تحليل

ملك الزلزال السياسي

عبد الصمد بن شريف

لم يكن يوم 24 أكتوبر 2017 في المغرب يوما عاديا عندما قرر الملك محمد السادس إعفاء عدد من الوزراء والمسؤولين الساميين، ومعاقبة وزراء تحملوا مسؤوليات في الحكومة السابقة، بسبب تقصيرهم في تحمل مسؤوليتاهم تجاه مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، وعدم انخراطهم في تنفيذ المشاريع المبرمجة في هذا المشروع الذي أعطى انطلاقته الملك شخصيا عام 2015.

واستنادا إلى ما ورد في التقرير الذي تضمن نتائج وخلاصات التحقيقات والتحريات التي أجريت بخصوص ما حدث في الحسيمة من اختلالات، الذي قدمه الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات إدريس جطو بحضور العاهل المغربي، فإن ما حدث وصف بزلزال سياسي غير مسبوق هو الأول من نوعه، منذ أن أمسك الملك محمد السادس بزمام قيادة بلده بعد رحيل والده الملك الحسن الثاني.

فقد اهتز الحقل السياسي وشعرت مختلف مكوناته بارتدادات الزلزال، وتحولت بوصلة اهتمامات الصحف والمواقع الإخبارية وشبكات التواصل الاجتماعية لتركز على قرار الملك العقابي، الذي شملت آثاره حرمان عدد من الوزراء من تحمل أي مسؤولية ومهمة في أي مؤسسة عمومية في المستقبل، ما يعني تسويد سيرتهم وصورتهم أمام الرأي العام.

الشارع والفئات الشعبية وبكل عفوية وتلقائية رأت في ما أقدم عليه الملك حكما عادلا ومنصفا وضربة سيف لن يطعن أحد في مصداقيتها ومشروعيتها، لأنها توخت ترسيخ العدل وكشف المستور، خاصة وأن الشارع المغربي بشتى أطيافه ومكوناته، وكذا عددا من النشطاء والجمعيات الحقوقية والمدنية والحركات السياسية، كثفت من مطالبها القاضية بتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه في الدستور المغربي، إلى درجة أن هناك من اقترح اعتبار 24 أكتوبر من كل عام يوما وطنيا للمحاسبة.

وما ينشر يوميا في مواقع التواصل الاجتماعي يكشف عن موجة غضب عارم واستياء تجاه أداء عدد من المسؤولين الكبار الذين ترسخت في أذهانهم ثقافة الإفلات من العقاب، وأنهم يعتبرون أنفسهم خارج منطق المحاسبة مادامت تربطهم خيوط متشابكة وعلاقات معقدة مع جزء من دوائر صناعة القرار.

غير أن الملك محمدا السادس قلب المعادلة وأطاح بمعتقدات وأوهام مجموعة من المسؤولين، رغم أنهم كانوا يصنفون ضمن خانة خدام الدولة الذين يحظون بثقة خاصة. فخطب الملك منذ سنوات تحولت إلى رسائل إنذارية، وباتت النخب السياسية والمحللون يتحدثون عن جيل جديد من الخطب المطبوعة بالنقد اللاذع التي أسست تدريجيا لعدد من القرارات، ومهدت لانبثاق لحظة سياسية أرادها الملك أن تكون ترجمة لقطيعة مع ممارسات مؤسساتية وسياسية غير مقبولة، لحظة شفافة وصريحة وبعيدة عن النفاق ولغة والتجميل.

وهذا ما عبر عنه بوضوح في الخطاب الذي ألقاه في 13 أكتو بر الجاري بالبرلمان أمام ممثلي الشعب عندما دعا الجميع إلى التحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة، أو إحداث زلزال سياسي.

وشكلت هذه الكلمة البؤرة المركزية التي استقطبت أنظار الفاعلين السياسيين والمسؤولين في الحكومة وفي مختلف المؤسسات العمومية وكذا وسائل الإعلام؛ حيث خصصت عدد من الصحف والمنابر ملفات لتحليل دلالات وأبعاد النبرة الغاضبة للملك، ومحاولة الاقتراب والإمساك بخيوط المعنى الحقيقي لما قصده في خطابه، علما أنه سبق أن وجه انتقادات قوية وصريحة إلى النخب الإدارية والحزبية والمسؤولين في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تخليد الذكرى الثامنة عشرة لعيد الجلوس عندما قال:

"فالتطور السياسي والتنموي الذي يعرفه المغرب لم ينعكس بالإيجاب على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة، فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون إلى الواجهة للاستفادة سياسيا وإعلاميا من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه".

