فن وإعلام

الغزل، وهل هو ضرب من التحرش، وبأي معنى؟

محمد بودويك

ليس كالشعر الغزلي العربي –فيما يبدو- توصيفا باهرا للمرأة، وتشبيبا ملتهبا بها، وغراما، وعشقا، وتولها، بل وجنونا. علما أن الشعريات الكونية الضاربة في ليل التاريخ، وصلصال الحضارات، أولت المرأة المحبة والوله، والتقديس الألوهي.

كأن المفارقات هي ما يصنع التواريخ، وهي ما يحرك الأقدار ويحبك المصائر، ويقيم المعجزات والخوارق. فالمرأة جنس أدنى في تصور وعقلية الذكور، وإيروسية الفحول. وهي شر مستطير لابد منه. وخلقت من "ضلع أعوج"، وغاوية، ومغرية، وجاذبة، وجذابة، ومهلكة، أو موردة الرجل، وهاد الموت والهلاك.

ومع ذلك، معبودة ومعشوقة، ومؤلهة، ومع ذلك لها الكلمة الأولى، والنظرة الخارقة المخترقة التي زلزلت عروشا، ونشرت نعوشا. فكأن في التناقض، في التعارض والتضاد، ما يضفي الحياة على الموات. ما يجعل التوتر والغضب والغيظ والتحدي، فناراً قرمزيا يضيء جنبات الليالي المعتمة، ودخائل الإنسان الساكنة والمتوثبة.

إن الغزل الشعري العربي يَتَبَنَّك مكانة سنيّة في ربرتوار الشعرية العربية، والشعرية العالمية. ما يعني أنه – وعلى رغم تواتر الأغراض الشعرية الأخرى مثل المديح والفخر والوصف والهجاء والرثاء ـ فإن الغزل تسيد، وهيمن على الأنا الفردية، والأنا الجمعية، ربما لعلوق الحب بالجنس الإنساني، والنوع الآدمي، كاستمرار للنوع، وتثبيت لضرورة وحاجة في التعاطي التناسلي، والتسامي البشري بما يفيد أهمية الحب البالغة، والجنس بالتداعي والترتيب، للإنسانية والثقافة والحضارة.

لقد تشبب الشعراء بالنساء، وأوصلوهن إلى ذروة الرمز والمثال. فصرن أيقونات وسيرينات، وحسناوات فاتنات، يفارقن أصولهن الطينية، لينغمرن في رغوة الضوء، وزبد الأشعة، وأمواه الينابيع التي تحرسها الأفاعي المخيفة، والغيلان المرعبة، والغابات الكثة الملتفة الغامضة.

غير أن الشعر الغزلي وقد تفوق في وصف المرأة، وحببها إلى القاريء والمتلقي، والجمهور، حرص على أن يضمر حرقته الجنسية، ويخفي لوعة الوصال المرغوب والمقموع بسبب من أعراف بدوية، وتقاليد مرعية، ورقابة قبائلية. وَتَسَمّى هذا الشعر الغزلي تسميات عدة، ووصف توصيفات نابعة من محتوياته ومضامينه العطشى، المشرئبة إلى المحال، والقابضة على غصن الرمال، فهو تارة شعر عفيف وأفلطوني النزعة، وتارة شعر عذري طاهر نقي لا يبغي من المرأة إلا ظل ظلها، وصدى صوتها، ومرآة مراياها الصقيلة المنعكسة على أديم ماء واد تستحم فيه، وتغتسل، فيتحول إلى خمر لذيذة، تبل ظمأه الروحي، وتُرَقِّصُ شعره.

هذا الشعر تولاه النقد والتلقي بما يستحق من تقدير، و"تقديس" وتَجِلَّة، واحترام، لأنه صان المرأة من حيث تصنيمها وتلغيزها، وترميزها، ورفعها إلى ذروة المثال. ومن ثم، لا يدخل في ما نحن بصدد الكشف عنه، بصدد إبراز وإظهار قرابة الشعر الغزلي الآخر مما يسمى راهنا ب "التحرش الجنسي".

فإلى أي مدى، يمكن اعتبار الشعر الغزلي المادي الحسي، الماجن، المتهتك والفاحش أحيانا، ضربا من التحرش، وشكلا من أشكال المراودة بغية الإيقاع بالمرأة، وإسقاطها في حبائل الشهوة النابحة، والجنس المبتذل الرخيص؟.

