رأي

عبد الله بوصوف: استقلال كتالونيا .. السفر الطويل لا يوصل دائما إلى الوجهة

في سنة 1973 أصدر الكاتب الإيطالي ليوناردو شاشا كتاب "السفر الطويل"، تناولت أحداث القصة عدة قضايا مجتمعية من بينها "بيع الوهم"، في قالب ينتمي إلى الكوميديا التراجيدية؛ حيث سيقبل بعض سكان قرى جزيرة صقلية الإيطالية بركوب قارب السيد ميلفا، الذي وعد بنقلهم ليلا إلى أمريكا حيث يتواجد هناك بعض أقاربهم، فباعوا واقترضوا من أجل الذهاب إلى أمريكا.

لكن بعد مرور حوالي إحدى عشر ليلة في البحر في ظروف لا إنسانية، سيُبشرهم السيد ميلفا بالوصول إلى أرض الأحلام، وتركهُمْ على شاطئ أمريكا واختفى عن الأنظار، ليكتشف الحالمون، بعد مرور يوميْن، أنهم لازالوا بشواطئ جزيرة صقلية الإيطالية...

باع السيـد ميلفا الوهم، وتاجر بحلـم الهجرة إلى أمريكا من أجل حياة أفضل، وهكذا فعل أو كاد يفعل السيد كارلوس بيغمونت، رئيس كتالونيا، بتدميره لحلم "مقدس" لدى الكتالونيين الذين ظلوا مُحتفظيـن بحلمهم بـإقـامة إمارتهم المستقلة منذ 1714.

بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وتنوع اقتصادها وقوة نُخبتها، أجلت كتالونيا تحقيق "حلمها الجميل" بالانفصال عن مملكة قشتالة، وربطت مصيرها بمصير مدريد بموجب دستور 1978. وجعلت كتالونيا من يوم "الديادا" 11 سبتمبر، مناسبة احتفالية بذكرى سقوط برشلونة على يد الملك فيليبي الخامس، ومنذ ذلك اليوم والكطلان يحتفظون بحلمهم المقدس في ذاكرتهم الجماعية…

لقد حدث أن تجرأ رئيس كتالونيا السابق أرتيـر ماص على خوض مغامرة تنظيم استفتاء 2014، فـكان جزاؤه الحرمان من تقلد أي منصب عمومي لمدة سنتيْن، ثم جلس بعـده كارلوس بيغمونت على كـرسي "الجينيراليتاد" قادما من عمودية مدينة خيرونا، بعد توافق سياسي بين أحزاب كتالونيا ذات النزعة الانفصالية.

تقودنا كل الأرقام للوقوف على "الوضع الصحي" لمنطقة الحكم الذاتي بكتالونيا، سـواء على المستوى الاقتصادي بمساهمتها المهمة في الناتج الوطني الإسباني وكذا في نسبة مهمة من صادرات إسبانيا نحو الخارج، أو على مستوى الارتقاء الاجتماعي ومستوى العيش والصحة والتعليم، دون أن ننسى الأرقام القياسية في السياحة والاستثمار… إلا أن هذه الحقائق لا يمكنها القفز على دور مدريد في كل هذا الازدهار والتقدم. فقرار جعل برشلونة بمثابة العاصمة الاقتصادية لإسبانيا وقلبها النابض، جاء عبر بمباركة من مدريد، بدءا من الألعاب الأولمبية لسنة 1992 حيث تم تخصيص حوالي 10 مليارات دولار من أجل تأهيل البنية التحتية لبرشلونة، وخص برشلونة بأكبر ميناء في البلاد...

في المقابل، وتفاديا لأي نزعة انفصالية تعيد إحياء حلم "الدولة المستقلة"، حرص واضعو الوثيقة الدستورية الإسبانية لسنة 1978 على تحصينها بفصول تدعم الوحدة الوطنية والترابية الإسبانية مع احترام لكل خصوصيات الشعوب الإسبانية في الفصل 2، بل والسماح في الفصل الثامن للقوة العسكرية بالتدخل لحماية الحدود الترابية الاسبانية، قبل الوصول إلى الفصل 155 الذي يخلق الجدل في الفترة الراهنة، والذي يقضي بإلغاء نظام الحكم الذاتي في حالة خرق مقتضيات دستور الانتقال الديمقراطي في الجارة الإيبيرية.

ورغم الضمانات التي خصصها الدستور للوحدة الترابية والوطنية وكل سوابق الردع، فقد تمادى كارلوس بيغدمونت في خرقه الــواضح لدستور 1978، متجاهلا قرارات المحكمة الدستورية وتنبيهات رئيس الحكومة الإسبانية، ماريانو راخوي، بالعدول عن تنظيم استفتاء الانفصال يـوم فاتح أكتوبر، مما أدخل برشلونة ومدريد في سجالات إعلامية وقانونية ودستورية، تدخل على إثرها الملك فيليبي السادس بتأكيده لخروقات بيغمونت وبتأييده لراخوي والتشبث بوحدة البلاد، في خطاب الأربع دقائـق.

وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي، فقد عرفت هذه الفترة نزيفا حادا تمثل في هجرة أكبر مقرات البنوك الاسبانية لمدينة برشلونة، وما يزيد عن 1000 شركة نقلت مقراتها الاجتماعية إلى خارج كتالونيا؛ وهي مؤشرات سلبية تتحملها ساكنة كتالونيا على المدى المتوسط...

