تحليل

المغرب والجمهورية الكاطالانية الناشزة

خالد فتحي

لقد كان من مكر الصدف أن تتزامن أزمتا الانفصال في كل من كردستان العراق وكاطالونيا الإسبانية على ركح الأحداث الدولية؛ فذاك دليل ساطع على أن سوسة الانفصال قد تنخر الدول وتهدد وحدتها في الغرب كما في الشرق، وأن موجة التشرذم والتفتيت لن تستثني أي بلد سواء كان قد بلغ شأوا في الديمقراطية أو يعاني عجزا فيها، متقدما أو متعثرا، مسلما أو مسيحيا علمانيا، بسبب العصبية الكامنة دوما بين تلابيب المجتمعات والتباينات العرقية الثابتة التي تسعف المتطرفين عادة وتغريهم بالنفخ في رمادها. فالمعروف لدينا جميعا أن خرائط الدول لم تفصل عبر التاريخ على مقاس الشعوب والإثنيات. كما أن العالم الحالي ليس مجسما هندسيا متقنا موضبا تم ترصيفه بأدوات هندسية وبالمسطرة كالحقول في البوادي بين الفلاحين حتى تحصل كل قومية على وطن خاص بها تتطابق فيه الحدود الجغرافية والهوياتية. والكل يفهم أيضا بهذا الصدد أن الحدود التي وصلت إلينا هي حدود لم تخطها القوميات دائما وإنما رسمتها حروب وهجرات وكوارث ودعوات وإيديولوجيات واتفاقات وطموحات وزيجات ومصاهرات وهمم أفراد وجماعات وقادة عبرت مجرى التاريخ الطويل الحافل بالأحداث.

ومن ثمّ، فإن السؤال الذي يثيره وباء الانفصال الذي يجوس خلال العالم هذه الأيام يجب أن يكون في هاتين الحالتين المعروضتين بحدة إلى حدود الآن على المسرح الدولي هو التالي: هل الكرد والكاطالانيون شعوب محتلة من لدن العراق وإسبانيا؟ أم هم مواطنون يقطنون أجزاء وأقاليم من هاته الدول يعزفون فقط لحن المظلومية؟

أظن أن الكل سيتفق بداهة على وجاهة الرأي الثاني، فكلا الشعبان يتمتعان بحكم ذاتي ولهما حق استعمال كل رموز الهوية من علم ولغة وحكومة محلية، ويمثلان مصدر غنى وتنوع إثني لهاتين الدولتين.

غياب اضطهاد مسلط عليهم من لدن إخوانهم في المواطنة من الأعراق الأخرى أو من لدن السلطات المركزية جعل أن المعارضة الكبرى لنشوء هاتين الدولتين لم تكن من الدولة الأم فقط وإنما من المجتمع الدولي الذي أشاح بنظره عنهما، وتجاهلهما، مومئا بذلك لهما إلى رغبته في بقاء الوضع على ما هو عليه. فمشروع برزاني لانبثاق كردستان العراق ناهضته كل دول الجوار (تركيا وإيران) .بالضبط كما لم يرحب جيران إسبانيا والاتحاد الأوروبي بميلاد كاطالونيا. ولهذا، يمكن القول، انطلاقا من هاتين السابقتين، إنه لم يعد يكفي لقيام الدول توفر الشروط الكلاسيكية الثلاثة المتمثلة في وجود شعب وأرض وحكومة فقط، بل أضحى هناك شرط رابع وحاسم جدا في المسألة هو شرط الاعتراف الدولي. فلا يعقل أنه كلما دلف إلى الحكم شعبويون توضع وحدة الدول وسيادتها على المحك من خلال استفتاء يتيم يتجند له غالبا هؤلاء "القوميون" المتعطشون بطبيعة الحال للسلطة، ولا يلتفت إليه عادة بقية الشعب من المواطنين العاديين المنصرفين لمشاغل الحياة اليومية.

