قضايا

مشروع محبوك منذ عقود لتصفية قطاع التعليم

محمد حماس

كنت ولا أزال أومن إيمانا راسخا بأن قطاع التعليم ليس ميسرا لكل من هبّ ودبّ، ولا يمكن لأي كان أن يتولى تدبيره أو إبداء الرأي فيه، عدا من زاول المهنة ومشى وسط شعاب المنظومة، من هيئة تدريس ومراقبة تربوية وذوي الاختصاص في مجال البيداغوجيا والسيكولوجيا وكل العلوم المرتبطة بالتربية والتعليم، وفق اختيارات سياسية واعية تمام الوعي بأهمية التعليم ودوره الطلائعي في الارتقاء بالأمم والنهوض بالمجتمعات لاستشراف المستقبل. أما عدا هؤلاء فكلامه لغو لاغ وشخيخ بول في الرمل، وفعله عشوائية وجعجعة بدون طحين، فالمستوزر "حصاد" أداة تنفيذ، ومن معه من كاتب عام ومفتشين ومديرين مركزيين وجهويين وإقليميين أشبه بالروبوهات المبرمجة، لأن حصاد لا يمتلك رؤية أو مشروعا أو تمثلات للعملية التربوية التعليمية، فاقد الشيء لا يعطيه، فلنلاحظ منذ استوزاره أنه لم يزح عن الوعد والوعيد والتنبيه، واستصدار عدد من المذكرات يتناوب على توقيعها مع الكاتب العام الذي يمكن اعتباره الوزير الفعلي الذي منه يتلقى حصاد توجيهات "السيستام"، وطلي المؤسسات بالأصباغ، وتلبية أوامره في خنوع من لدن بعض من مسؤولي المؤسسات التعليمية من فئة عقلية العبيد، علما أن الرجل أوكل إليه تصفيتهم بدل إقرارهم في إطار مدير، والنموذج الفرنسي والإسباني قادم لحذف المدير الحالي واستبداله بمدير ينتخبه زملاؤه وجمعيات الآباء لفترة معينة، وبالتالي لا وجود لإطار... فتنزيل المشروع ميدانيا لاستئصال المدرسة العمومية من تربتها، شرع فيه منذ فترة، وتجلت إرهاصاته الأولى مع ما آلت إليه الجامعة المغربية كونها منارة الفكر والمعرفة والبحث الأكاديمي والعلمي، وبعدها المعاهد العليا، وتقليص المنح والميزانيات الخاصة بالبحث العلمي وتفقير كل عالم أو قطع السبل بينه وبين المعرفة ليعتمد على دعم أسرته وترحيب الدول التي تستضيفه، أما الآن وقد تفوقت المدرسة العمومية فلا بد من إفراغها من كل محتوى تربوي أو تعليمي عدا ما هو مخطط لها، فعمدت الوزارة، أو "السيستام"، إلى تكليف "حصاد"، لشن أول هجوم ضد نساء ورجال التعليم يضمر الكثير من الغل والحقد ضد هذه الفئة العريضة من المجتمع، والتي ظلت لعقود تحمل مشعل التنوير وكشف حقيقة "السيستام"، باعتبارها المؤهلة للانخراط في الفعل السياسي والعمل النقابي والإسهام في الحراك الاجتماعي والمشاركة في صناعة الثقافة والإصغاء لنبض المجتمع.

هناك، إذن، مخطط خبيث لاقتلاع بذرة الخير من داخل المجتمع بنية الهيمنة والاستحواذ على ما تبقى من القيم التي ستترعرع حتما مع الأجيال المقبلة، ويبقى المدخل الأساس لتمرير خطاب اليأس هو التعليم، لأنه من خلاله تم تمرير خطاب الجهل لتضبيع أفراد المجتمع، وتخريج أجيال من العاطلين القانطين العنيفين الحقودين والمعتدين الحاملين لمركبات نقص لا حصر لها، فانتشر الفراشة والتريبورتر والتشرميل وارتفع معدل الإجرام، وأضحى الفرد كما الجماعة ميالا إلى الفوضى، واستشرى الفساد داخل الإدارة والمرافق العمومية إلى درجة التطبيع مع الفساد... ولم يتبق من المواطن غير البطاقة التي تضبط هويته أمنيا.. هيكل بدون قيم جمال وأخلاق..

