رأي

محمد معروف: كرة القدم ومواطنة السوق بالمغرب

محمد معروف

حين ننتقد الأوضاع القائمة فنحن لا نشكك في الإنجازات الماضية في خط تصاعدي، ولسنا بعدميين أو تيئيسيين، نتربص بالنجاحات المحققة أو نثبط الهمم، بل بالعكس، نحن نؤكد على المعاني الأسمى والقيم العليا، ونبذل قصارى جهدنا لنكون شركاء فاعلين في هذا الوطن.

اسمحوا لنا بادئ ذي بدء أن نهنئ المنتخب الوطني على إنجازه الكروي ضد الفرق المشاركة في الإقصائيات المؤهلة إلى كأس العالم المقبلة، ونتمنى له مسيرة موفقة في مشواره الكروي. وبهذه المناسبة، نسوق للقارئ موضوعا حول تسخير مقابلات الفريق الوطني لتحقيق مواطنة الفرجة وإيقاد حماسة اللحمة الوطنية بين إثنيات المجتمع الواحد.

يتعلق موضوعنا اليوم بتوظيف مباريات كرة القدم للفريق الوطني في البناء السريع للحمة الوطن، هل هذه ظاهرة ثقافية مقبولة أخلاقيا وعلميا، أم لهذه الممارسة مخاطر شتى على لحمة المجتمع؟ لماذا تحول الوصف الرياضي على القنوات المتلفزة التجارية في العقود الأخيرة إلى بيع استعارات وأوهام انتصارات أسطورية لدول وحيوانات وطيور وليس لفرق كروية فقط؟ كما تجاوز هذا الوصف رقعة الميدان ليسبح بخيال المشاهد نحو صنع مواطنة استهلاكية تقاس درجة حرارة الانتماء فيها بارتفاع سعر المباريات واللاعبين بالعملة الصعبة.

خاض المنتخب الوطني مباريات قوية مؤخرا، أحيى من خلالها الوصف الرياضي على قنوات بي ان سبورت استعارة "الأسود"، فارتفعت بذلك درجة الحماس والتوتر لدى معظم المغاربة، وازداد لهيبهما مع وصف رياضي يستخدم معجما ليس فقط حماسيا ومليئاً بالعواطف، بل قاموسا يصف حربا بين بلدين وليس بين فريقين، فيتحدث الواصف الرياضي عن افتراس الأسود، والتهامها لخصمها بدون شفقة، كما يصف تفاصيل سحق الخصوم، ومحاصرتهم، وغيرها من الاختيارات اللفظية التي تعطي انطباعا بأن الانتصار في مباراة كرة القدم هو انتصار على البلد الخصم، وهزيمته في حرب تأخذ أبعادا رمزية. وهكذا اصطف المغاربة بجميع أطيافهم بجانب فريقهم المقاتل، وخاض المغرب في كل مبارياته حروبا بالوكالة، ثم حقق النصر في نهاية الإقصائيات، فخرجت الجموع تهلل لعودة البطل المغوار، ونسي الكل أن الفريق ظفر فقط بالتأهل إلى المونديال، ولا يتعلق الأمر بتاتا بهزمه لدول كما صورتها الآلة الإعلامية التجارية. لنأخذ مثالا عن مباريات الدربي بين الجزائر والمغرب، وكيف يحمى وطيسها، وكأن كل فريق يحاول أن يثبت أن دولته هي الأقوى، فتتحول المباريات الكروية إلى معارك لإثبات الذات السياسية والاقتصادية أكثر من إثبات الذات الرياضية، إذ تنشغل الجماهير عن همومها المحلية، وتنغمس في الإلهاء والفرجة، لكي تحتسي نشوة الانتصار على البلد الخصم في النهاية، ثم يغرق البلد المهزوم في البكاء والحزن والغضب على هزيمة مقاتليه.

إن هذه الانتصارات الإلهائية التي يطبعها وصف رياضي ساخن يدغدغ المشاعر، تنقل المشاهد من جو الرياضة إلى جو السياسة، فيتحول الانتصار الكروي إلى إنجاز تاريخي ليس لفريق فقط، بل لبلد بأكمله. وهكذا قد تستطيع الانتصارات الكروية في عالم الصور الزائفة (simulacra) أن تحجب الإخفاقات السياسية والاقتصادية، بل قد تجدد ثقة الشعوب في حكامها، خصوصا لما ينسب الانتصار إلى الحاكم، ويأخذ طابعا سياسيا.

