة الإصلاح الدستوري، وهي تعرف جيدا بأن حتى مقتضيات الوثيقة الحالية تتجاوز بكثير المؤهلات الذاتية للقوات السياسية لربح رهان الاختيار الديمقراطي بكل معانيه.

الدساتير في قلب الصراع

إن المسألة الدستورية كانت دائما في صلب المعارك السياسية الكبرى للبلاد. وفي كل فترة كانت تكتسي طابعا خاصا. ففي مرحلة عصيبة من تاريخ بلادنا كانت منظومة السلطة السياسية تنبني على الحكم الفردي، وكانت تعتمد كل أدوات التحكم، والقمع، والشطط، .. وكانت هذه السياسة تستجيب للتوجه العام للنظام باعتباره اختيارا يترجم أسلوب الحكم القائم على استعمال العنف بكل مستوياته، مع ما استتبع ذلك من اعتماد استراتيجيات الترهيب، والتخويف، وتعطيل المسار الديمقراطي والتنموي... ولم يكن هذا التوجه معزولا عن السياق السياسي العام الذي كان موسوما بالتوتر بين قوى المعارضة والقصر.

وقد ارتبط مطلب الإصلاح الدستوري بالصراع السياسي الذي خاضته قوات المعارضة المغربية ضد النظام. وقد عكس هذا المطلب فصول التوتر، والعنف، والعنف المضاد الذي عاشه المغرب سنوات طويلة في صراع متشنج بين شرعيتين: شرعية الحكم الملكي من جهة، وشرعية الحركة الوطنية والديمقراطية، من جهة أخرى. وقد كانت دعوات مقاطعة الدساتير الممنوحة، أو الدعوة إلى التصويت ضدها، تعبيرا واضحا من لدن أقطاب المعارضة يفيد رفضها الواضح للاستفراد بالحكم، ولأسلوب إدارة الدولة.

وكان الصراع حول المشروعية، من الطرفين، صراعا قويا تطلب كثيرا من الوقت ليفهم الجميع بأن الوفاق الوطني ضرورة تاريخية لتجنيب المغرب منزلقات الانهيار المؤسساتي. فكانت قضية الصحراء والإجماع الوطني، ثم أطروحة النضال الديمقراطي، فالمسلسل الديمقراطي، ثم التناوب التوافقي، والمصالحة والإنصاف، وتقرير الخمسينية، والمفهوم الجديد للسلطة...

ومع ذلك، يستوجب القول بأن منطق القبضة الحديدية الذي انتهجه النظام المغربي لعقود طويلة لم تكن لتعطل إجراء الاستفتاءات حول الدستور(خمسة دساتير ما بين 1962 و1996 أي بمعدل دستور في كل 10 سنوات) ولو شكليا على الأقل، لأن النظام لم يكن ينتظر، طبعا، نتائج الاقتراع حتى يتحقق من الإرادة الشعبية؛ بل كان الهدف، في كل مرة، هو إعلان شوط جديد من المبارزة السياسية بين القطبين بحثا عن توافقات ممكنة، أو تعاقدات محتملة.. إلى أن تم التوافق حول دستور المرحلة الانتقالية (دستور 1996)، بالصيغة المعروفة، بعد تصويت قطب المعارضة بـ"نعم" المعروفة في التاريخ السياسي المغربي "بالإشارة الإيجابية"، وصولا إلى دستور 2011، الذي سيكرس الاختيار الدستوري كحلقة جوهرية ضمن حلقات إصلاح المنظومة السياسية بالمغرب.

دستور 2011، من الصراع إلى التعاقد

وبالمصادقة على دستور الفاتح من يوليوز 2011، سينتقل النقاش السياسي ببلادنا من الترافع السياسي إلى إقرار دستور ديمقراطي، وهو الترافع الذي ظل يؤثث خطاب المعارضة السياسية بالمغرب منذ مطلع الاستقلال من أجل الخروج من دائرة الدساتير الممنوحة إلى مجال الدستور التعاقدي- إلى خطاب جديد، ترافعي هو الآخر، تشترك فيه أغلب المكونات السياسية، خطاب يطالب بتفعيل الوثيقة الدستورية، وترجمة مضامينها التعاقدية.

وهكذا انتقل النقاش السياسي من المطالبة بالإصلاح الدستوري إلى المطالبة بتفعيل الدستور. وهو انتقال يؤشر على تحول في الخطاب السياسي، يوازيه تحول في طبيعة منظومة الحكم بدأت ملامحها منذ إقرار مسار المصالحة الحقوقية، وتدشين تجربة التناوب التوافقي.

وبغض النظر عن بعض المواقف المعلنة إزاء الدستور الجديد، بحكم اختلافات التقدير وسقف المطالب، فإن الاتجاه العام الذي ارتسم في الخطاب السياسي الجديد يرتبط بالمطالبة بأجرأة الوثيقة الدستورية، فأجمعت العديد من الصيغ اللغوية على هذا المطلب ( التنزيل- التفعيل-التطبيق- الأجرأة- الإعمال...) الذي يترجم إحدى السمات البارزة لمغرب ما بعد 20 فبراير بعد إقرار المنهجية الديمقراطية في تشكيل الحكومة.

