تحليل

المشكلة الإفريقية .. توترات الداخل والخارج

محمد نور الدين أفاية

كثيرة هي الكتابات الإفريقية التي تتحدث عن إفريقيا أو عن تعاون جنوب- جنوب وكأنها عبارة عن عمل بلاغي، خصوصا حين تستدعي ثنائيات من قبيل: ماضي/ حاضر، أصالة/ حداثة، هوية/ استلاب، إفريقيا/ عالم. ويتمّ التعبير عن ذلك داخل أطر فكرية ونفسية تعطي لهذه الثنائيات مضامين «جوهرانية»، لا تراعي مفعولات التغيير أو الازدواجية أو الخلخلة التي يتعرض لها الأشخاص والأوطان والثقافات؛ بل إن التقدم باسم حضور منغلق على حدوده الخاصة، إزاء عالم اجتياحي، لا يعني، البتة، الانفلات من السياق الثقافي العام التي تعمل الحضارة الغالبة على نحته. حصل هذا في الماضي، ويحصل في مجال إدراكاتنا اليومية، وسيحصل ذلك في المستقبل.

فبأي عالم يتعلق الأمر حين يتقدم الكائن الإفريقي، في تنوعه واختلافه، أمام ذاته وأمام العالم؟ وكيف يمكننا تصور الأشكال المختلفة للقاء، للتقارب وللتوتر بين العوالم الإفريقية والغرب الأوروبي وغير الأوروبي؟ ما الإمكانات التي تضعها إفريقيا لنفسها لمعرفة الآخر والتعاون معه، وبالتالي تكوين صورة عن إفريقيا بوصفها عملية مشروعية فاعلة؟

لا شك في أننا حين نتحدث عن العالم، فمن البدهي أننا لا نقصد كيانًا كليًا، أو أن إفريقيا تتماهى مع ما يشابهها؛ فالعالم ـ والأمر يتعلق هنا بالغرب عموما ـ باعتباره اختلافًا ثقافيًا يشكل جزءًا من نظرة الأفارقة إلى ذواتهم، سواء تقدم إلينا بوصفه شريكًا متساويًا أو في هيئة غاز، أو تاجر أو مُبشّر أو باعتباره كيانًا متغطرسًا أو مهادنًا... إلخ. فالآخر حالّ في المجال الوجودي للهوية. إنه يمثل، وبشكل مُفارق، موضوع إغراء ومنبعًا للحيطة والحذر.

ومعلوم أن هذا الموضوع قد يفتح آفاقا للبحث قد لا تهمنا هنا، بشكل مباشر، مثل دراسة «علم نفس الشعوب» أو «الإثنو ـ سيكولوجيا»... إلخ. في مقابل ذلك، فإن المباحث التي تتخذ من الصور موضوعات لها تسعى إلى «تحديد الصور التي تتعايش داخل... نفس الثقافة. وهذا ما نسميه، على صعيد تاريخ الأفكار بـ «الآراء Opinions، وهي توجهات فكرية، تتشرعن من خلالها وتتطور الصور الثقافية» (كما يعتبر الباحثون في "علم الصور" ومنهم باجو). ولأن موضوع الصورة يفترض استعمال كلمات من قبيل الإدراك والنظرة والتصور... إلخ فإن الصورة كثيرًا ما تتحدد باعتبارها «تمثلا يحمل مزيجًا من المشاعر والأفكار التي يتعين القبض على تعبيراتها العاطفية والايديولوجية".

ولعل النظر إلى إفريقيا أو التفكير في ممكنات التعاون، أو الرغبة في تكوين "وجهة نظر إفريقية" عن إفريقيا يبدأ، أو يجب أن يبدأ، كما يقول "باباكار سال"، من التصالح مع جغرافيتها وتاريخها، في تنوعهما، كما يفترض تجاوز الذهنية التمييزية التي تصنف القارة إلى مجموعات ما بعد استعمارية. وهذا أمر ليس سهلا على كل حال.

فالمشكلة المطروحة على الأفارقة وعلى الوعي الإفريقي، كما هو حال مجموعة من مناطق وجهات العالم، تتمثل في كون المرء مهما فكّر فإنه يجد صعوبات كبرى في إثبات وجوده، أو على الأقل في أن يجد له موقعا في نظر الآخر الذي ينظر إليه، لأنه يجد صعوبة في الاعتراف به، لسبب كونه لا يراه Il ne vous voit pas ، أو لا يعرفه، أو يريد أن يعرفه بالطريقة التي يختار.

أن تطالب بالاستماع إليك قد يطرح مشكلة، لأن شروط الاستماع إليك أو النظر إليك لا تتوفر، في غالب الأحيان، حين تأتي من إفريقيا، أو تتحدث باسمها. من جهة أخرى، يبدو أن بعضنا حين يتحدّث أو يتكلّم عن إفريقيا وكأنه يقوم بذلك من منطلق معرفة بالضبط عماذا يتكلّم. والحال أن تسمية إفريقيا ذاتها ليست نتاج تسمية داخلية؛ إذ يلاحظ "هنري لوبيز" (الكونغو) بأنه قبل تشكّل القارة في حدودها المعروفة، فإن إفريقيا كمفهوم تكوّن خارج إفريقيا؛ حيث اكتسبت القارة الحالية تسميتها بفضل قبيلة "أفريدي" التي كانت تسكن ناحية قرطاجة. وعمل الرومان على استعمال مصطلح أفريقيا لتعيين المنطقة التي تعرف باسم تونس. ومنذ فترة طويلة، أطلق هذا الاسم على إفريقيا الشمالية ذات الغالبية العربية البربرية. أما الجنوب، ذو الغالبية الزنجية، فكان يسمى "إثيوبيا". وإلى حدود الفترة الأخيرة، عمل بعض ذوي الأصول الإفريقية على تعريف أنفسهم بوصفهم أفارقة".

