تحليل

تقاعد البرلمانيين بين استقلالية العمل التشريعي وإكراهات الريع السياسي

عبد الحي بنيس

استأثر موضوع تقاعد البرلمانيين من مجلسي النواب والمستشارين باهتمامات الرأي العام المغربي، وأسال مدادا غزيرا وعرف سجالا كبيرا بين العديد من الأطراف، وتصدر الصفحات الأولى للجرائد الورقية والمواقع الإلكترونية، وأثار تفاعلا بين مستعملي وسائط الاتصال الجماهيري المختلفة، فضلا عن وسائل الإعلام العمومي السمعي البصري التي "تجرأ" بعضها هذه المرة على مطارحة للنقاش ملفا "أقام الدنيا وشغل الناس"، فجيء أيضا على سبيل السرعة بـ"محللين وخبراء" وبرلمانين سابقين وحالين.

وقد اختلفت الآراء في هذا السجال الذي غطى على العديد من القضايا التي تعاني منها البلاد، بين معارض يطالب بإلغاء معاشات النواب والمستشارين بالمرة، بدعوى أن العمل البرلماني في حقيقته يشكل انتدابا وواجبا وطنيا وليس وظيفة، وبين مساند لتدخل الحكومة العاجل من أجل إنقاذ صندوق معاش ممثلي الأمة من الإفلاس.

وبغض النظر عن وجاهة هذا الرأي أو ذاك، يجدر بنا هنا التذكير في البداية بأن قانون معاشات البرلمانيين ينص على أن العضو الذي أكمل ولايته التشريعية البالغ مدتها خمس سنوات، يكون من حقه أن يستفيد مدى الحياة، ابتداء من نهاية الولاية، بغض النظر عن سنه، من هذا المعاش البالغ قدره 5000 درهم صافية معفية من الضريبة عن الدخل، وغير خاضعة لأي تصريح. وبالمقارنة مع فرنسا، فإن البرلماني بهذا البلد الأوروبي لن يكون بمقدوره الاستفادة من المعاش إلا حين إحالته على التقاعد عند بلوغه 62 سنة.

وبالنسبة لمبلغ المعاشات للبرلمانيين المغاربة، فقد حدده المشرع في 1000 درهم عن كل سنة تشريعية على أساس ألا تتجاوز 30 ألف درهم مجموع قيمة المعاش، كما حدد واجبات الاشتراك في2900 درهم شهريا تقتطع من التعويضات التي تمنح لعضو البرلمان في آخر الشهر، إضافة إلى المبلغ نفسه الذي تؤديه نيابة عنه الغرفة الأولى أو الغرفة الثانية، ويتم تحويل مجموع هذه المبالغ إلى الصندوق المغربي للتقاعد التابع لصندوق الإيداع والتدبير.

فمن خلال تتبعنا للنقاش الجاري حاليا على الساحة الوطنية، نلاحظ أن الكثيرين إما يجهلون أو لم يعيروا كثير اهتمام إلى أصل فكرة تخصيص معاش للبرلمانيين، التي تعود إلى بداية الستينات، وبالضبط خلال أول تجربة برلمانية عرفها المغرب سنة 1963، حينما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني لدى افتتاحه للدورة الثانية للبرلمان في 20 أبريل 1964 عن إصدار تعليماته من أجل توفير الإمكانيات اللازمة لممثلي الأمة، فضلا عن مقر جديد للبرلمان يليق بالمؤسسة التشريعية، وتوفير تعويض للنواب؛ وذلك حتى يتمكن البرلمانيون من القيام بدورهم ومزاولة مهامهم في نطاق من الاستقلال المادي وضمان الكرامة.

وإذا كان مكتب مجلس النواب قد تقدم باقتراح قانون يرمى إلى "تخصيص منحة تقاعدية لأعضاء مجلس النواب"، خلال جلسة عامة في 25 يونيه 1987 دورة أبريل، لم يتم تفعيله آنذاك، فإن المغفور له الحسن الثاني عاد في 13 أكتوبر 1989، في خطاب بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 1989-1990، ليدعو إلى العمل على "إيجاد نظام للمعاشات للبرلمانيين الذين لا يعاد انتخابهم"، كما هو الشأن بالنسبة لعدد من البلدان الأوروبية التي أحدثت صناديق يساهم في تمويلها النواب.

ومباشرة بعد هذا الخطاب، وحينها كنت لازلت أشتغل بالبرلمان، كلف محمد رشيد الإدريسي القيطوني، الأمين العام لمجلس النواب آنذاك، بالقيام بزيارة المؤسسات التشريعية الدولية التي تتوفر على نظام معاشات للبرلمانيين؛ وذلك حتى يمكن اختيار نمط معين للنواب البرلمانيين في المغرب.

وبعدها تم إقرار نظام خاص للمنح المعاشات، وهو الجاري به العمل حاليا، ينص على أن يساهم العضو البرلماني والمؤسسة التشريعية مناصفة، حيث كان مبلغ التعويض الذي يتقاضاه البرلماني عن مهمته النيابية هو 30.000 درهم في الشهر، أضيف إليه بعد ذلك تعويض قدره 6000 درهم شهريا تنفيذا لقرار المغفور له الحسن الثاني.

ومن أجل الوقوف عن المراحل التي أعقبت ذلك، أورد هنا جردا لمجمل مقترحات القوانين التي سبق تقديمها من أجل إحداث نظام المعاشات لفائدة البرلمانيين:

1) في 23 يونيه 1992 تقدم مكتب مجلس النواب باقتراح قانون يتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب.

2) في 2 ماي 2000 تقدم مكتب مجلس النواب باقتراح قانون يغير ويتمم القانون رقم 24.92 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب.

3) في 23 يناير 2003 تقدم فريق الاتحاد الدستوري باقتراح قانون يغير ويتمم القانون رقم 24.92 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب.

أما تواريخ الجلسات العامة التي تم خلالها مناقشة الاقتراحات ومشاريع القوانين المتعلقة بإحداث نظام المعاشات لفائدة البرلمانيين، فهي كما يلي:

1) في الجلسة 458 بتاريخ 4 غشت 1992 تمت مناقشة اقتراح قانون بإحداث نظام معاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب.

2) في الجلسة 86 بتاريخ 18 ماي 1999 تمت مناقشة قانون يقضي بتطبيق أحكام القانون المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب على أعضاء مجلس المستشارين.

3) في الجلسة 182 بتاريخ 14 دجنبر 2005 تمت الدراسة والتصويت على مشروع قانون رقم 35.04 بتغيير قانون رقم 24.92 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب، الذي تم تطبيق أحكامه على أعضاء مجلس المستشارين.

وبعد هذا، أعتقد جازما أن الإشكال الحقيقي لا يرتبط فقط بأحقية أو عدم أحقية البرلمانين في معاش "سمين أو هزيل" أو إنقاد صندوق تقاعد البرلمانيين من حالة إفلاس، بل إن الأمر في نظري، وانطلاقا من تجربة متواضعة قضيتها داخل قبة البرلمان لمدة قاربت 40 سنة بحلوها ومرها، أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يرتبط أساسا بالدور الذي يتعين أن تضطلع به المؤسسة التشريعية في عالم يعرف تحولات متسارعة، خاصة بفضل الثورة الرقمية التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، ورفع التحديات وهي كثيرة ومتعددة، منها صورة البرلمان والبرلماني لدى المواطنين، ومستوى إنتاج وأداء ممثلي الأمة الذين كانوا يشكلون في وقت من الأوقات ضميرها الحي، وأيضا مدى تجاوبه مع الاحتياجات الحقيقية وانتظارات الرأي العام.