رأي

عبد الواحد الفاسي: ما لا يدرك كله لا يترك جله

أريد في البداية أن أهنئ حزبنا على نجاح مؤتمره وأساسا على مستوى الأمانة العامة والنتيجة التي حصلنا عليها والتي فاقت كل تصور. وهو الهدف الذي عملنا من أجله بكل ما أوتينا من قوة وذلك منذ المؤتمر السادس عشر. فمن أجل هذا الهدف قمنا بخلق تيار ثم جمعية ” لا هوادة”.

لم نتوقف أبدا عن وضع النقط على الحروف كلما حدث انحراف أو قطيعة مع قيمنا الإستقلالية. لقد تأسفنا شديد الأسف على السلوك الهدام لعدد كبير من أعضاء اللجنة التنفيذية والذي كان ثمنه هو طردنا من المجلس الوطني للحزب. الأمر الذي لم يضعف إصرارنا على الإستمرار في الضغط من أجل الكشف على ما يمكننا أن نسميه خيانة لمبادئ وعقيدة الحزب. ومع ذلك لم يسبق لنا أبدا أن فكرنا في العواقب ولا أردنا، لا جزاء ولا شكورا.

لقد كان يخطر لبعضنا فكرة خلق حزب جديد وهي الفكرة التي تم إقبارها في مهدها وعملنا كل ما لدينا للحفاظ على تماسك المجموعة. عملنا بوصية المرحوم سي امحمد بوستة الذي كان يوجهنا وينصحنا بقبول الأمر الواقع وعدم القيام بأي عمل من شأنه أن يمس وحدة الحزب”. فالأمين العام هو الأمين العام ويجب العمل في إطار الشرعية حتى انعقاد المؤتمر حيث يجب عليه أن يغادر…”.

لقد قبلنا توجيهاته وعملنا بها. وعلى أساسها طالبنا من الأمين العام، ولمصلحة الحزب، المغادرة خلال اللقاء الكبير الذي قمنا بتنظيمه يوم 01 أكتوبر 2015بعد النتائج الكارثية التي حققها الحزب في الإنتخابات الجماعية لسنة 2015وذلك تبعا لما وعد به هو نفسه. لقد أردناه أن يغادر لكن برغبته هو. فهو بعد كل شيء الأمين العام. لكنه رفض ذلك.

بعد هذه الوضعية ارتأينا أنه يجب العمل بكل ما بإمكاننا من أجل الرجوع إلى البيت، لأن استمرارنا خارج البيت، مع دنو تاريخ عقد المؤتمر، لن يكون لا في مصلحتنا ولا في مصلحة الحزب. وقد تأكد بأننا كنا على حق في هذا النهج وذلك من خلال الدور الذي استطعنا أن نلعبه فيما بعد. وهكذا تم عقد اتفاق 11 يناير 2016 الذي مكننا من استعادة حمل المشعل من الداخل. ولم تكن هذه العودة لترضي مجموعة من أعضاء اللجنة التنفيذية ، ومن بينهم من أعيد انتخابه في المؤتمر الأخير.

وبالرغم من ذلك ألححنا في الإستمرار في هذا النهج وكنا نقوم، كلما استدعت الضرورة لذلك، بدورنا في المصالحة ودورنا في الحفاظ على الوحدة في بعض الأحيان. الأمر الذي لم يترك لنا الوقت للتفكير في أنفسنا. في ذلك الوقت كان بإمكاننا الحصول على الكثير، ولكننا لم نفكر قط في هذا. فالإنتهازي يولد انتهازيا، أما نحن فلم نعرف كيفية استعمال الوصفة الانتهازية.

