تحليل

الدخول السياسي و"الخروج الحزبي" بالمغرب .. مؤشرات وتداعيات

ميلود بلقاضي

يعيش الدخول السياسي بالمغرب، هذه السنة، على إيقاع عدة أحداث كبرى ستؤثر على هذا الدخول:

أولها: قوة خطاب عيد العرش الأخير وسخط الملك على الأحزاب وزعمائها، وتأكيده أنه حان وقت تفعيل المبدأ الدستوري ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ وهو ما جعل المغاربة ينتظرون حدوث "قرارات عليا" مرتقبة قد تصل إلى حد إعفاء وزراء ومسؤولين كبار في الوقت المناسب.

ثانيها: الاستقالة المفاجئة لإلياس العماري من قيادة حزب الأصالة والمعاصرة، بعد الخطاب الملكي.

ثالثها: استمرار عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، وحميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، توجيه تصريحاتهما النارية حيال القصر ومحيط الملك.

رابعها: انتظارية قاتلة للنخب السياسية وباقي المؤسسات من حالة الغموض التي يمر منها المغرب.

خامسها: إفشاء حميد شباط وبنكيران معطيات خطيرة ومثيرة حول ما جرى ما بعد 7 أكتوبر 2016 مقابل صمت رهيب من لدن الدولة ومن الشخصيات المعنية.

سادسها: اتجاه أهم الأحزاب السياسية المغربية في تغيير زعمائها، إذ يستعد حزب الاستقلال "التخلي" عن حميد شباط زعيماً للحزب، وحزب العدالة والتنمية عن عبد الإله بنكيران أمينا عاما للحزب، وحزب الأصالة والمعاصرة يواجه قرار تغيير قيادته بعد استقالة إلياس العماري.

وأمام هذه الأحداث التي تميز الدخول السياسي بالمغرب لهذه السنة، سنحاول تقديم قراءة متواضعة للوضع الراهن للأحزاب السياسية المغربية، مع الإشارة إلى أننا لا ننتقد الأحزاب السياسية كمؤسسات دستورية ضرورية لأي خيار ديمقراطي، ولا ننكر نضالها الطويل والمرير من أجل الديمقراطية والإصلاحات الدستورية والسياسية، بل ننتقد الممارسة الحزبية وكيفية تدبير الشأن الحزبي بعد تخليها القيام بمهام الوساطة والتأطير والتمثيل وحراك الريف خير دليل. فكيف هي وضعية الأحزاب المغربية في ظل الدخول السياسي الحالي؟

حزب العدالة والتنمية

يمر هذا الحزب بمرحلة صعبة أثرت بشكل واضح على تماسكه وانضباط قواعده وهياكله، خصوصا بعد إعفاء بنكيران وتعيين سعد العثماني مكانه والذي اعتبره أتباع بنكيران بأنه "تنازل" و"خيانة" و"إذلال" للحزب؛ وهو الأمر الذي جعل بنكيران يصف إعفاءه بأنه "زلزال".

إعفاء كانت له ارتدادات تنظيمية هزت بنيات الحزب من الداخل، وهددت وحدته وتماسك صفوفه؛ لكن العارف بخصوصيات السياق السياسي المغربي الحالي سيدرك أن ما يحدث داخل حزب العدالة والتنمية أبعد وأكبر وأعمق- بكثير- من خلافات العثماني وبنكيران حول تشكيل الحكومة أو من خلافات حول تعديل النظام الداخلي للحزب وتحديد جدول أعمال المؤتمر.

لذلك، يؤكد أكثر من مؤشر أن حزب العدالة والتنمية يدشن دخوله السياسي وهو يعيش على إيقاع هزات داخلية قوية قد تمهد للانشقاقات، خصوصا أن هوة الخلاف تتسع يوميا بين تيار الأمين العام عبد الإله بنكيران الذي ما زال قويا ومتحكما في تنظيمات الحزب، وتيار العثماني وأتباعه خصوصا فئة الوزراء المشاركين في حكومته لكونهم يدركون خطورة وكلفة بقاء بنكيران على رأس الحزب بالنسبة إلى الدولة التي تضغط على تيار العثماني لطي مرحلة بنكيران نهائيا..

مقابل ذلك، عبد الإله بنكيران مدرك أنه مستهدف من كان وراء البلوكاج الحكومي الذي كان من بين أسباب إعفائه.. لذلك، فإنه لن يستسلم لمخططات خصومه خارج الحزب وداخله بسهولة، بل إنه سيناور إلى آخر رمق؛ وهو ما سيجعل مستقبل الحزب مفتوحا على كل الاحتمالات شهورا على عقد مؤتمره الذي من الأكيد أن "البيجيدي" لن يبقى ولن يكون كما كان "البيجيدي" قبل المؤتمر وقبل رحيل بنكيران، ولن يبقى ذاك الحزب المتماسك والمنظم والمنضبط والقوي انتخابيا.

