تحليل

استقالة الحريري كأحد تداعيات فوضى الربيع العربي

إبراهيم أبراش

مع أنه يتم استحضار دول بعينها عند الحديث عما يسمى "الربيع العربي"، إلا أن كل الدول العربية، في الواقع، منخرطة ومتورطة في فوضى الربيع العربي، بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث يمكن تصنيف الدول العربية من حيث علاقتها بفوضى الربيع العربي إلى ثلاث فئات:

1- دول مستَهدَفة بهذه الفوضى، هي: فلسطين، تونس، مصر، سوريا، ليبيا، اليمن والعراق.

2- دول مشارِكة بشكل مباشر بالسلاح والدعم المالي واللوجستي لأسباب متعددة، وخصوصا دول الخليج العربي.

3- دول تبذل جهودا حتى تجنِّب نفسها الوقوع في شراك الفوضى وتداعياتها، وهي: المغرب، الجزائر، موريطانيا، الأردن ولبنان.

وتعتبر لبنان من الدول، التي حاولت تجنيب نفسها فوضى الربيع العربي، إلا أن الجيوبولتيك جعلها في عين العاصفة، وفي هذا السياق جاءت استقالة رفيق الحريري.

من المعلوم أن لبنان، منذ الاستقلال وصياغة الميثاق الوطني 1943، وبسبب تركيبته الطائفية، يقوم على توازنات وتقاسم وظيفي بين الطوائف، وتوازنات سياسية إقليمية ودولية. وبالرغم من التجربة الديمقراطية الفريدة للبنان، فإن الدول الغربية، وخصوصا فرنسا، كانت ضامنة التوازنات الداخلية والإقليمية، التي تحافظ على استقلال لبنان وانتعاشه الاقتصادي، إلا أنه بعد الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، تولت دول عربية، خصوصا سوريا والمملكة السعودية، هذا الدور.

وقد دشن اتفاق الطائف 1989، الذي رعته المملكة العربية السعودية وجامعة الدول العربية، منعطفا في المسيرة السياسية للبنان، حيث شكل ميثاقا وطنيا جديدا، بعد أن جمعت السعودية الفرقاء السياسيين اللبنانيين على طاولة واحدة بعد سنوات من الاستعصاء السياسي وخمسة عشر عاما من الحرب الأهلية. وقد أعاد هذا الاتفاق ترتيب العلاقة بين الطوائف ومؤسسات الدولة، كما أعاد إلى الجيش هيبته وسلطته على كامل الأراضي اللبنانية، وضمنيا ألغى اتفاق القاهرة عام 1969، الذي كان ينظم العلاقة بين الفلسطينيين والدولة اللبنانية. ولكن المهم في هذا السياق أنه اعترف لسوريا بصلاحيات واسعة بما يشبه الوصاية على لبنان، وقد كانت العلاقة، آنذاك، طيبة بين سوريا والمملكة السعودية.

ومنذ ذاك التاريخ أصبح للمملكة السعودية دور رئيس تجلى في دعم المملكة تولي رفيق الحريري، الذي يحمل الجنسية السعودية، رئاسة الوزراء عام 1992، مما أخرج لبنان نسبيا من دوامة الحرب الأهلية، وحافظ على استقراره السياسي والاقتصادي، سواء من خلال المساعدات المالية والاستثمارات التي تُقدر بالمليارات، أو من طرف رئيس الوزراء رفيق الحريري الملياردير اللبناني السعودي. وكان هدف السعودية هو ضمان عدم اصطفاف لبنان في محور إقليمي مناهض لها.

وبالرغم من اغتيال رفيق الحريري بتفجير عبوة تزن ألف كيلو غرام في موكبه، وقد توجهت أصابع الاتهام، آنذاك، إلى حزب الله وسوريا، وتم تشكيل لجنة دولية للتحقيق، أعلنت في أكتوبر 2005 عن نتائج أولية، لكنها لم تنه عملها حتى اللحظة.. بالرغم من ذلك، استمر الدعم السعودي للبنان، خصوصا بعد تولي سعد الحريري رئاسة الوزراء في نوفمبر 2009.

اندلاع فوضى الربيع العربي عام 2011 وامتدادها إلى سوريا وتدهور العلاقة بين سوريا والمملكة السعودية كانت له تداعيات خطيرة على لبنان، وأخل بالتوازنات والتفاهمات التي أسس لها اتفاق الطائف، الذي أدخلت عليه تعديلات في اتفاق الدوحة 12 ماي 2008، حيث لم يتمكن سعد الحريري من النأي بلبنان عن المحاور الإقليمية والاستحقاقات الإكراهية لفوضى الربيع العربي. إذ شارك حزب الله اللبناني بشكل مباشر وقوي في الحرب الدائرة في سوريا، إلى جانب الدولة السورية في مواجهة خصومها، ومنهم السعودية. كما انحاز حزب الله سياسيا إلى الحوثيين في اليمن، المتحالفين مع إيران، في مواجهة عسكرية شرسة مع قوات التحالف العربي، بقيادة السعودية. إضافة إلى التحالف الاستراتيجي السياسي والعقدي بين حزب الله وإيران.. كل ذلك جعل حزب الله يتصرف وكأنه صاحب السلطة في لبنان، وأن بيده قرار الحرب والسلم، وليس بيد الحكومة أو الرئيس.

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما زار علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، لبنان في الثاني من نوفمبر الجاري، والتقى بالحريري وصرح بتصريحات لم يُعَقِب عليها الحريري في حينه، وقد اعتبرتها السعودية مستفزة لها، خصوصا أنها تزامنت مع إطلاق صواريخ من اليمن على مناطق استراتيجية في السعودية، التي اتهمت إيران بأنها تقف وراء العملية. وقد استشاطت السعودية غضبا لأنها وجدت أن كل ما قدمته من مليارات إلى الحريري ولبنان لم يُجد نفعا، وأن لبنان ينزلق نحو المحور الإيراني السوري، وهكذا قررت معاقبة لبنان وسعد الحريري.

في اليوم التالي لزيارة المسؤول الإيراني للبنان، استدعت السعودية سعد الحريري على عجل، ومن هناك أعلن في الرابع من نوفمبر استقالته، مما أثار ضجة كبيرة حول توقيتها ومكان إعلانها، وهي استقالة أظهرت الحريري وكأنه وكيل أو موظف سامٍ للسعودية في لبنان.

هذه الاستقالة لا شك أن لها علاقة بالصراع بين السعودية وإيران، وهذا الصراع جزء من فوضى الربيع العربي. وعليه، فإن لبنان يُجر إلى فوضى الربيع العربي بغير إرادته.

كما أن هذه الاستقالة تشكل إعلانا لنهاية اتفاق الطائف والتفاهمات والتوازنات الهشة التي تبعته، ودخول لبنان مرحلة صعبة سيكون فيها للتدخلات الخارجية دور أكبر من التفاهمات والتوافقات الداخلية، واحتمال ألا يعود سعد الحريري إلى لبنان في المدى القريب، لا كرئيس وزراء ولا كمواطن عادي، ما دام لبنان غير قادر على الاستغناء عن المال السياسي الخارجي، وقبل أن يتم فك الاشتباك والتداخل ما بين سلطة الدولة وسلطة حزب الله.