ولكي لا أطيل، سأمر مباشرة إلى المرحلة التي شهدت حربا طاحنة داخل اللجنة التنفيذية والتي أدت إلى انقسامها إلى جزئين، كل واحد منهما يتخذ قرارات، خارجة عن القانون طبعا. وهذا الأمر كان ينذر بانقسام الحزب. وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتصوره أو أن يقبله أي استقلالي حقيقي. مما فرض علينا أن نتدخل ونعمل المستحيل من أجل جمع الشمل. وقد تم ذلك بالفعل من خلال لقاءات مع كل من الأمين العام والسيد حمدي ولد الرشيد. لقاءات توجت باجتماع مطول تمخض عنه اتفاق يقتضي العودة إلى وحدة الحزب والمحافظة عليها.

لقد كان النقاش حادا لكنه انتهى إلى نتائج لم نكن نأمل الوصول إليها. وأذكر منها حصريا قبول تعديل الفصل 54 من قانون الحزب الذي سيسمح بالترشيح للأمانة العامة للحزب لشخص من خارج أعضاء اللجنة التنفيذية الممارسة. هذا الفصل الذي تم فرضه بقوة ولأهداف معينة خلال المؤتمر السادس عشر. ولو لم يتغير هذا الفصل لوجدنا أنفسنا أمام مرشح من اللجنة التنفيذية الممارسة بالإضافة إلى الأمين العام (وهذا حقه). مرشح يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور داخل الحزب.

إن وصولنا إلى اتفاق واتخاذ قرارات تحافظ للحزب على وحدته وتوصًلنا إلى محطة المؤتمر السابع عشر لم يكن سهلا. وهنا لابد من الاعتراف والإشادة بدور الوساطة من أجل تيسير المفاوضات والذي لعبه ثلاثة أشخاص أفاضل.

الأول هو السيد محمد السوسي الذي، بحكمته وتجربته الطويلة ومعرفته الواسعة بشؤون الحزب، استطاع أن يذلل كل العقبات من أجل الوصول إلى التوافق المنتظر.

الثاني هو السيد بوعمر تغوان الذي ساهم بكل ما لديه لإنجاح اللقاء الحدث والذي تم عقده بمنزله. الثالث هو السيد عبد القادر الكيحل الذي قام بتوقيع محضر الإجتماع بعد الإتفاق على تعديل الفصل 54 وذلك نيابة عن الأمين العام الذي رفض التوقيع.

هؤلاء الأشخاص، بالرغم من رمزية الأول وتضحية الثاني وشجاعة الثالث، لم يتم إنصافهم في انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية وتعرضوا مثلهم مثل مجموعة من المناضلين إلى سحق “الدكاكة”. مع العلم أننا اتفقنا وكنا نسعى إلى انبثاق لجنة تنفيذية تعكس تمثيلية كل مكونات الحزب ولا ندري كيف تم إجهاض هذا الإتفاق وسقوط هذا المسعى. كنا نسعى من أجل إنجاح تجربة جديدة يتحمل فيها الجميع المسؤولية.

كل ما يتضح هو أنه كانت هناك فكرة إبعاد كل من يمكنه أن يحجب بعمله ومؤهلاته أداء الآخرين. وكل ما قمنا به عندما تم توقيفنا من المجلس الوطني يؤكد أنه ليس من السهل تغيير أو القضاء على هذا النوع من المناضلين. ولن أتطرق إلى التفاصيل فيما قمنا به من بعد ومختلف العوائق المتعددة الوظائف التي استطعنا اجتيازها وما تحملناه في سبيل قضيتنا العادلة من غطرسة وعجرفة الآخر. فلن يهم بحيث أننا حققنا بامتياز كبير النتيجة المتوخاة: أمين عام جديد تفوً ق بفارق 700 صوت. وهذا ذكرني بعنوان إحدى روايات أستاذنا الفقيد عبد الكريم غلاب تحت عنوان “المنفيون ينتصرون” لأنه لا ينبغي أن ننسى بأننا كنا قبل بضعة شهور منفيون من الحزب. لا يمكن أن نقول أننا وحدنا حققنا هذه النتيجة، فهذا أكثر من الغرور، ولكن من هنا كانت البداية.