كما انتقد في الخطاب نفسه المنظومة الإدارية المغربية والاختلالات التي تشوب خدماتها وعلاقاتها مع المواطن، خاصة في ظل غياب الفعالية والاجتهاد والابتكار، واعتبر أن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب، ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات.

"وأمام هذا الوضع، فمن حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، إلى العزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات، لأنهم بكل بساطة لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل.

وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟"

والملاحظ أن ما تضمنته الخطب الأخيرة للملك محمد السادس كانت له علاقة مباشرة مع الكيفية التي دبر بها عدد من المسؤولين الاحتجاجات التي اندلعت في منطقة الحسيمة منذ حوالي سنة، وبالمنهجية التي اتبعت في التعاطي مع المشاريع التي برمجت في مخطط الحسيمة منارة المتوسط، وهي المنهجية التي اتسمت بالتقصير وغياب التنسيق وهو ما توقف عنده تقرير المجلس الأعلى للحسابات، علما أن ما أفرزته الاحتجاجات الاجتماعية في منطقة الريف من أوضاع متوترة وأجواء محتقنة ومواجهات مفتوحة على مدى شهور بين المتظاهرين وقوات الأمن في فترة زمنية اتسمت بصعوبات في تشكيل الحكومة، أظهرت بالملموس ضعف نظام الوساطة السياسية وممثلي السكان، الشيء الذي فتح المنطقة على المجهول، خاصة بعد اعتقال من كان يعرف بقيادة الحراك الشعبي في الحسيمة.

وفي غياب أي حل، ومع انسداد الآفاق، ظهر اللجوء إلى المؤسسة الملكية كخيار وحيد وأوحد لتهدئة الأوضاع. والملك لما اقتنع بهذه المعطيات لم يتردد في جلد الأحزاب وإماطة اللثام عن هدفها الحقيقي من ممارسة السياسة والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية.

وتأسيسا على ذلك، يعتبر الملك محمد السادس أن "تدبير الشأن العام، ينبغي أن يظل بعيدا عن المصالح الشخصية والحزبية، وعن الخطابات الشعبوية، وعن استعمال بعض المصطلحات الغريبة، التي تسيئ للعمل السياسي. إلا أننا لاحظنا تفضيل أغلب الفاعلين، لمنطق الربح والخسارة للحفاظ على رصيدهم السياسي أو تعزيزه على حساب الوطن، وتفاقم الأوضاع. إن تراجع الأحزاب السياسية وممثليها عن القيام بدورها، عن قصد وسبق إصرار أحيانا، وبسبب انعدام المصداقية والغيرة الوطنية أحيانا أخرى، قد زاد من تأزيم الأوضاع".

تداعيات الزلزال السياسي الذي فعله الملك محمد السادس من خلال إجراءات عقابية في حق مسؤولين كبار بناء على ما يمنحه له الدستور من اختصاصات وصلاحيات، كانت مساحتها أوسع حيث وصلت إلى بناية محكمة الاستئناف بالدار البيضاء التي كانت تنعقد فيها جلسة لمحاكمة أبرز وجوه حراك الريف؛ إذ انخرطت عائلات المعتقلين في ترديد شعارات تأييد لقرار الملك، لأنها رأت فيه إنصافا لأبنائها وتبرئة ضمنية لما نسب إليهم من تهم.

وتعكس هذه المشاعر حالة من التفاؤل لأن هناك من يرى في هذا الزلزال مقدمة لغفران عظيم وصفح جميل من خلال استعمال الملك صلاحياته الدستورية بإصدار عفو عن معتقلي الحسيمة لإنهاء فصل أسود ومؤلم ضرب في مقتل سنوات من الجهود التي بذلت لإرساء مصالحة بين منطقة الريف والسلطة المركزية.

بل هناك من الملاحظين من يرى أنه لولا خروج سكان الحسيمة إلى الشارع قصد التظاهر والاحتجاج على خلفية مقتل بائع السمك محسن فكري في أكتوبر 2016، لما انتبهت الدولة إلى الاختلالات والنقائص والأعطاب التي تطال عددا من المشاريع التي يشرف الملك شخصيا على إعطاء انطلاقتها. وهناك من خلص إلى صياغة معادلة مفادها أن إعفاء مجموعة من الوزراء وسحب الثقة منهم وتأديبهم أخلاقيا، تقابله براءة تلقائية لعشرات المعتقلين القابعين في السجن، مع اعتبار أن أي خطوة في هذا الاتجاه سترسخ أجواء الثقة والاستقرار والطمأنينة وستؤكد أن سكان الريف وحدويون ومؤيدون لاختيارات وقرارات الملك محمد السادس.