إن طرح إفريقيا كأفق معناه القبول ببذل المجهود للتفكير في التغيرات التي تحلّ في بلدانها، ومساءلة نقائصها وهشاشتها وقوتها وتجاربها البناءة، بدل سلوك سبيل اللامسؤولية من خلال الاطمئنان إلى سهولة إسقاط كل أعطابنا على الغرب، أو على الاستعمار. وهذا، بلا شك، أفضل وأسهل اختيار لرفض التفكير في الذات والتساؤل عن ممكنات النهوض الجماعي.

ويبدو أنه لا مناص من الإقرار بأن هويات الأفارقة – حتى السياسية- تتعرض للتبدّل والتفكّك وإعادة بناء لا متوقفة، وبأن هويات جديدة تتشكل وتتساكن مع القديمة، سواء حصل ذلك على امتداد العقود المنصرمة، أو يحصل في زمن العولمة والإنترنيت، وتأثيرات التكنولوجيات الرقمية على علاقاتنا بالزمن، والديمومة، والفضاء، وطرق العيش، وعلى الفعل والإبداع والابتكار. ولذلك، تفترض هذه المعطيات النظر إلى ما يتخطّى الأصول والانتماءات والأديان واللغات.

يقول "باباكار سال" Babacar Sallإن إفريقيا، هي "لا مفكر فيه العالم "l’impensé du monde، حيث تُصورُ إفريقيا بوصفها فضاء ثابتا، لا تاريخيا، ولا ينظر إلى المجهودات الفكرية التي تبذل عنها وفي داخلها إلا بوصفها انعكاسا لتأثير من الخارج. والحال أن موضعة إفريقيا، باعتبارها لا مفكر فيه تاريخيا، ليست فقط نتاج استبعاد جغرافي، اقتصادي أو سياسي، وإنما هي نتاج استبعاد فكري؛ ذلك أن الرئيس جاك شيراك سبق له، في تسعينيات القرن الماضي، أن اعتبر أن "الديمقراطية ترف بالنسبة إلى الأفارقة"، ومرد ذلك، في نظره، إلى أن "الأنوار لا يمكن أن تتلاءم مع الثقافة الإفريقية التي تتميز بهيمنة الغريزة القبلية". الموقف نفسه عبّر عنه، لربما بعنف أكبر، الرئيس ساركوزي، (26 يوليوز 2007) حين أكد، بغطرسة لافتة، على أن الإنسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بعد.

لا شك في أن هناك عراقيل تحول دون بروز "وجهة نظر إفريقية" على المستويات الثقافي والعلمي والاقتصادي. ولتحديد مفهوم "وجهة نظر إفريقية" لقد سبق لـ"إليون ديوب"، مؤسس مجلة Présence Africaine، في مقالته الافتتاحية أن حدد 3 أبعاد وصعوبات لهذه الوجهة: تعريف الأصالة الإفريقية؛ إدماج إفريقيا في الحداثة؛ البحث عن شراكات خارجية، وأضيف عن شراكات بينية.

لكن كيف يمكن مواجهة صعوبات تأسيس استقلال ذاتي للعمل الإفريقي، أو إطلاق مبادرات تعاونية تتجاوز المقولات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية؟

هناك معوقان رئيسان يحولان دون بروز وجهة نظر إفريقية حقة: الاستلاب التاريخي للنخب الإفريقية؛ هيمنة النظرة الخارجية على الاقتصاد الإفريقي كما على اقتصاد المعرفة حول إفريقيا.

المعرفة العلمية في إفريقيا، على سبيل المثال، محتكرة من لدن العلماء الأجانب بـ90%، وأن 95% من الكتب المنشورة في إفريقيا هي عبارة عن كتب مدرسية manuels، ونادرة هي الكتب العلمية أو الأدبية (رواية، شعر..). أما على صعيد المنشورات الجامعية فإن 1% فقط من الاستشهادات تأتي من إفريقيا، ومن أجل قراء غير أفارقة.

يعود هذا الوضع، من بين أسباب أخرى، إلى أن إفريقيا تخصص فقط 0،4% من الاعتمادات للبحث والابتكار، وأن التفاوتات بين البلدان الإفريقية تبدو كبيرة داخل هذه النسبة الضئيلة.

كما أن هناك تمركزا للاستثمارات في البحث حول إفريقيا الجنوبية التي تمثل وحدها 90% من الصرف على المجالات العلمية قياسا إلى البلدان الإفريقية الأخرى. وتعاني إفريقيا جنوب الصحراء من تأخر ملحوظ في الإنتاج العلمي الذي يتمركز، أساسا، في إنتاجات البلدان الأنغلوفونية، بحيث إن¾ المنشورات مصدرها جامعات إفريقيا الجنوبية وكينيا ونيجيريا، مع غياب شبه تام لأية بنية جامعية فرنكوفونية؛ فضلا عن الهجرة الكبيرة للكفاءات الإفريقية (أساتذة وباحثون)، حيث تقدّر بـ20000 إفريقي يتركون القارة سنويا للذهاب إلى البلدان الغربية بالأساس، بعد أن يكون قد اكتسب تكوينا وكفاءة.