فعندما أرى الحزن يكسو وجوه أصدقائي ورفاقي الذين خاب ظنهم ولم يظفروا بالإلتحاق باللجنة التنفيذية فلا يسعني إلا أن أقول لهم بأن ونستون تشرشل قد ربح الحرب ولم يعاد انتخابه ليستمر في رئاسة الحكومة. أريد أن أذكرهم بأننا عندما قررنا العودة إلى البيت أو تأسيس “بلا هوادة” لم نكن قط نفكر في اللجنة التنفيذية أو أي شيء آخر. كان هدفنا حينذاك هو الدفاع عن قيم الحزب والعمل على إعادته مجموعا وموحدا إلى الطريق المستقيم. إن عملية الهدم شيء سهل، لكن البناء لا يمكن أن يتم في يوم واحد. لقد تحققت الخطوة الأولى والباقي سيأتي ويتم مستقبلا. فآثار الخمس سنوات الماضية لن تمكننا من إحداث التغيير من الوهلة الأولى. يجب الاستمرار والمثابرة من أجل تحقيق هذا الهدف.

وأقول لهم أيضا أن عددا من شخصيات حركتنا لم يقدموا ترشيحاتهم لعضوية اللجنة التنفيذية، لأنهم كسياسيين محنكين كانوا يعرفون بأن توازن القوى بعد ما شهدته الخمس سنوات الأخيرة لن يكون معروفا بالدقة المطلوبة. وأنا هنا لا أتكلم عن نفسي، لأنني اتخذت قرارا بعد المؤتمر السادس عشر بألا أضع نفسي موضع امتحان أمام الإستقلاليين.

وإذا استطعنا في المرحلة المقبلة أن نجعل من عدد كبير من المنخرطين مناضلين واعين بدور الحزب وعلى علم بمبادئه وفكره، سنكون قد أسدينا خدمة جليلة لحزبنا ولوطننا.

سأقول لهم كذلك بأننا كنا نعلم بأنه سيكون هناك مجموعتان بنفس القوة: الأولى مجموعة مُدمجة تطبق حرفيا التعليمات التي تملى عليها  الثانية مكونة من مناضلين لكنها مفككة بصفة كبيرة ولا يمكنها الإتفاق على اختيار موحد بحكم كونها انقسمت على نفسها مباشرة بعد سقوط السيد شباط.

إن الخطأ الكبير الجسيم الذي ارتكب يكمن في وضع وتشكيل لائحة. فهذا الإجراء لا يمت للديمقراطية بصلة. العمل باللائحة لا يمكن قبوله إلا في صيغة لائحة موحدة. لائحة توحد الحزب. وفي غير ذلك كان يجب ترك الأمور تسير بشكل عادي وعلى كل مرشح إذاك أن يعتمد على نفسه.

إذن، ولكي لا أذهب إلى عمق الأشياء، فالإجراء الذي تم العمل به لم يكن سليما وبالتالي فالنتائج التي تمخضت عنه لم تكن لتفاجئنا. وبالرغم من كل ما وقع، فإنه يجدر بنا تهنئة الأخ حسن السنتيسي، وهو من المؤسسين لجمعية “لاهوادة”، على فوزه المستحق في اللجنة التنفيذية ونحن نعلم أنه سيكون المساند الأكبر للأخ الأمين العام. كما أنه من حقنا أن نفتخر بأعضاء “لا هوادة” الذين حققوا أرقاما مشرفة بالرغم من غيابهم لأربع سنوات وترشحهم بشكل فردي. وكذلك السيد عبد الإلاه البوزيدي الذي استطاع أن يجد له مقعدا باللجنة التنفيذية مشكلا بذلك الإستثناء الذي يؤكد القاعدة.

