رأي

نعيمة عبدلاوي: المشروع الأوروبي والدولة القومية في ضوء أزمة كتالونيا

كثير من التوترات السياسية القوية تهدد اندماج أوروبا الموحدة واستقرارها. فأزمة منطقة اليورو وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود الأحزاب الشعبوية المعادية لأوروبا نفسها، كما مشاكل الهجرة والإرهاب كلها تحديات متنوعة تمتحن قدرة الأوروبيين على مواجهتها وتدبيرها بطريقة شمولية تعيد صياغة وإدراك عملية بناء أوروبا كلها.

ككل الذين فازوا قبله أو بعده بجائزة نوبل للسلام يواجه الاتحاد الأوروبي باستمرار اختبار التحقق من استحقاقه لها. السلام الذي استطاع الاتحاد الأوروبي أن يوفره للدول الأوروبية المتناحرة خلال النصف الأول من القرن العشرين فَضَّلَ ازدهارا اقتصاديا واجتماعيا دعَّمَ وحدة الشعوب الأوروبية.

فجوهر الاتحاد الأوروبي هو حرية التنقل بالنسبة للأفراد والكفاءات وغيرها، الجميل أن دول البنيليكس الثلاثة (هولندا، بلجيكا وليكسمبورغ) هي نواة المشروع الأوروبي: ثلاثة دول صغيرة بلا غرور، أنظمتها ملكية وتحقق أرقاما في الازدهار الاقتصادي تنافس بها كبريات الدول من حيث المساحة وعدد السكان. نموذج التعايش الأوروبي نفسه يستنسخ النموذج البلجيكي في التعايش بين المجموعات اللغوية الثلاث (الفرنسية والفلامانية والألمانية) كما بنية النظام السياسي الفيدرالي أي دولة بمستويات مختلفة للسلطة، حرية الجهات في تدبير الكثير من شؤونها والأهم ثقافة التوافقات.

الحلم الأوروبي أن يتطور الاتحاد إلى إطار تغيب فيه الدولة القومية كما عرفناها لحد الآن، هذا الكيان الذي ظهر بطريقة سطحية وعشوائية في حياة المجتمعات وتاريخ البشرية الحديث.

بعد السلام والوحدة ارتأى الزعماء الأوروبيون أن يصبح الرخاء الاقتصادي والتضامن بوصلة الأوروبيين نحو مشروع أوروبا الكبرى، هي فترة ما بعد سقوط جدار برلين، سيصير الاقتصاد هو جوهر الخطاب الأوروبي في ظل السوق الموحدة الأكبر في العالم و أداتها عملة اليورو.

بعد غياب بعض محفزات التوحيد والسلام الأولى، كحروب التحرر في المستعمرات ووجود المعسكر الشرقي وانقسام الألمانيتين وعملية الدمقرطة، سوف تنتقل الدول الأعضاء إلى تعظيم مصالحها من خلال منطق سياسي وطني ورؤية خاصة لبناء الاتحاد الأوروبي.

فحتى انسحابها من الاتحاد ظلت بريطانيا كما الدول الاسكندنافية تمارس سياسة التحفظ أمام كل فكرة أوروبية خالصة بمنطق نفعي وطني يحسب التكاليف والفوائد.

دول أوروبا الجنوبية والوسطى والأخرى الشرقية الملتحقة بالاتحاد بدورها تعرضت لعميلة تحفيز على شكل تغير سريع من أنظمة سياسية "دكتاتورية" واقتصادات مقتصدة إلى ديموقراطيات ليبرالية واقتصاد السوق ولم يكن ذلك دائما في تجانس مع المنطق السياسي لكل منها. هكذا بنيت التوافقات الأوروبية.

أيضا مع التصويت بلا ضد مشروع الدستور الأوروبي في فرنسا خصوصا، سنة 2005 سوف يصعد التيار المشكك في جدوى أوروبا نفسها:

نفس التيار الذي سيجعل البريطانيين يصوتوت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي منذ أشهر، والغريب أن مدينة لندن صوتت لصالح البقاء كما فعلت اسكتلندا.

في اسكتلندا أيضا نزعة تحررية انفصالية كتلك التي مكنت إيرلندا من الاستقلال قبلها.

ستكون مهمة لندن شبه مستحيلة لإقناع الإسكتلنديين بعدم تنظيم استفاء تقرير المصير المبرمج لسنة 2018 بعد انسحابها هي نفسها من الاتحاد الأوروبي.