ألم يسائل "حصاد" نفسه عن عدد المدارس والثانويات العمومية التي تم تفويتها إلى جهات لا صلة لها بمجال التعليم؟ وعن عدد الطلاب بالجامعات الذين لم يستفيدوا من المنحة الهزيلة؟ وكيف هي ظروف العيش بالأحياء الجامعية والداخليات؟ لماذا لم ينشر لائحة من سرقوا مالية صندوق التقاعد لتقتطع من أجور الشغيلة التعليمية؟ ونسائل "حصاد" عن العجز الكبير في أطر المراقبة التربوية من هيئة التفتيش لتغطية جميع الجهات حسب التخصصات والمسالك؟ وعن جريمة التستر على حصيص الحركة الجهوية وحرمان جحافل نساء ورجال التعليم من حق مكتسب، ليتم تفويتها للمتعاقدين، فيصبح المتعاقد وسط مجال حضري على بعد أمتار من مقر سكناه، وفي المقابل يفني الشباب زهرة عمرهم في البوادي؟ المتعاقد من غير تكوين أستاذ فاشل؟

الأمر يتعلق بمخطط رهيب، رؤية استراتيجية، لطمس معالم المدرسة العمومية وفق مقاربة أمنية تخدم أجندة معينة، لأن إغراق المدرسة العمومية بالمتعاقدين اليائسين من حق الشغل هو عملية قطع شريان الحياة بالنسبة إلى منظومة التربية والتعليم، وهي عملية توالت مع التوظيف المباشر، حيث جرى غزو المؤسسات التعليمية والمرافق الإدارية التابعة لوزارة التعليم بجيش من لا علاقة لهم بمجال التربية، فأضحوا على رأس مديريات إقليمية، أي من الاعتصام أمام البرلمان إلى تدبير مرفق التعليم، مقابل إقصاء الشغيلة التعليمية التي تتمثل المنظومة التربوية في مخلف تجلياتها، ونخص بالذكر هيئة المراقبة التربوية، أو التفيش، التي جرى إقصاؤها من مواقع المسؤولية الإدارية، بعد إغلاق مركز تكوين المفتشين لعقد ويزيد، لأن الأمر يتعلق بعملية تفويت ممنهجة لقطاع التعليم نحو المتعاقدين وقبلهم القطاع المشترك والتوظيف المباشر والمستقدمين من قطاعات أخرى... كل هذا يندرج وسط سياسة مدبرة بدهاء وبنفس طويل، رافقتها محطات عصيبة عرفت خلالها الشغيلة التعليمة القمع والتوقيف والاقتطاعات والمضايقات على العملين السياسي والنقابي إلى درجة إفراغهما من محتواهما، وموجة الاعتقالات ومحاصرة الجامعات وإطفاء شعلة البحث العلمي فيها والهيمنة على مدارجها ومدرجاتها، واختراق فصائلها والزج بها في خندق التطاحن وتفتيت الحرم الجامعي وانتهاك حرمته بوليسيا (الأواكس)، وحذف مادة الفلسفة لسنوات، وهو الأمر الذي خرّج أجيالا من الطلاب لا تستشعر النقد والتحليل والمنطق، وبالتالي التعامل مع الواقع والوقائع والأحداث المجتمعية وفق ملامسة تفاعلية مع قضاياها..

وعليه، فنشر لوائح غياب هيئة التدريس وتخصيص اليساريين بالتقاعس، بالإضافة لكون العمل مشين ويستلزم متابعة، فالأمر يتعلق بضغينة نحو شعب قطاع التعليم، بحيث نجد من المسؤولين بمختلف دواليب الدولة من يحمل الأحقاد تجاه هذه الشريحة من المجتمع لأجل الحقد فقط، فانتشرت النكتة التي تحط من قيمة المعلم واحتقاره كما حدث مع شخصيات استنزفها المخزن وساكنة منطقة محددة، وفي تاريخ المغرب العديد من هذه الحالات، يتم خلالها إطلاق أوصاف مشينة يقصد منها الإذلال والتحقير وتشويه الصورة الجميلة داخل المجتمع، فالمعلم ظل لعقود يسترق الريادة ويؤطر المجتمع، ولا يمكن نكران إسهام المعلم ذاته في حالة التبخيس التي آل إليها، وذلك بسبب تقاعسه وتخليه عن دوره الطلائعي وتعففه وتماديه في الابتذال والانخراط في التهاون، فأضحت شريحة واسعة من الشغيلة التعليمية لا تعمل داخل الفصول الدراسية بقدر ما توجهت نحو الساعات الإضافية لتستنزف قدرات أبناء المجتمع التي تنتمي إليه، ففقدت بذلك ذرة احترام ظلت بالأمس تبوؤها المكانة العليا داخل المجتمع... ثم العزوف الكبير عن العمل النقابي والتعاطي مع خطاب اليأس.. بمعنى أن حالات الحقد بدت ظاهرة تحتاج إلى تحليا مختبري وفق مقاربة سيكولوجية تفسح المجال لفضح المتلبس والوقوف عند عمق الأشياء لا قشورها..