أريد من أصدقائنا أن يفكروا في ما قاله الزعيم نلسون مانديلا: “أنا لا أخسر أبدا، إما أفوز وإما أتعلم”. وأخيرا أريد أن أقول بأن “لا هوادة” قد لعبت دورها كأداة سياسية. أما ما تقتضيه إعادة البناء فيجب أن يتم داخل الحزب ومن خلال هيئاته. وسوف نحتفظ بجمعيتنا التي ستبقى تدافع عن القيم وتشكل مدرسة للمواطنة.

أقول لإخواني بأنه ستكون أمامنا الفرصة لوضع حصيلة كل ما أنجزناه مجتمعين خلال الأربع سنوات الماضية وسنحاول العمل على نشره. يجب دائما أن نقول: “سنستمر في كل الأحوال وأن لا نكون من اليائسين”. ومن أجل هذا اخترت أن أنشر كملحق نصا مؤثرا جدا لفقيدنا عبد الكريم غلاب حول علال الفاسي يقول:

“ورغم ما منيت به قضية الصحراء من تهاون وانهزامات، فقد كان الرجل – كما عرفناه دائما – الذي لا ينفذ إلى قلبه اليأس. ولذلك ظل يناضل في كل الجبهات الرسمية والشعبية مع الصحراويين وغير الصحراويين. ظل يناضل حتى النفس الأخير. وما زلت أذكر كيف كان يتصل مع بعض المسؤولين الإسبانيين وبعض الذين كانوا مسؤولين. وكيف سافر عدة مرات إلى مدريد واتصل مع رجال الحكومة الإسبانية محاولا أن يصل إلى نتيجة ملموسة. وكان في الحقيقة ينجح في تقريب وجهات النظر بين الحكومتين المغربية والإسبانية – وهو يقود حزب المعارضة – بما يضمن استرجاع الصحراء نظرا للمكانة التي كانت له في قلوب الجميع. ومنذ سنتين حين داهمته الأزمة القلبية الأولى في مايو 1972 كان على موعد مع بعض المسؤولين الإسبانيين: موعد سري حتى عن بعض رجال الحكومة الإسبانية من المتطرفين ضد المغرب. وكان سيصحبه الأخ امحمد بوستة. وفتح عينيه بعد يومين من الأزمة الحادة، ووجوه الأطباء تعلوها مسحة من اليأس القاتل، رغم الإبتسامة المصطنعة، فتح عينيه على وجه الأخ بوستة، وارتسمت على وجهه السمح ابتسامته العذبة وتمتم بين شفتيه في صوت مسموع : إياك أن تنسى موعد 19 مايو لابد أن تذهب، إن لم أستطع أنا فكن أنت في الموعد المقرر”. (كتاب: ملامح من شخصية علال الفاسي).

وفي الختام، يجب أن لا ننسى، ونحن في نشوة الفوز، ولو جزئي، بأن الحزب خرج مفككا بعد فترة الخمس سنوات الأخيرة. مفككا على المستوى التنظيمي وعلى مستوى البنيات ويعيش أزمة على مستوى الفكر وخصوصا مشكل الثقة على جميع المستويات. فمسؤوليتنا ستبقى كبيرة ولهذا يجب أن نتذكر ما وقع في الماضي كي لا ننسى.

المؤتمر أحدث هزة وأعطى نفحة من الأمل ونفسا جديدا بالرغم من بعض السلوكات غير المناسبة. الأمر الذي يستوجب علينا القيام بانطلاقة صحيحة ومساعدة الأمين العام وكل أصحاب النوايا السليمة من بين من هم في قيادة الحزب وهم موجودون من بين الأعضاء الجدد الذين التحقوا باللجنة التنفيذية. وفي كل الأحوال فإن جل الأعضاء الجدد على مستوى الثماني عشرة عضوا كانوا بجانبي خلال المؤتمر السادس عشر لينسحبوا بعد انتخاب الأمين العام، وبقوا مخلصين في نضالهم من غير أن يكونوا منتمين لـ “لاهوادة”. وفي هذا الصدد يمكننا قول: “ما لا يدرك كله لا يترك جله”.