إلى أي مدى، يستطاع وَصْم الشعراء الغَزِلين الحسيين، بالمتحرشين، الغاوين الذين طوعوا اللغة والصورة والخيال لأجل إطفاء شهواتهم، وعطش رغائبهم في التهتك، والاستباحة، وتبضيع الجسد؟.

وما يدخل ضمن التحرش إياه، بل الفحش السافر، واللواطية الصارخة، التغزل بالغلمان، وكان قد شاع في العصر العباسي كما لم يشع من قبل، ووجد أرضا خصبة للنبات والتفريخ والتداول، والمداورة في المسامرات، والأندية، والأسواق، بل وفي البلاطات الوزيرية، والأميرية، والسلطانية ؟.

إن الإستغراب والدهش والعجب، ليأخذنا مأخذا، ونحن نقرأ مئات بل آلاف الأبيات "الشعرية" التي خلفها الشعراء، واحتفظ بها تاريخ "الأدب العربي" أبيات تعلن هيامها ب "المُرْدان" الغِلمان، في تحرش وأحيانا مواقعة لواطية بهم، ومعهم.

أفلا يعتبرهذا الشعر تحرشا، وانفلاتا "خُلُقيا" وهو يصرح، بلا مواربة، بعطش أصحابه الجنسي، وسهادهم وأرقهم، وبياض لياليهم، وهم يمررون أمام أعينهم، صور غلمان عابرين، أو مقيمين أو زائرين، أو تلاميذ يجلسون إلى المحدثين والشعراء، والفقهاء وعلماء اللغة، طلبا للعلم والمعرفة والتحصيل؟

ثم إن الاستغراب يأتي من كون بعض الشعراء العرب ذهب في التغزل بالنساء إلى تشبيههن بالغلمان، يقول الجاحظ معلقا على الشعر المنتشر في عصره : "إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية إذا وصفت بكمال الحسن قيل كأنها غلام، ووصيفة غلامية".

ولم يكن ليشيع ويستشري مثل هذا الضرب من الغزل والتغزل، لولا التشجيع الرسمي، والإشاحة المؤسسية، والحياد العام، والسكوت الفقهي. لولا التثاقف والمثاقفة والتلاقح الحضاري.

وإذا كانت المثاقفة خيراً على العرب والعربان، فإنها – وفي انتشارالمزج العرقي، والاختلاط الجنساني، والحرية مشرعة المصاريع والأبواب، لعبت دور الوبال على استمرار الحضارة العربية الإسلامية يانعة نامية متنامية، في أفق تصليب عودها، وترسيخ أعمدتها، وثوابتها ومتغيراتها وسواريها.

ما علينا. لست في موقع من يحمل المعول ليهوي على ثقافة شعرية راسخة، لها مالها، وعليها ما عليها، كما أنني لا أحاكم الشعر العربي في وجهه الغزلي، من وجهة نظر أخلاقية سمجة منحطة تثير الضحك أكثر مما تثير السؤال والتفكير. لكنني أقول : إن التحرش الجنسي عربيا وإسلاميا، له تاريخ وامتداد، وسدنة من حكام وفقهاء، وشعوبيين، وضالين ومضللين. وفيما ارتقى الشعر الغزلي الرفيع الذي أَمْثَلَ المرأة، وحاك حولها غلالة من الجمال والجلال، والبهاء، سقط الشعر الغزلي الذي اتخذ من المرأة موضوعا ذلولا للامتطاء والركوب، والإباحة والإستباحة والمجون، والفنطازيا الإيروتيكية. وسقط شعر يوازيه ويصله، ويغذيه، ويتغذى منه، وهو شعر التغزل بالغلمان الذي أفحش في كثير من مواضعه ومفاصله، وهو يصف المردان الغلمان كموضوع أثير لشبق "الفحول"، وعطش "الرجال الأصول".

أليس في ذلك ما يجعلنا نصف هذا الشعر بأنه تحرش جنسي عار ورخيص، بالذكور. فما بالك بالنساء اللوتي تعرضن أيضا للتصوير الفاحش، والوصف الساقط، والموضعة التوصيفية المتهتكة.

