قضايا

المدرسة المغربية .. أي حاضر؟ أي مستقبل؟

سعيد بوخليط

بناء على وقائع تجربتي الشخصية، ثم خلاصة ما أتقاسمه بين الفينة والثانية من أحاديث مع بعض زملائي، أضحى حتما فضاء مدارسنا راهنا لا يختلف عن أجواق فوضى عارمة؛ كسوق عمومي: ضجيج، هرج، مرج، قلاقل، عنف، سعار هذيان، اضطرابات، عراكات، شتائم، لا احترام، لا انضباط، الجميع له حساسية مرضية من الجميع، الجميع يلعن الجميع. المتعلمون تائهون في اللازمان ولا يتسع لهم حتى اللامكان، محلقون استيهاميا وراء عوالم ما بعد كوكب الشمس؛ المعلمون يتطيرون من ذكرى اليوم الذي ترجلوا فيه نحو هذا الفضاء، الإداريون عاجزون عن إدراك مفاصل خطوات التقدم أو التأخر؛ جراء تراكم الملفات، مع بدائية وسائل العمل وتخلف العتاد اللوجيستيكي، سياسات التعليم المتبناة ما زالت بالرغم من كل السلبيات، تتلكأ وتتذاكى بخصوص وضع التعليم ضمن إطاره الأصيل؛ أي مجتمع الديمقراطية الحقيقية والمواطنة الفعلية. في خضم سياقات التيه والإحباط واللاأدرية والتشيؤ، التي يكابدها المجتمع المغربي، عامة.

هكذا بقدر ما تتضخم على التوالي نظريا، أدبيات مدرستنا إصلاحيا وبرنامجيا ومخططاتيا وبيداغوجيا ومقرراتيا وتقريريا وسجاليا. بقدر، ما يلاحظ هذا التفريغ على أرض الواقع، لجوهر المدرسة ومحتواها التربوي والعلمي، ثم التآكل المتواصل لِكُنْه أساسها باعتبارها روح المجتمع.

لم تعد المدرسة عندنا شغفا، مثلما يجدر بماهيتها؛ بل صار التلميذ، وللأسف الشديد، وهو بعد في مقتبل العمر، مما يدق ناقوس الخطر بحدة، يشعرك بأنه ضجر ومتعب ومحبط ولا يتحسس لبنات قضية ذات معنى في الأفق، ولا ينوي شيئا من مشروع التعليم هذا سواء اليوم أو غدا، أو بعد غد، يردد قناعة ترسخت وتترسخ، وأؤكد في مستوى الجذع المشترك، يعني فتيان صغار، كالتالي: "نشعر بالسأم والتشاؤم، أي جدوى ليوميات المدرسة هاته، مادامت المعرفة عندنا، لم تعد سلاحا فعالا: "أشْقْدينا إلى اقْرِينَا في هاذ الوقت" !".. في الآن ذاته، لا يشعرونك بوجود بديل ثان، بمعنى آخر، مجبرون ومضطرون فقط على كي يذهبوا إلى المدرسة؛ لكنهم لا يحسون بأي معنى لهذا الأمر. ثم يُطرح التساؤل المصيري، الذي يلزمه أن يقض مضاجعنا: كيف ستكون أوضاع النظام العام في القريب العاجل، إن دأبت أحاسيس ورؤى هؤلاء الصبية، في الاختمار والتبلور والتفاعل والتكريس؛ وفق الإيقاع ذاته؟ إذا كانت المدرسة خانقة، جاثمة على أنفاسهم، وينعدم لديهم أي شعور برابط وجداني نحوها، مع أنهم ما زالوا، أكرر، فتية عند مرحلة مقتبل العمر؛ فبكل تأكيد، يدعو المآل حقا إلى ضرورة التفكير بجدية بالغة في قضية الأمن الفكري، والأفق القيمي والسلوكي؛ للأجيال الحالية والمستقبلية.