حزب الأصالة والمعاصرة

يمر هذا الحزب بأصعب اللحظات في مساره، بعد تقديم إلياس العماري استقالته من قيادة الحزب. هذه الاستقالة التي سترغم مناضلي وأجهزة الحزب على تنظيم مؤتمر وطني استثنائي لانتخاب قيادة جديدة- إذا ما تشبث العماري باستقالته- وسط تطاحنات ظاهرة وخفية لحزب يتميز بغموض المرجعية الإيديولوجية والهوياتية نظرا لتركيبته المتناقضة والمشكلة من مرجعيات متعددة يسارية وشيوعية وليبرالية ومحافظة ويمينية وبراكماتية تجعل الحزب في خدمة مصالحها أكثر من خدمتها للحزب.

حزب تعاقب على رئاسته أربعة أمناء عامين في مدة 9 سنوات، ومع كل أمين يعرف الحزب هزات داخلية وخارجية؛ لكن الأصعب هي الهزات الحالية، حيث تشير العديد من المؤشرات إلى أن حزب الأصالة والمعاصرة يوجد في هذا الدخول السياسي في نفق مسدود يصعب تجاوزه إذا لم تتدخل قوى خارجية لإيجاد أمين عام جديد قوي، خصوصا لكون استقالة إلياس العماري المفاجئة تركت الحزب تائها وشبه يتيم يعيش على إيقاع تصفية حسابات سياسوية بين صقوره اليسارية واليمينية والمحافظة واليمينية والليبرالية والبراكماتية التي تتصارع على المواقع بعد رحيل آخر السياسيين الأقوياء المهابين داخل حزب الأصالة والمعاصرة وهو السيد الياس العماري؛ وهو ما سيجعل مستقبل الحزب مفتوحا على كل الاحتمالات مع التأكيد على مسألة أساسية، وهي أن الحزب لن يبقى في حجم قوته الانتخابية الحالية في المحطات الانتخابية المقبلة بعد صعود نجم عزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار، ورحيل إلياس العماري.

حزب الاستقلال

يعيش هذا الحزب - في ظل الدخول السياسي الحالي- على إيقاع أزمات وخلافات وتصفية حسابات وتمزقات داخلية صعبة ستكون لها تداعيات على مستقبله أسابيع قليلة على عقد مؤتمر الحزب. خلافات أفرزت تيار حميد شباط، الذي يتهم من لدن خصوصه الاستقلاليين بأنه قزم الحزب في ولايته وأزم علاقاته مع القصر وأدخل الحزب في متاهات مجانية مع الدولة وعدة أطراف، وتيار نزار بركة- الذي يحظى بكثير من القبول لدى دوائر الدولة - الذي يتهمه تيار شباط بأنه في خدمة أجندات التحكم والتعليمات وضرب استقلالية الحزب وتحويل حزب الاستقلال إلى رقم حزبي في خدمة أجندات معينة.

والمتتبع لأجواء الاستعدادات للمؤتمر المقبل يدرك بدقة صعوبة المرحلة التي يمر منها حزب الاستقلال في ظل الاتهامات المتبادلة بين تيار حميد شباط وتيار نزار بركة. اتهامات جعلت حميد شباط يخرج بتصريحات نارية اتجاه عدد من المؤسسات وصناع القرار زاد من تعقيد الوضع داخل حزب الاستقلال.

شباط يدرك بأن أسهمه النقابية والسياسية تراجعت بشكل كبير، وأن ترشحه لقيادة الحزب لولاية ثانية خلال المؤتمر الوطني السابع عشر الذي سيعقد أواخر شهر شتنبر الحالي يعد مغامرة كبرى ستعقد الأمور أكثر داخل الحزب وستجعل مستقبل الحزب مفتوحا على كل الاحتمالات وهو ما يدركه جيدا نزار بركة ومناصروه الذين يعتبرون ولاية شباط هي الأسوأ في تاريخ الحزب.

وضع حميد شباط داخل حزب الاستقلال شبيها نوعا ما بوضع عبد الإله بنكيران داخل حزب العدالة والتنمية – مع وجود الفوارق بين الرجلين- شباط واع بأن الكل يريد التخلص منه وبأن المؤتمر يتجه نحو انتخاب نزار بركة رجل المرحلة الجديدة والقادر على إعادة ترتيب البيت الاستقلالي مع القصر والأغلبية الحكومية؛ لكن شباط لن يستسلم بسهولة.. لذلك، هناك احتمال كبير من أن يعرف الحزب قبل وأثناء وبعد عقد المؤتمر بعض التوترات القوية؛ لكنها لن تكون لها آثار على مستقبل الحزب بعد ما أصبح شباط شبه معزول..