انظروا كيف احتفل المغاربة بانتصار فريقهم على ساحل العاج، إذ تدفقت آلاف الجماهير إلى الشوارع تحمل الأعلام الوطنية، وارتفعت حرارة المواطنة وحب الوطن بعد نشوة الانتصار، واحتفل المغاربة بقدوم الأبطال وتحقيقهم لهذا الإنجاز التاريخي: ليس تحررا من تبعية الغرب الاقتصادية والثقافية، ولا من الإمبريالية العالمية، ولا انعتاقا من قوى الاستبداد، هو فقط احتفال بالتأهل للمونديال. اصطفت الجماهير في صفوف متراصة، وتلاشت الفوارق الاجتماعية من خلال إيقاد حماسة الجماهير إلى درجة أن المشهد برمته رسم لوحة شعب متماسك، طمست فرحته مشاكل البطالة وغلاء المعيشة، وفساد الإدارة وتعثر المشاريع الاقتصادية، وإفلاس النخب السياسية، وفشل المنظومة التعليمية، وإصابة المنظومة الصحية بأعطاب قاتلة... يا سلام! تبخرت المشاكل بين عشية وضحاها، ففرح الغني والفقير، والحر والسجين، توحد الجميع في حب الوطن، ورفع رايته، ورقص الجميع في الساحات، وهم يتغنون بأناشيد النصر ويذرفون دموع الفرح. هل تقدم بلدهم على بلدان أخرى؟ هل تقدم في العلوم؟ هل تفوق اقتصاده على اقتصاديات عالمية؟ هل تميز باختراعات وابتكارات جديدة؟ لا لا لا لا ...هي فقط دموع المستهلك المنخدع الذي يترجم انتصار الفرجة والأوهام إلى انتصار رمزي حقيقي. هل هذه تبدو كرة قدم أم أصبحت صفقة تجارية تسوق مشاعر الإلهاء، وتباع في سوق الثقافة المصنعة. أليست هذه مواطنة السوق التجارية؟ أليست هذه أزمة وجودية تعانيها المجتمعات الاستهلاكية اليوم؟.

حين تترجم فرحة الجماهير بفريقهم الوطني إلى صناعة مواطنة وقتية، فهذا إحساس وهمي ابن ساعته، قد يتراجع بتراجع نتائج المنتخب الوطني، ولا يحقق بتاتا المواطنة الحقيقية.

إذا أخذنا الدول المتقدمة في أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا على سبيل المثال، فهل تعتمد على الثقافة الاستهلاكية لبناء مجتمعاتها أم تعتمد ثقافة عالمة تنشر المعرفة والوعي السياسي بين ثنايا المجتمع؟ هل تعمد دولة سنغافورة مثلا إلى بناء مواطنة سوقية احتفالية أو كرنفالية؟ متى سمعنا عن منتخب سنغافورة أو غيرها من الدول التي حققت مراتب أسمى في التعليم والاقتصاد تعمد إلى استثمار أموال ضخمة في كرة القدم؟ متى كان الإحساس بالانتماء يبنى بالأفلام والأغاني والمباريات الرياضية؟ هذا يذكرنا بالأغاني الوطنية التي ابتدعتها مصر خلال أزمتها السياسية الأخيرة لتخرج المجتمع من ورطة الانقسام حول من يقود المرحلة السياسية بعد مرسي، كما يذكرنا بالأغاني التي اكتسحت الساحة الوطنية بعد انطلاق المسيرة الخضراء. لكن هل هذا كافيا لبناء الوطن والإحساس بالانتماء؟ إن المواطنة العضوية للشعوب تبنى بالمعتقدات والقيم والإيديولوجيات والكتب والمدارس والثقافة العالمة التي تمرّن الفرد وتعلمه التشبث بمقدسات أمته، والتفاني في خدمة مؤسساتها، تلك هي المواطنة وليس الركض في الشوارع، ولا الضغط الجنوني على منبهات السيارات. إن المواطنة العضوية تستمد قوة استمرارها من القيم التي تلقن في المدارس وعن طريق البرامج الإعلامية الهادفة، ناهيك عن التجنيد الإجباري للشباب وتدريبهم في الجندية على حب الوطن واحترام المؤسسات، والتفاني في العمل وخدمة الوطن بصدق وإخلاص.

نكررها في الأخير بأننا نثمن انتصار المنتخب الوطني، لكننا في مغرب المفارقات، نؤكد على الأوليات: كم تنفق الدولة على الصحة والتعليم مقارنة مع دويلة سنغافورة أو دويلة إسرائيل؟ إذا استطاع الناخب الوطني الذي يتقاضى أجرا يضاهي أجور المدربين العالميين النهوض بالفريق الوطني إلى فريق عتيد، فبالمقابل نحن مطالبون بإيجاد شعب متعلم قوي يرقى إلى مستوى منتخبه، أليس تعليمنا في حاجة كذلك إلى خبرات من حجم المدرب الوطني في كرة القدم، والاحتكاك بالمؤسسات الأكاديمية العالمية وتطوير القطاع للنهوض به إلى أرقى المستويات، أم هي مواطنة فرجة فقط؟.

إن أولوية الأوليات اليوم ليس وصول التلفاز إلى قرى المغرب ومداشره لمشاهدة الفريق الوطني وهو "يدك" خصومه "دكا"، ولكنه وصول الكتاب. يوم يقطع الكتاب المسافات البعيدة بين جبال المغرب وتلاله، يومها سنعبر نحو بناء صرح المواطنة العضوية للشعب، فدون ذلك، نحن فقط نبيع مواطنة الأوهام للناشئة، ما قد يعرض مجتمعنا لخطر تقلبات السوق الإعلامية التي احترفت المتاجرة في عواطف الجماهير.