ما يميز الجهات الأوروبية التواقة للتحرر والانفصال عن الدول القومية التي تنتمي إليها هو انتماؤها الكامل لأوروبا وللفضاء الأوروبي، أما رغبتها في الانفصال عن الدولة القومية فلأسباب ثقافية وهوياتية ومآخذات على نموذج التدبير الاقتصادي للسلطات المركزية.

فإذا أخذنا حالة إقليم كتالونيا الإسباني مثلا، فإن جرح الكتلان يعود إلى اضطهاد فترة الحرب الأهلية وحكم الجنرال فرانكو منذ ثلاثينيات القرن الماضي، القمع اللغوي والثقافي والهوياتي أيضا، لكن مع أزمة 2008 سوف تكتشف منطقة كاتالونيا أكثر جهات إسبانيا رخاءا اقتصاديا حيث تساهم بتحويلات مالية صافية وكبيرة للجهات الإسبانية الأخرى، سوء التدبير على مستوى الحكومة المركزية.

قبلها بسنتين كانت قد اقترحت إصلاحا للدولة الإسبانية يساهم في تطورها نحو نظام فيدرالي يوسع صلاحيات الحكم الذاتي الحالي، لكنه مقترح سوف يلقى طعنا من الحزب الشعبي حزب رئيس الحكومة الحالي السيد ماريانو راخوي لدى المحكمة الدستورية الإسبانية التي تلقى أعضاؤها ضغوطات كبيرة من 2006 إلى 2010، لتحكم لصالح طعن الحزب الشعبي بإلغاء 14 بندا من القانون الذي تقدمت به جهة كتالونيا وعلى رأسها اعتماد اللغة الكتالانية كلغة الإدارة المفضلة في الإقليم وفي عملية التواصل العمومي !

منذ تاريخ النطق بحكم المحكمة سوف تبدأ الاحتجاجات في كتالونيا بتأطير من الجمعيات القريبة من الهيئات والشخصيات ذات النزعة الانفصالية مركزة على اللغة والهوية الكتالنيتين.

احتجاجات وتظاهرات مليونية يقال إنها فاقت حركية عملية الانتقال الديموقراطي في البلاد نهاية سبعينيات القرن الماضي.

التقليد الديموقراطي الإسباني لا يزال فتيا مقارنة بغيره في دول وسط وشمال غرب أوروبا، لذلك لا زالت ترتكب أخطاءا في تدبير الاختلاف وترفض الحوار ولا تسعى للتوافقات وتجنح للعنف أيضا.

السيد جون كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية الذي ينتمي لنفس الكتلة الحزبية داخل البرلمان الأوروبي: الحزب الشعبي الأوروبي ورئيس الحكومة الإسباني السيد ماريانو راخوي، ورغم إدانته لاستعمال العنف والقوة في حيثيات استفتاء انفصال إقليم كتالونيا ظل يردد أن الأمر شأن سيادي إسباني يحكمه الدستور الإسباني وكان كذلك رده يوم الأربعاء الماضي حين ساءله البرلمانيون الأوروبيون عما يقع في إسبانيا.

سيادة الدولة القومية داخل الاتحاد الأوروبي وغياب مرجعية دستورية أوروبية يعطي هامش مناورة يجعلنا نشهد ما شهدناه في برشلونة الأسبوع الماضي. والدولة القومية بدورها تحفز النعرات القومية والثقافية واللغوية لكل المجموعات مهما قل عددها.

سيكون استفتاء اسكتلندا سنة 2018 امتحانا لأوروبا التي تهدد الجهات الراغبة في الانفصال عن دولها القومية أن مصيرها الخروج المباشر من الاتحاد. سوف نرى كيف ستتعامل مع عضوية اسكتلندا إذا ما انفصلت؟

هذه الجهات الصغيرة التي تسعى إلى الانفصال عن كيانات تكبرها دون أن تخرج عن فضاء أوروبي ديموقراطي ومزدهر اقتصاديا يكبرهما معا، ربما تسطر لعهد جديد في العلاقات الدولية تتخلى فيه الدول بدافع من شعوبها عن القوة وعظمتها والرغبة في السيطرة عبر إخضاع واستغلال الآخرين.

ربما تكون أيضا بداية مرحلة جديدة سيعرفها "اللانظام" الدولي الحالي تأتي على حق الفيتو وصنميته.