تأخير عقد المؤتمر في موعده والأجواء العامة التي يتم فيها التحضير للمؤتمر والانشقاق الذي تعرفه نقابة الاتحاد العام للشغالين وصدور أمر قضائي لافتحاص مالية الحزب وخرجات شباط الأخيرة والتطاحن بين صقور الحزب حول المقاعد بالمؤتمرات الإقليمية وتصريح نزار بركة بأن فوز شباط لولاية ثانية يمثل تهديدا وخطرا لمستقبل الحزب... كلها مؤشرات تؤكد أن مستقبل الحزب سيبقى مفتوحا على كل الاحتمالات.

حزب التجمع الوطني للأحرار

يعرف هذا الحزب في عهد رئاسة عزيز أخنوش ثورة هادئة إطارها العام تحديد معالم خارطة طريق جديدة وصارمة لكيفية آليات اشتغال الحزب وهياكله، وهو الحزب المعروف بضعف التنظيم والانضباط. ويلاحظ المتتبع لأنشطة الحزب، منذ انتخاب عزيز أخنوش رئيسا له، كيف عمل الرئيس الجديد على إخراج شبيبة الحزب ومنظمة المرأة التجمعية وعدة منظمات موازية إلى حيز الوجود وتنظيم جامعة صيفية من بين أهدافها الأساسية تكوين وتأطير أطر ومناضلي الحزب ونهج سياسة القرب معهم عبر عقد عدة مؤتمرات إقليمية وجهوية لتجديد وتشبيب هاته الهياكل والتواصل معهم بعيدا عن لغة الخشب.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأن الوضع العام داخل حزب التجمع الوطني للأحرار في هذا الدخول السياسي الحالي جد طبيعي يطبعه طموح وعمل وجدية في تأهيل الحزب وهياكله والتفاعل الإيجابي مع مضامين خطاب العرش الأخير لجعله أحد الأرقام الأساسية في الانتخابات المقبلة.

أخنوش كرجل أعمال ناجح يعرف أن نجاح المؤسسات تتطلب الحكامة الجيدة والاستثمار في العنصر البشري وربط المسؤولية بالمحاسبة والالتزام بالقوانين ومبدأ الجودة وحسن التسويق..

وعلى هذا الأساس، يريد السيد أخنوش تدبير شؤون حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو واع كل الوعي بأن الحزب يضم انتهازيين ولوبيات وأصحاب الريع السياسي ويعاني من ضعف التأطير والتنظيم والانضباط وغياب عرض سياسي وضعف الحضور في المجالات الحقوقية والمدنية وغياب أذرع إعلامية تحمي السيد أخنوش أولا، وحزبه ثانيا، وكلفة النجاح ثالثا، من هجمات إعلامية راهنية ومستقبلية خصوصا بعد تصريحات حميد شباط وعبد الإله بنكيران حول علاقات أخنوش بالبلوكاج الحكومي.

حزب التجمع الوطني للأحرار تحت المراقبة، خصوصا بعد ظهور بعض مؤشرات تأزيم الوضع داخل "البام". وبناء عليه، فليس أمام أخنوش وحزبه إلا الرهان على العنصر البشري داخل الحزب وتسليحه بالمبادئ الديمقراطية الحقة واحترام قوانين الحزب ونهج سياسة القرب والصدق والبساطة والتواضع والحديث بلغة الشعب وربط القول بالفعل ليصبح رقما أساسيا في ظل دخول سياسي أصيبت فيه الأحزاب الكبرى بالدوران وبأزمات داخلية تجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات.

باختصار، المشهد الحزبي يعيش على إيقاع الانتظارية القاتلة والقرارات المرتقبة التي سيعلن عنها ملك البلاد في ظل دخول سياسي باهت لا بداية ولا نهاية له، زمنه روتيني، وإطاره العام غامض، وأحزابه السياسية تائهة وخائفة بعد صب الملك جام غضبه على الأحزاب وقادتها في خطاب عيد العرش الأخير وحكومته بحاجة لإقناع الشعب بشرعيتها وبمشروعيتها عبر اتخاذ إجراءات عملية تستجيب لتطلعات المواطن في ظل سياق وطني مأزوم وسياق دولي وإقليمي مضطرب.

*أستاذ التعليم العالي جامعة محمد الخامس الرباط