ناور بيغدمونت وشركاؤه مرة لكسب الوقت عبر طلب الحوار، ومرات لكسب التعاطف الدولي عبر تدويل القضية، وهددت مدريد من جهتها بإجراءات عقابية، بدأت بتنفيذها يوم 16 أكتوبر حين اعتقلت ناشطين بارزين في المجتمع المدني كانا مكلفين بتنظيم "يوم الديادا" ببرشلونة، مما أكسبهم خبرة التحكـم في تأجيج الساحات وتنظيم الاحتجاجات...

أياما قليلة بعد ذلك، رفع راخوي مستوى السجال بتحديده أجـلا لتلقي جواب صريح حول إعلان بيغدمونت استقلال كتالونيا من عدمه يوم 10 أكتوبر. كما بادر إلى طرح اختيارين على الحكومة المحلية، إما الإعلان عن انتخابات مبكرة بكتالونيا أو تطبيق الفصل 155؛ وهو ما قابله بيغدمونت من جديد بالمناورة، حيث توجه إلى برلمان الإقليم للتصويت على الاستقلال من طرف واحد، وبهذا يتجنب مساءلة جنائية شخصية مباشرة قد تكلفـه 30 سنة سجنا، كما أن نواب برلمان كتالونيا بدورهم تخفوا وراء الاقتراع السري للأمر نفسه، أي الخوف من المتابعة القانونية، لكن لماذا الاقتراع السري مادام بيغدمونت وشركاؤه يدافعون عن قضية أمة كتالونيا وعن سيادتها؟

لقد انتقد العديد من المحللين طريقة الاقتراع السري للإعلان عن جمهورية كتالونيا، وشككوا في قوة حجـة نواب كتالونيا الذين حصلوا فقـط على 70 صوتا بنعم من أصل 170 صوتا، واعتبرت التحليلات أن استفتاء ضم 2,5 مليون، وعرف خروقات عديدة في الكثير من مكاتب الاقتراع، لا يمكن أن يعبر عن رغبة ومصير 7,5 مليون نسمة هي ساكنة كتالونيا، ليطرحوا سؤالا جوهريا هو: ماذا بعد إعلان الجمهورية والاحتفال بالشهب الاصطناعية في مساء الجمعة 27 أكتوبر؟

في اليوم الموالي، وباستثنـاء نكـس العلـم الإسباني ببعض المناطق، فقد باشر أغلب سكان كتالونيا أعمالهم بصفة عادية كمواطنين إسبان، ولم نشاهد متاريس أو إجراءات تفتيش على الحدود، ولا قرارات جديدة "للجينيراليتاد"، فقط غادر بيغدمونت إلى خيرونا المجاورة، مكان إقامته، ولعب فريق برشلونة ضد اشبيلية وريال مدريد ضد خيرونا وكأن شيئا لم يقع...

في حين بدأت مدريد بإجراءات الفصل 155 وعينت السيدة سـورايا سانتا مريا على رأس الجينيراليتاد، فيما احتفظ وزير الداخلية بتسيير شرطة كاتالونيا، بالإضافة إلى أسماء أخرى، في انتظار متابعة كل من بيغدمونت ونائبه وحوالي 141 مسؤولا، من بينهم رئيس الشرطة والمدير العام للشرطة، بتهم خطيرة مثل التحريض والخيانة والانقلاب... وقد تم تحديد يوم 21 دجنبر تاريخا لإجراء انتخابات جديدة بكتالونيا لا يعرف إلى من ستؤول الأغلبية فيها ولا كيف سيتعامل معها الكتالان.

من جهة أخرى، فقد عبرت كل من المستشارة ميركل والإدارة الأمريكية وبروكسيل، وغيرهـا من عواصم القرار الدولي، عن أنها تعتبر مدريد المخاطب الوحيد، ولا تعترف بالجمهورية الجديدة المعلنة من طرف واحد، كما أوصت مدريد باعتماد قوة الخطاب وليـس خطاب الـقـوة...

وبهذا يكون كارلوس بيغدمونت قد عصف بحلم طالما راود الكتالان ودغدغ عواطفهم، فهتفــوا وراءه باسم الحرية والجمهورية في ساحات برشلونة وخيرونا وغيرها، لكن دون أي مشروع مجتمعي، وفي خرق سافر لميثاق الدستور والتعايش الديمقراطي بإسبانيا. وهو بهذا يكون قد ذهب بكتالونيا في سفر طويل من نظام الحكم الذاتي إلى المجتمع الذاتي، أي إنه لم يغادر إسبانيا حتى وإن تركها، وهـو سفـر يُـشبـه السفـر الطويل للـسيد ميلفا، وزعزع حلـم الكتالونيين الذين فضلوا الاستمرار في الحلم على صدام قطاريْ برشلونة ومدريـد.

وبهذا تكون المهمة القادمة هي إعادة حياكة خيوط التعايش الديمقراطي الإسباني، وطي صفحة دون كيشوت كتالونيا الجديد وصراعه مع طواحين الهواء، وهي مهمة صعبة لكن ليست مستحيلة.