ومن المفهوم أن الطروحات الانفصالية تلقى دائما الترحيب، ويسهل عليها الانتشار، لأنها تخاطب العاطفة، وتعزف على وتر العرقية والأمجاد الماضية، ولأنها تغني أناشيد الحرية والانعتاق، وترسم لوحة مغرقة في الخيال حول المستقبل الزاهر في ظل الدولة القومية. إنه من البلادة أن يطرح سؤال الانفصال فقط في محيط الرقعة المارقة المعنية به، وخصوصا عندما يطرح على شعب لا يعاني من الافتئات على حقوقه، ولا يستفتى في ذلك كل أفراد الدولة الأم، لأن نمو الإقليم التواق إلى الاستقلال وعيشه كان يتم بداهة من خلال المجهود الجماعي لمجموع المواطنين. وحتى توفر الأغلبية المساندة للانفصال لا يكفي لتقرير أمر خطير كهذا، لأن الأغلبية متحولة وغير ثابتة أو قارة، بينما معطيات التاريخ والمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية والتوازنات الإقليمية تتميز بنوع من الثبات والرسوخ. كل انفصال يجب أن يتم وفق مبادئ القانون الدولي الذي ينبغي أن يحترم أولا سيادة الدول القائمة، ووفق دستور الدولة الأم. ولذلك، حان الوقت لكي يعاد النظر في مفهوم تقرير المصير بعد أن ظهر بالملموس أنه أصبح مفهوما مبتذلا وقابلا للاستغلال السياسوي من قبل أي طغمة انفصالية مغامرة، ومطية أحيانا لطموحات شخصية.

وفي هذا السياق، ربما تكون هذه الاعتبارات هي التي قد خطرت بخلد وزارة الخارجية المغربية حين أصدرت بيانا بالأمس القريب جاء إلى جانب وحدة إسبانيا وضد قيام جمهورية كاطالونيا سواء الآن أو في المستقبل، حيث ظهر فيه واضحا من خلال نبرته الصارمة والحازمة أن الرباط تبنت موقفا مبدئيا في هذه المسألة . هي التي تعاني منذ عقود من مؤامرات ومناورات لأجل فصل صحرائها وأقاليمها الجنوبية عنها بدعوى تقرير المصير وهو ما عبر عنه البلاغ بالتهديد الانفصالي. المغرب يعرف تهافت مثل هذه المطالب، وخبر أكثر من غيره سموم الانفصال، وكون بذلك نظرة بعيدة، ورؤية ثاقبة لمتطلبات الاستقرار في شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط والعالم. وهو في هذا يتفق مع خطوات سبق أن اتخذها برفضه استقبال وفد من كاطالونيا منذ شهور خلت، وبتوجيهه لمغاربة كاطالونيا بالنأي دائما عن الأحزاب الانفصالية بهذا الإقليم. وهكذا، بدا من لهجة الدبلوماسية المغربية أن الأمر يتجاوز التزام المغرب بمبادئ حسن الجوار التي يحرص عليها مع كل جيرانه. كما أن هذا الموقف بدا أكثر نزاهة من أن يشكل قرضا أو دينا للدولة الإسبانية سينتظر منها سداده اليه في المستقبل بخصوص سلامة وحدته الترابية، وذلك لأن المغاربة قبل الإسبان لا يتخيلون ولا يقبلون أبدا تفتيت وحدة البلاد أو جز جزء منها تحت أي ظرف من الظروف. فالمغرب مع وحدة إسبانيا عن قناعة لا عن محاباة أو تودد ديبلوماسي، كما أنه يدعم كل خطوات ماريانو راخوي الدستورية الهادفة إلى الحفاظ على إسبانيا موحدة. بالإضافة إلى أن موقفه هذا أتى منسجما مع مواقف كل الدول العاقلة كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بخلاف دولة الجزائر المتورطة في مؤامرة ضد وحدته عبر ما يسمى البوليساريو، والتي التزمت الصمت من قضية كاطالونيا مما يبرز بوضوح هذه المرة أيضا أن موقفها لا علاقة له بما تدعيه من حق الشعوب في تقرير المصير، وأن كل سلوكها هو فقط لمعاكسة المغرب وتعطيل بناء المغرب الكبير.

وغير بعيد عن الموقف المغربي نسجل أن كل العالم يقف أيضا ضد انفصال كاطالونيا لأن المجتمع الدولي الذي لا تنقصه الأزمات والقلاقل يخشى بكل بساطة أن تنتقل عدوى الانفصال إلى دول ومناطق أخرى بعد أن تفكك إسبانيا.. فكاطالونيا لن تكون آخر إقليم ينفصل عنها. بل مجرد مقدمة لتفكك المملكة بأسرها إلى دويلات صغرى نجد في طليعتها جمهورية الباسك التي نتذكر منظمتها إيتا الارهابية التي قتلت وأزهقت أرواح الكثيرين.

