تحليل

اللاتوازنات السوسيو-اقتصادية والنزعات الانفصالية أية علاقة؟

عبد اللطيف مجدوب

الوضع الدولي بالمنظار الهوياتي

لاحظ العالم أن التخطي إلى الألفية الثالثة ضاعف من بؤر التوتر الجيو-سياسية داخل الحدود الجغرافية لعديد من الدول؛ تغذيها مطالب انفصالية واستقلالية عن نفوذ القرارات السياسية المركزية الخاضعة لها.

ولم تكن هذه النزعات الانفصالية بدرجة الحدة التي آلت إليها اليوم لولا تعاظم مشاعر الغبن والتهميش والإحباط التي بات يستشعرها سكان إقليم تجاه المركز. فبالرغم من وجود عناصر كثيرة تميز الفكر الانفصالي وتعتمل داخله كالحيف الذي يطال المواطن وعلى مستويات عديدة ، يبقى الجانب السياسي والاقتصادي الأكثر وجاهة وتميزا لهذا الفكر ووقوده الرئيس، بغض النظر عن الجوانب الإثنية والتاريخية التي لا يمكن إنكار حضورها.

ملاحظة عن الهويات الانفصالية

بإلقاء نظرة فاحصة على الجغرافية السياسية الدولية؛ في جميع القارات ومختلف دول المعمور؛ نلاحظ بالكاد وجود حركات انفصالية قائمة؛ تنشط في نزاع دائم مع الحكومات المركزية ، مطالبة بأحقيتها في تقرير مصيرها وانفصالها السياسي، أو بقائها تابعة للوحدة الوطنية بشروط اقتصادية وسياسية منهكة.

هذه الحركات ذات النزعة الانفصالية توجد بهويات متعددة، بيد أن معظمها لا يخلو إما أن يكون ذا تنظيم عسكري؛ وهو الأكثر انتشارا في إفريقيا والتي لا تكاد تخلو دولة من تنظيم ائتلاف عسكري باسط نفوذه على رقعة جغرافية؛ يزعم أنها ذات تبعية لنفوذه كمجموعة بوكو حرام في نيجيريا، ومتمردي الطوارق في مالي، والبوليزاريو بمخيمات تيندوف جنوب شرقي الصحراء المغربية.

كما أن هناك تنظيمات وحركات انفصالية؛ قامت على توجهات دينية؛ لعل أشهرها على الإطلاق تنظيما القاعدة وداعش والتي تحولت؛ فيما بعد؛ إلى جماعات عسكرية إرهابية، زرعت الرعب في العديد من مناطق الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأوروبا. وإلى جانب هذه الحركات الانفصالية ذات التوجه الديني الإسلامي، هناك حركات قامت على أسس سياسة اقتصادية Economical Policy؛ انتشرت في أوروبا وآسيا كحركة القبارصة الأتراك عن اليونان، وأندورا والباسك وكاطالونيا بالنسبة لإسبانيا، وكردستان بالنسبة لتركيا والعراق وإيران وسوريا.

تأجيج الفكر الانفصالي

هناك دول؛ كانت بالأمس تشكل مستعمرات لدول أوروبية؛ ورثت عن سياستها الاستعمارية حب التوسع والهيمنة على اقتصاديات دويلات مجاورة، إما بتدخل سافر ومباشر في شؤونها الداخلية أو عبر دعم لوجيستيكي صريح أو خفي لنزعات انفصالية بغض الطرف عن توجهاتها ما إذا كانت عرقية أو دينية أو عسكرية أو سياسية … ولعل أقرب مثال؛ في هذا السياق؛ علاقة الجزائر بحركة البوليزاريو في النزاع المفتعل ضد الصحراء المغربية والذي يخترق أحد المواثيق الدولية والذي ينص بصريح العبارة: “… لا ينبغي للدول القومية (كحالة الجزائر) تأسيس أو المساعدة على قيام حركات انفصالية، أو تحاول القيام بتغييرات حدودية في الدول المجاورة …”.

وليبيا القذافي الذي كان يمول العديد من الحركات الانفصالية تحت ذريعة “التحرر السياسي”، وكذلك عراق صدام الذي كان يرى في دولة الكويت أرضا عراقية عبر التاريخ. على أن هناك حركات متمردة داخل بعض الدول الإفريقية ذات المساحات الشاسعة؛ حشدت لنفسها التأييد والدعم السياسي تحت غطاء العرقية والتهميش؛ سرعان ما تحولت إلى حركات مسلحة ذات نزعة انفصالية وتوسعية.

تقليص الفوارق الإقليمية الجهوية

هناك دول عديدة؛ وقفت على عمق عناصر الفكر الانفصالي وحاولت التقليص من حدة انتشارها.. بأن سارعت إلى تبني سياسة تشاركية تقضي بالحد من الفوارق الاقتصادية بين الأقاليم والجهات كمحاولة لاستفادة الجميع من عائدات الثروات الوطنية بنوع من التوازن دون إقصاء أو تهميش جهة جغرافية على حساب أخرى. كما عملت؛ في آن واحد؛ على إيجاد تمثيلية متوازنة بين كل مكونات الوحدة الوطنية، بعد أن كان هذا الجانب شبه مهمش في ظل احتكار ثروات البلاد وخيراتها من قبل أسر حاكمة أو أو ذات نفوذ في السلطة.

المغرب تفطن مبكرا إلى خطورة “المتمردين”

ما زالت سجلات التاريخ.ـ قديمها وحديثهاـ تحتفظ بأحداث و”ثورات” لأشخاص متمردين على السلطة؛ ظهروا في مناطق جغرافية عديدة، حاولوا في الخفاء توسيع قاعدة نفوذهم، تارة بتوظيف العرقية واللغة، وتارة أخرى بتوظيف الشعور بالتهميش مغلفا بالدين؛ ويكفي أن نذكر في هذا السياق ظاهرة “أبو الوحوش” الذي ظهر في الأطلس المتوسط؛ وروع مناطق شاسعة قبل أن يلقى عليه القبض. ومن قبل نعثر على متمردين/ثوار من طينة أخرى وظفوا؛ في تحركاتهم؛ الدين والصيت القبلي كأبي حمارة بمناطق الريف، وأحمد الريسوني الحاكم المطلق بمناطق جبالة.

بيد أن الفكر الانفصالي؛ إذا جاز لنا النظر إليه من وجهة نظر الثقافة السياسية في المغرب؛ لم يكن في تاريخ ما بهذه الحدة والتميز والإفصاح والذي أصبح يعتمل في صدور الكثيرين، لا سيما من طبقة الشباب المهمش؛ يغذي فيهم هذه الروح وبشكل مباشر قراءتهم أو تلقيهم لقراءة مغرضة لتاريخ بلدهم وأحداثه، ويشيع فيهم وفي أحيان كثيرة الشعور بالغبن (واحتلالهم من طرف الغير)، أو بالأحرى اغتصاب ثرواتهم من طرف الآخر الذي لا يمت بصلة إليهم، وفي أحيان أخرى يسقطون فريسة سائغة بأيدي أطراف مجهولة؛ تغريهم بالمال والامتيازات لقاء توسيع رقعة أفكار مسمومة، تحمل في طياتها بذور الانفصال ومعاداة الوحدة الوطنية.