دستور جديد أمام تعددية حزبية جوفاء

وإذا كانت الوثيقة الدستورية الجديدة قد استجابت في مضامينها وتوجهاتها الكبرى للعديد من المطالب الجوهرية المرتبطة بتحديث المنظومة السياسية ببلادنا، بغض النظر عن بعض الاختلافات المرتبطة بسقف المطالب، فإنها سمحت ميدانيا بالكشف عن العديد من العيوب التي أضحت تؤثث المشهد السياسي العام ببلادنا، ومن ضمنها ضعف التعددية السياسية أمام تعددية حزبية جوفاء لا تستطيع مواكبة متطلبات التغيير الذي تفترضه المرحلة، وأمام هشاشة القطب الديمقراطي الذي افتقد مع مرور السنوات لعناصر المناعة السياسية الجماهيرية، والتي بدونها لا يمكن تحقيق مكتسبات إضافية تواكب المرحلة الجديدة، وأمام حركات اجتماعية مطلبية غير متموقعة سياسيا وتعلن تبرمها من المشاركة السياسية، ولا تسمح بخلق فرز جديد في المشهد السياسي، في سياق وطني يؤشر على التوسع الميداني للحركات الإسلامية ذات التوجهات المختلفة، وتأكيد حزب العدالة والتنمية تفوقه الانتخابي في دورتين تشريعيتين متتاليتين.

في هذا السياق، سيتأكد ضعف المشهد السياسي، وسيتسع الشرخ بين الكتلة الناخبة والعروض السياسية المقدمة، فيما سيدير حزب العدالة والتنمية المعركة السياسية من بوابة المعارك الأخلاقية، والتشفي في خصومه السياسيين، ومهاجمة الدولة، بين الفينة والأخرى، وتبني خطاب المظلومية من داخل التدبير الحكومي، والاستثمار الماكر في نظرية "القطبية الإيديولوجية" التي ستجعل من حزب العدالة والتنمية الرابح الوحيد في هذا المعترك الذي يحلو للقياديين البيجيديين اللعب من داخله لربح مساحات جديدة في المعترك السياسي، أمام خصم سياسي، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أدار العملية السياسية والانتخابية بخطاب سياسي لم يؤهله لربح رهان المعركة التي أريد لها أن تكون معركة بين طرفين. وهو ما سيلقي بظلاله على المشهد العام ما بعد انتخابات 07 أكتوبر.

قطبية إيديولوجية ماكرة

وإذا كانت المرحلة تستدعي تقييم المسار الدستوري، والتشريعي لما بعد دستور 2011، وكذا تقييم الحصيلة الحكومية لتجربة العدالة والتنمية في إدارة الحكومة، فإن واقع الحال سيؤكد أن البيجيدي سيسعى إلى الانفلات من دائرة المحاسبة، وتهريب النقاش إلى دوائر تشكك في العملية السياسية والانتخابية برمتها، وفي المقتضيات الدستورية نفسها. وعوض أن يستقر النقاش في تقييم طبيعة الاختيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لحكومة بنكيران لتشكيل رأي عام انتخابي بما ينسجم ومتطلبات الترسيخ الديمقراطي، وأعراف وقواعد العملية السياسية سنصطدم بمقولات ستراهن على تشكيل وإحداث فرز لدى الرأي العام يقوم على ثنائية إيديولوجية عقدية وأخلاقية مفادها أن استحقاقات 07 أكتوبر الانتخابية ستكون معركة بين المسلمين أنصار العدالة والتنمية، وغير المسلمين (أو ما يسمونه بشكل ماكر بالحداثيين)، معركة بين "المصلحين"، و"دعاة الحرية" من جهة، ودوائر "التحكم"، "والمفسدين" من جهة أخرى.

وعليه، سيتم إفراغ العملية السياسية والانتخابية من أبعادها الحقيقية (باعتبارها ثاني انتخابات بعد دستور 2011)، وسيتم تحويلها إلى معركة "للنوايا الحسنة" و"للإرادات الصالحة" عوض أن تكون محطة للحساب، وتقديم حصيلة البرامج، في سياق الدستور الجديد، وأمام كتلة ناخبة متبرمة من العملية الانتخابية.

وعليه، ستذهب العديد من التحاليل إلى القول بأن انتخابات 07 أكتوبر ستكون انتخابات بين قطبين أساسين: قطب إسلامي محافظ يمثله العدالة والتنمية، وقطب حداثي يمثله الأصالة والمعاصرة. ونظرا لما حملته هذه الثنائية من تمويهات، ومنزلقات مست جوهر العملية السياسية ببلادنا، ليس فقط لأنها تتعارض أصلا مع طبيعة التشكيلات السياسية والمجتمعية، والثقافية والخيارات الدستورية المحسومة في بلادنا، بل لأنها ستحول المعركة من معركة تخص البرامج والخيارات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية إلى معركة "هوياتية"، تخدم مصالح التشكيلات المحافظة وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الذي سيعمل جاهدا إلى استدراج خصومه إلى دائرة الصراع باسم الهوية والدين والخصوصية، وهي دائرة مربحة له، وسيسعى بموجبها إلى ربح مساحات إضافية؛ لأنها، بكل بساطة، هي الرقعة التي ينتعش فيها رأسماله الدعوي والانتخابي، وتحوله إلى محام يدافع عن قيم المجتمع وإسلامية الدولة، حتى وإن اصطدم خطابه مع إمارة المؤمنين نفسها.

وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة بنكيران توقع على أسوء الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على تحرير الأسعار، وتجميد الاستثمارات العمومية، ووقف التشغيل، وإقرار نظام مقايسة كاذبة (أسعار المحروقات في السوق لا توازي ثمنها العالمي)، وتجميد الأجور، والاقتراض المفرط، وإقرار التشغيل بالكونطرا، ومراجعة نظام التقاعد على حساب المتقاعدين، ... إلخ.، وهي الاختيارات التي أعلنت ضرب مقومات وأسس الدولة الاجتماعية في مقابل تكريس نموذج اقتصادي ومالي ليبرالي يقدس التوازنات المالية المشوهة على حساب مستلزمات العدالة الاجتماعية، كان حزب العدالة يشيطن كل خصومه السياسيين، ويتجند لربح أصوات إضافية في الرقعة الانتخابية، ويشكك في العملية السياسية برمتها.

في متطلبات تعاقد سياسي تعددي جديد

واليوم، بعد ست سنوات من اعتماد الدستور الجديد يبدو المشهد السياسي العام أكثر تراجعية عما كان عليه قبل 20 فبراير، بل أصبح يؤشر على لا تطابق بين حمولات الدستور وأهلية القوى السياسية على إعطائه نفسا تحديثيا ليواكب انتظارات الشارع.

وفي الوقت الذي كان الدستور الجديد يفترض وجود ديناميات سياسية داعمة له، ستعلن الحركات الاجتماعية مطالبها في الشارع معبرة عن رفضها للعملية السياسية، ولآليات "الوساطة" التقليدية؛ وهو ما سيدخل المشهد الحزبي إلى قاعة الانتظار، في مرحلة دقيقة كشفت مأزق السياسة، في غياب عروض استثنائية من شأنها إرجاع الثقة في المسار الديمقراطي، وفي كل الشعارات الداعمة له.

ولأن الخروج من حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي تتطلب جرأة كبيرة في التعاطي مع ما يجري، فإن المطلوب اليوم أمام كل الفاعلين، من مختلف المواقع، التفكير الجدي في بناء تعاقد سياسي وطني تعددي يقوم بالأساس على حماية الأدوار الاجتماعية للدولة، والتصدي الحازم لكل مسببات الفساد السياسي، والإداري، والانتخابي وإقرار ميثاق اجتماعي تشارك فيه كل مكونات المجتمع، لدعم مطالب الفئات المعوزة، والشرائح الفقيرة، والفئات المتوسطة.

وطبعا، لن يتأتى ذلك إلا بإعلاء سلطة الدولة، من خلال إعمال سلطة القانون والربط الفعلي للمسؤولية بالمحاسبة، ليأخذ هذا البعد مكانته الدستورية والقانونية انسجاما مع انتظارات الشعب المغربي. ولكي لا يتحول، مع مرور الأيام، إلى شعار للاستهلاك، تماما كما حصل ويحصل مع شعار "محاربة الفساد".

ولكي يأخذ هذا المشروع أبعاده الفعلية، على الدولة تحضير شروط انفراج سياسي واجتماعي بإطلاق سراح كل المعتقلين على خلفية الأحداث الاجتماعية، وإحالة كل الملفات المرتبطة بالفساد المالي، والإداري، والانتخابي على القضاء، وتحرير الإعلام العمومي ليواكب هذه العملية.

وبالموازاة مع ذلك، ينبغي إعادة تأهيل المشهد الحزبي ببلادنا، على قواعد تعددية سياسية حقيقية، قائمة على شرعية المؤسسات الحزبية وعلى معايير الديمقراطية والكفاءة والنزاهة، وبناء الهياكل التنظيمية بأبعادها الحقيقية في علاقة حيوية بدينامية المجتمع، بشبابه ونسائه وطلبته، وتجديد النخب بما يؤمن للسياسة معنى ايجابيا في الحياة العامة.

ولضمان البعد الاستراتيجي لهذا التعاقد، انسجاما مع قواعد الدستور، ينبغي حظر كل أشكال المساس بالخيار الديمقراطي، سواء تعلق الأمر بالتشكيك في شرعية المؤسسات الدستورية، أو في العملية السياسية برمتها، والتأكيد على استقلالية القرار الحزبي، وعدم تدخل الدولة في العملية السياسية، في مقابل احترام الأحزاب للقواعد الديمقراطية والشفافية في كل العمليات الانتخابية الداخلية، وعدم استغلال الفضاء السياسي لرعاية مشاريع اجتماعية ذات أبعاد دعوية وعقدية لأغراض سياسية تناقض في جوهرها المشروع الديمقراطي والحداثي للمغرب.