وهكذا قد تظهر بإسبانيا النسخة المسيحية لملوك الطوائف التي عرفتها الأندلس المسلمة في السابق والتي كانت سببا في ضياعها. وفضلا عن إسبانيا، ستنتشر هذه النزعة التقسيمية كالنار في الهشيم في كل دول أوروبا كبريطانيا حيث مشكلة اسكتلندا وويلز وإيرلندا وكذا إيطاليا التي عرفت مؤخرا مزيدا من الاستقلال الذاتي للومبارديا وفينيتو وإلى إقليم الفلاندرز ببلجيكا. وزد على ذلك سطوع نجم الانفصاليين في دول أخرى ليست في الحسبان كفرنسا والدانمارك وألمانيا. ولهذا، أصبحت مناهضة هذا الانفصال بمثابة فرض عين على الاتحاد الأوروبي، بالرغم من ما تبديه بعض أحزاب اليسار من تعاطف مع القضية الكاطالانية بالبرلمان الأوربي ..هذه المعارضة الشديدة للرغبة الكاتالانية تجد هوى حتى خارج أوروبا حيث ترتفع أصوات الانفصال بعدد من الولايات الأمريكية ولربما في الصين وروسيا أيضا حيث قد يتوقف نجاح الدولة الشمولية في وأد نزعات الانفصال في المهد.

ولذلك، تتلكأ هذه الدول كلها بل وتعارض هذا الانفصال في قرارة نفسها و التي لربما لن تعترف به إلا في حالة واحدة: هو موافقة الدولة المركزية بمدريد عليه وهذا أمر مستبعد وخيالي. وإذا كان كل هذا صحيحا بالنسبة إلى العالم الغربي والدول الكبرى، فإنه يصح أكثر بالنسبة إلى دول العالم الثالث ودول العالم العربي والإسلامي الذي عانى الأمرين من تآمر الدول الغربية على وحدة دوله وسيادتها بدعوى حماية الأقليات ومحاربة التطرف، حيث إن شبح الانفصال يهدد كلا من السودان وليبيا والعراق وسوريا واليمن وتركيا وحتى دول الخليج والسعودية بعد نضوب ثروة النفط..... إلخ.

إن كل هذه التوجسات تعدم أي فرصة لنجاح مشروع الانفصال الكاطالاني، بل إن بوادر الفشل أخذت تلوح واضحة منها هذه المظاهرات المناهضة له سواء داخل الإقليم أو بمدريد. وهذا الموقف الصارم للمؤسسات الدستورية الإسبانية، بما فيها المؤسسة الملكية والبرلمان والمحكمة الدستورية، وهذا الإجماع الدولي للمنظمات الدولية، بما فيها منظمة الأمم المتحدة التي دعا أمينها العام إلى ضرورة إيجاد حل عاجل يكون في إطار الدستور مما يعني دعما لا مشروطا لمدريد.

كاطالونيا جمهورية غير قابلة للحياة ومستحيلة، لأنها لن تتمكن من الاندماج إقليميا. وها أنتم ترون كيف انتهى بوجيديمون خارج السلطة مثله مثل برزاني الذي أجبر على التنحي عن الحكم بعد مغامرته غير المحسوبة. فالانفصال يطرح واقعيا عدة تحديات على إسبانيا لا تترك لها خيارا غير إجهاضه ولو تطلب ذلك مقدارا من العنف أو ملاحقة المتسببين في هذه الفتنة قضائيا، وتتمثل هذه التحديات بالخصوص في خسارة جزء من شعبها وأرضها يعادل مساحة بلجيكا و20 في المائة من ثروتها واقتصادها. وفي الجهة المقابلة، هناك أيضا عدة مصاعب تنتصب في وجه الحلم الكاتلاني، تتمثل في المقاطعة والحصار الإسباني والأوروبي الذي سيحصل له لامحالة وهو ما يذكرنا بالحصار الإيراني التركي لآمال برزاني كردستان، وكذا رحيل الشركات الكبرى والمقاولات الصناعية والتجارية من الإقليم والتي يبلغ تعدادها 1200 مقاولة، ثم ضرورة إيجاد عملة للإقليم غير الأورو ستكون ضعيفة بالطبع، بالإضافة الى ضياع نادي برشلونة الذي هو جزء من القوة الناعمة الضاربة لكاطالونيا، وعدم وجود دوري قوي لاحتضانه. لذلك، لن يعدو أن يكون هذا الانفصال في النهاية مجرد صيحة في واد ستجعل إسبانيا تعيد عقارب الساعة بعيدا إلى الوراء في هذا الإقليم مثلما يجري الآن لكردستان العراق.

*أستاذ بكلية الطب بالرباط