قضايا

الاقتتال بسبب الدين من مظاهر غباء البشر وانحطاطهم

أحمد عصيد

يرى المسلمون أن غيرهم من أهل الديانات الأخرى "كفار"، كما يرون الذي لا يؤمن بأي دين "كافرا" أيضا، وهو نفس ما يعتقده المسيحيون عن المسلمين، ويعتقده اليهود عن المسيحيين والمسلمين، وهو نفس ما يراه أصحاب الديانات الأخرى أيضا الذين يرون في الديانات الثلاث الأكثر شهرة انحرافا عن الحق وتمييعا لفكرة الربوبية ذاتها.

وفي الوقت الذي يعتبر فيه كل واحد من هؤلاء نفسه سعيدا في عقيدته، يعتبر الآخر شقيا وغير مرغوب فيه، مما يجعله في النهاية أميل إلى التدخل في اختيارات الغير والسعي إلى دفع الآخرين إلى تغيير دينهم بكل الطرق. من جانب آخر فمن الناحية السيكولوجية، لا يستطيع المؤمن أن يقاوم فكرة أن الآخرين الذين لا يعتنقون دينه يمثلون إهانة لهذا الدين بسبب عدم اقتناعهم به، فكأنه يقول "كيف لا يرى هؤلاء الحق الذي أنا عليه ؟".

النتيجة أن الديانات صبغت تاريخ الإنسانية بلون الدم، وأصبحت من أكبر عوامل شقاء البشر عوض أن تكون مبعث طمأنينة روحية وصفاء نفسي.

صار الاعتقاد منبعا للكثير من المشاعر السلبية مما شوّش على مبدأ الإيمان ذاته، وجعل الناس يعيشون في غمة دائمة، لأنهم بحكم اعتقادهم أن دينهم هو الأفضل لم يستطيعوا أن يتخلصوا من فكرة انحراف غيرهم وضلاله، وبما أنّ كل إيمان ديني يدفع بصاحبه إلى السعي إلى هداية الآخرين وإرجاعهم إلى "الصواب"، أي إلى "طريق الحق" الذي ليس إلا الدين الذي يعتنقه هو نفسه، فإن علاقته بغيره لا بدّ أن تكتسي طابعا مأساويا بل قد تصير جحيما حقيقيا عوض أن يطبعها التعايش السلمي القائم على المحبة والإخاء الإنساني والتضامن.

ورغم محاولة جميع هؤلاء الظهور بمظهر المتسامح والإنساني النزعة، إلا أنهم بسبب عدم حسمهم في بعض الأمور المتعلقة بتعاليم الديانات التي يعتنقونها، سرعان ما تظهر حقيقتهم عندما ينحازون تلقائيا ودون تفكير إلى تمييز غيرهم بسبب الدين والعقيدة، والنظر إليه نظرة تنقيص تجعل علاقتهم به علاقة مضطربة.

وترتبك المواقف بين الرغبة في الظهور بمظهر التسامح وبين التعبير العلني عن النقمة والكراهية، فترى المسلمين مثلا يتسابقون من أجل إعلان احترامهم لـ"أهل الكتاب"، فيأتونك بالكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ضرورة التسامح معهم، ولكن بمجرد أن يشعروا ببعض القوة، وبكونهم أغلبية متحكمة في مراكز النفوذ والثروة، حتى تراهم يتسابقون على الإتيان بآيات وأحاديث أخرى تدعو إلى كراهية اليهود والنصارى وتعتبر السلام عليهم أمرا منهيا عنه، وتعتبرهم "أبناء قردة وخنازير" وترى فيهم أكبر عائق للإسلام وأكبر عدو للمسلمين.يعني هذا في النهاية أن الدين ليس سوى ما يفهمه منه الناس حسب سياقهم وشروط عيشهم والتحديات التي تواجههم.

كانت هذه المعضلة المزمنة نصب أعين محرّري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في منتصف القرن الماضي، ولذلك ركزوا على الرابطة الإنسانية الكونية عوض الرابطة الدينية التي عمقت الشرخ بين بني البشر، وأدّت بهم إلى ارتكاب جرائم كثيرة باسم السماء.

هكذا جُعلت فكرة المواطنة بديلا للطائفية والرابطة الدينية والعرقية والقبلية الضيقة، وهي فكرة بنيت أساسا على مبدأ المساواة بين البشر بغضّ النظر عن كل التمايزات التي تبعدهم عن بعضهم البعض، ولعلها اليوم المخرج الوحيد الذي يبدو ضروريا لإيقاف التناحر الطائفي في بؤر التوتر الملتهبة.