وإذا اتفقنا على أن التحرش الجنسي هو مراودة فيها ملاطفة ونعومة تتطور رويدا.. رويدا، إلى فحش، وزنى لغوي، وعنف لفظي، وعدوان سافر على المرأة أو الغلام، فإن بعض الشعر الغزلي يتمرأى ناصعا أبيض من غير سوء، في مرآة المعنى المتفق عليه. اللهم إلا إذا اعتبرنا التحرش الجنسي هو ما يحصل للمرأة من تعقب مادي حضوري للرجل في الشارع العام، أو في وسيلة من وسائل النقل والمواصلات التقليدية أو العصرية، والهمس في أذنها بكلمات، تعكس توَلُّها ورغبة وشبوبا واحتراقا.

أي أنْ يجمعهما جامع من مكان وفضاء وزمان وأبعاد.

بينما الشعر الغزلي ما هو إلا كلام هفهاف، رقيق الحواشي، مسدل الأهداب، دامع العينين، يصف امرأة مثالا، امرأة في المطلق، متوددا لها، وناشرا بين يديها قلبه الدامي، والملتاع.

ونحن نعرف تمام المعرفة بأن النساء اللواتي تَشَبَّبَ بهن الشعراء، جلهن هواء وماء وأثير. جلهن دمقس وزبرجد وحرير.

لأنهن غير منعوتات، ولا مشار إليهن بالأصابع والبنان.

إنهم بتعبير نحوي يخص النداء : "نكرات غير مقصودات".

فتسميتهن: هند ودعد وخولة، وفاطمة، وسلمى ، وسيلمى، وليلى إلخ..، ما هي إلا تسميات معادة، مكرورة، مرموزة، ومؤمثلة، تماما كالأطلال، والشواخص الحجرية الباقية التي تكررت في الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي، وفي نسبة معتبرة من الشعر العباسي.

فهل هذا المعطى التاريخي الأنتربولوجي، يشفع للشعراء الغَزِلِين، ويبعد شبهة التحرش الجنسي بالنساء، والحال أنهم إنما يؤثثون بالخيال، والسراب، والمحال، شعرا فسح ويفسح للمرأة ما هي به امرأة تضيء وتنير، تحب، وتلد، و ترعى، وتحفظ النوع والحياة. أي ما هي به : جمال وأنس وحسن وفتنة ليس في طوق الرجل الاستغناء عنها حتى وهو يذلها ويستصغر طاقتها، ويستعبدها، ويرى إليها ناقصة عقل دين !!.

التقاليد البالية، والأعراف القبائلية الرّثّة، والبدونة الرعوية التي أعلت من شأن الرجل، وحطت من قدر المرأة، بالرغم من قيامها بمتطلبات الحياة وأعبائها من سقي ورعي، وطهو، واستقبال للرجل، و"فراش" في الليل، هي السبب الجوهري –في تقديري- في موضعتها ورَهْنِها للخدمة الجنسية، وللإنجاب. لكن الشعر – وهو أس اللغة ومرآتها الصافية، ولسان العاطفة الجياشة، والوجدان المتقد، والروح الظمأى الهائمة، أنقذها نسبيا- من الطين والمواعين، مبرزا أنوثتها وجمالها، وحضورها الذي لا مناص منه، ودورها في دورة الكون والزمن، والفلك. وما تلك الفصوص الشعرية المتحدرة إلينا من عمق ربوع الجزيرة العربية، على شظف العيش، وصحراوية الحياة وقحطها، إلا دليل مادي أثيل على المكانة والمَرْقَى الذي بوأها فيه الشعراء: تلك الأقلية المهيبة التي لولاها، لظل الإنسان، امرأة ورجلا، طي الطينية الأولى، والآدمية الخام، والطبيعة الخرساء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويقضي حاجته ووطره عند الدافع والاقتضاء.

عود على بدء، نقول : إن بعض الشعر الغزلي الحسي الفاحش، هو ضرب من التحرش الجنسي، بل هو إياه. وإلا كيف نقنع الناس، نقنع الطلبة والتلاميذ (ات)، بأن شعر التغزل بالغلمان، ما هو إلا شعر، نمط في التعبير، اقتضاه داعي عصر متحول كان يموج بالأعراق واللغات، والتبدعات، والثقافات والحضارات، وكفى المؤمنين القتال !.