مسار على النحو الذي نعيشه، بكل اختلالاته المتراكمة، الآخذة في إغراقنا، تكشف بشكل جلي لا لبس فيه أن ذلك المخزون الاحتياطي، الموصول بتراث نحته، نتاج وتاريخ المدرسة المغربية، طيلة عقود خلت، فشكل أيضا ضفاف أمان لشباب ما بعد الاستقلال، وإطارا ملائما مجديا قصد مساجلته مختلف الأسئلة الكونية والمجتمعية الكبرى؛ أدرك منذ فترة ليست بالقصيرة آخر شحنة حمولة أنفاسه، وبصدد أن يستنفد تماما جدواه، بالتالي الفراغ والانهيار. الأمر، الذي سيضع ثانية مدرستنا، عارية، أمام سؤالها الهوياتي المصيري، أخذا بعين الاعتبار، أن التاريخ لم يعد ذاته، والأفراد ليسوا من الخريطة الجينية ذاتها.

وقد عرف المجتمع المغربي تحولات نوعية سريعة الإيقاع، انجرارا وراء قوة جذب العولمة، بكل ارتداداتها المزلزلة، خلقت فجوات متسعة الهوة، ومتباينة التوافق بين: "الحسي والمعرفي، المادي اللامادي، الحيوي والفيزيائي، الإنساني والآلي، الواقعي والخيالي، الفردي والجماعي، المحلي والعالمي، الآني والتاريخي، ما هو لعب وما هو عمل، وما هو متعلق بخصوصية وعي الإنسان وما هو داخل في عمومية مادة بنائه". (محمد مصطفى القباج، مقاربات في الحوار والمواطنة ومجتمع المعرفة، دار ما بعد الحداثة، 2006).

أمام استفحال مشكلة التعليم المغربي، وازدياد تعقد تداخل مفاصله البنيوية، الأشبه حاليا بلعبة المربكة، ما زالت مع ذلك الحلول المقترحة بين الفينة والثانية محكومة جوهريا بتاكتيكات واستراتجيات، عقلية الارتياب؛ بناء على المصالح السياسوية الضيقة، لدى جميع الأطراف. بالتالي، الاكتفاء بالدوران، وتحوير النقاش صوب أسئلة محض تقنية، تحتاج أولا إلى مضمون؛ مع مزيد من تراكم المشاكل: تخمة في المناظرات والتوصيات والشعارات، فيض من الكلام، تأسيس مجالس، طرح مخططات استعجالية وبطيئة وفائقة السرعة، تغيير الوزراء بين التقنوقراطي والحزبي، واللا- تقنوقراطي واللا-حزبي، الرهان الارتجالي على الزمان حسب مستجدات المرحلة، إلخ. بينما الأرضية الفعلية التي شكلت منطلقا لتطور مجموعة من الدول، فتحيل على الشذرة المجازية، التالية: 'دع مائة مدرسة لتزهر، ومائة مدرسة فكرية لتتبارى وتتنافس". سواء كان صاحب القولة ماو تسي تونغ أو استلهمها الزعيم الصيني الكبير من الفلسفات العريقة لحكماء بلده، فبالتأكيد يظل مضمونها البناء، ناجعا باختلاف الزمان وتباعد المكان؛ لأنها تضع بناء الناشئة ومن ثمة الكائن الممكن، في قلب تطلعها.

ذات يوم، استشرف الأستاذ محمد جسوس، بحسه العلمي الرفيع وثقافته النضالية، ما ستؤول إليه الأوضاع التربوية، فأطلق صرخته المدوية: "إنهم يريدون خلق جيل من الضباع". ما أعلمه علم اليقين أنها صارت بالأحرى أجيالا. في المقابل، لست متيقنا بأي شكل من الأشكال، عن مدى احتفاظه بالوصف ذاته، أو تحريه عن الأسوأ؛ إن قدر لهذا المفكر الانبعاث ثانية من قبره، وزيارة حجرات مدارسنا.