رأي

رشيد الحاجي: دعوة مواطنة من أجل حوار مجتمعي

في مديح مدرسة البناء وجيل العطاء

يتذكر جل المغاربة مثلي، لا شك، العديد من أساتذتهم وأستاذاتهم الذين كان لهم الفضل عليهم، ومن تم على المجتمع.

أتذكر العديد منهم في كل مستويات مساري التعليمي والتكويني، ذكورا وإناثا، شيبا وشبابا، مغاربة وأجانب، على أيديهم تعلمت القراءة والكتابة والحساب، ثم اللغات والعلوم والرياضيات، ثم الأدب ومدارس وأساليب الفن والنقد، وتاريخ الفن وفلسفة الجمال والسيميولوجيا والأنثربولوجيا، والديداكتيك وعلم النفس وعلوم التربية.

بفضل هؤلاء وأمثالهم تمكنت عدة أجيال من التعلم والتربية والتكوين في القرى والمدن، وفي العديد من المستويات والمسارات والشعب والتخصصات، حينها كانت المعرفة ثمينة ومحدودة الانتشار، والمنافذ إليها محدودة أيضا: كتب مدرسية قليلة وموحدة، ملخصات الدروس وشروحات الأساتذة، بعض خزانات الثانويات أو الكليات والمعاهد، أو استعارات الأصدقاء والأساتذة، ونادرا بعض المقتنيات.

كان احترامنا للمدرسة والأستاذ نابعا من تقدير التلاميذ والطلبة، وتقدير الأسرة والمجتمع، لحرمة المدرسة ولمهمة التربية والتعليم المنوطة بهم. ورغم أن العقلية التربوية كانت أحيانا قاسية، ورغم أن المناهج الدراسية وبعض القيم والمضامين التعليمية والمجالات الدراسية والكفايات كانت محدودة وأحيانا جافة، فقد كان الجد والمثابرة والتكوين الذاتي وشغف المعرفة هو الكفاية الكبرى والنهج المحمود للتحصيل وتحقيق التفوق والنجاح، وكان الجميع إلى حد ما سواسية أمام المدرسة.

لم نكن نحتاج إلى ساعات إضافية للتقوية الجاهزة ولا دروسا منشطة للدعم مؤدى عنها، كان سبيلنا لتدارك أي نقص وتعميق كل معرفة هو الجد والعمل على إيجاد الحلول للتمارين الصعبة وفهم مضامين الكتب والأفكار العميقة أو المستعصية، وأحيانا الاعتكاف الفردي أو الجماعي في قاعات المراجعة بالثانويات والداخليات، وفي المعاهد والكليات، وأحيانا في المقاهي والغابات والساحات، أو في غرفة أو زاوية ضيقة من بيوت أسرنا أو التي نكتريها جماعة من أجل الدراسة.

لم يسبق أن عرض علينا أستاذ خدمة تعليمية أو حصصا للدعم أو ساعات لحل التمارين أو تعميق الدروس مقابل مبالغ مالية، ولا مستنسخات أو مؤلفات للاقتناء كشرط للنجاح، كما يحصل مند عدة سنوات، حيث صار التعليم الجامعي يختزل في "بوليكوب" الأستاذ، وصارت للتفوق الدراسي مدارس خاصة ومراكز وتعرفة موزعة حسب المكان والوقت وسلم التقوية و"أسرار وحيل" فهم الدروس وحل التمارين والتفوق في الامتحانات!

لم يكن النجاح وأفق انتظار الأسر يقاس بسلم معدلات ولوج مدارس وتخصصات " مهن البزنيس" الجديدة، وأساليب "الدوباج"، بل كانت المدرسة والجامعة تملك سلم الاصطفاء الموضوعي وتكافؤ الفرص والاستحقاق الفعلي.

كانت المدرسة والجامعة ومؤسسات التكوين فضاءات للمعرفة وقيم العطاء والتبادل والاستحقاق والجد والعرفان، وفكر البناء والطموح والنقد الخلاق، رغم كل صعوبات السياقات وقساوة الدولة والحياة، وكان التلميذ والطالب في صلب الاهتمام والحرص، وتعليمه وتأهيله فوق كل اعتبار.

نادرا ما حدث أن صادفنا في مسارنا الدراسي مدرسين مقصرين أو عنيفين أو حاملين لسلوكات مثيرة، أو صدرت عن الأستاذ ردود وممارسات عنيفة ولا تربوية اتجاه التلاميذ أو الطلبة، وعندما يحصل ذلك يأتي التقويم من الجسد التربوي الذي كان يملك المناعة الضرورية لذلك.

أما عنف التلاميذ والطلبة اتجاه الأستاذ والمؤسسة، فلم يكن نادرا جدا فحسب، بل كان ينظر إليه من طرف الأسرة والتلاميذ والطلبة أنفسهم، كجريمة تربوية واجتماعية غريبة، ينبذها المجتمع ويستحيي من وقوعها الجميع.

بفضل مثل هؤلاء الأساتذة وهذه المدرسة والجامعة استطاع المغاربة أن يبنوا المغرب المعاصر بكل تحققاته وانجازاته وإخفاقاته وأعطابه وطموحاته، منهم مدرسون ومهندسون وباحثون ومبدعون، أطباء وقضاة ومثقفون، إستراتيجيون وأمنيون وصحفيون وحقوقيون، تجار وعمال وفلاحون ومقاولون ونقابيون...

في مديح هذه المدرسة وهذه الأجيال وعطائها الذي كان موسوما بالجد والحرص ونكران الذات والغيرة على مستقبل البلاد والأجيال، ندعو إلى فتح حوار مجتمعي ديمقراطي وشامل، وأكثر جدية ومسؤولية وعقلانية، من أجل التفكير الجماعي في راهن ومستقبل منظومتنا التربوية والتكوينية ومستقبل بلادنا، وذلك من أجل إصلاح تربوي ومؤسساتي بنيوي وشامل، يستحضر الشروط الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، وجميع أبعاد ومداخل النجاعة والجودة، ويعيد للمدرسة مكانتها وحيويتها ووظائفها الاجتماعية والتنموية.