تحليل

استمرارية الدولة المغربية .. مكونات مادية ومقومات رمزية

محمد شقير

هناك شبه اتفاق بين معظم الباحثين على طابع الاستمرارية الذي تميزت به الدولة المغربية عبر تاريخها؛ ذلك أن السمة الأكثر بروزا في مـسـارها، حـسب الأستاذ ساعف؛ هي استمراريتها، وثقل المدى الزمني الطويل الذي تميزت به كدولة قديمة ورثت موارد دائمة من الماضي.

وفي هذا السياق أيضا يـؤكـد مــحمد أركون أن الدولة المغربية عرفت أطول استمرارية مقارنة بدول أخرى في منطقة شمال إفريقيا. فـبـخـلاف الـدولـة الـجزائـرية التي عرفت عدة تقطعات في الزمان والمكان، تمتعت الدولة المغربية باستمرارية متواصلة سواء في مرحلة ما قبل الفتح الإسلامي أو في المرحلة الإسلامية. وهكذا يشير أركـون إلـى أن الـدولـة الـمـغـربـيـة ذات الـطـابـع الإسـلامـي، وعلى غرار نظيرتها التونسية، تميزت بأطول استمرارية.

ويمكن أن نفسر استمرارية الدولة المغربية بعدة عوامل ساهمت في تكريسها؛ كما يمكن أن نرصد هذه الاستمرارية عبر عدة مظاهر تجسدت في عوامل داخلية وأخرى خارجية.

- العوامل الخارجية

تتمثل هذه العوامل في انتماء المغرب إلى المنظومة المتوسطية وتواجده على طريق تجاري دولي:

- الانتماء إلى المنظومة المتوسطية

يعتبر المغرب، من خلال شريطه الممتد من الحسيمة إلى طنجة، أحد بلدان البحر الأبيض المتوسط. وهكذا يرى الـمـؤرخ شـارل أنـدريـه جـولـيـان أن الـسـواحل المغربية شاركت، منذ العصور القديمة، في النشاط المتوسطي، كما ارتبط تاريخ المغرب، بشكل وثيق، بتاريخ إسبانيا في القرون الوسطى. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن تاريخ المغرب الحديث تأثر بشكل كبير بكل الصراعات والمستجدات التي عرفتها أوربا المتوسطية، سواء كان ذلك من خلال حروب إسبانيا والبرتغال أو حروب إسبانيا مع العثمانيين في إطار الهيمنة على منطقة البحر الأبيض المتوسط، أو الصراع الذي كان دائرا بين فرنسا وانجلترا للسيطرة على المنطقة.

ومن المعلوم أن منطقة البحر الأبيض المتوسط اعتبرت منذ القديم مهد عدة حضارات، وشهدت نشأة عدة دول عريقة، كدولة الفراعنة في مصر، والدويلات الفينيقية، والدويلات اليونانية... كما عرفت توسع عدة إمبراطوريات، مثل الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية القرطاجية.

وقد كانت السـمة الرئيسية التي ميزت مختلف هذه الدول والإمبراطوريات هي قدم نشأتها وامتدادها الزمني المكثف. ويمكن أن نرجع سبب هذا الامتداد والاستمرارية إلى الطبيعة الساخنة لهذه المنطقة؛ فنظرا لأن منطقة البحر الأبيض المتوسط كانت دائما منطقة صراع حول النفوذ، فقد كان من المفروض أن يكون لكل شعب دولة تحميه ضد كل الهـجـمـات الأجـنـبـية، وخصوصا تلك القادمة من البحر. فالبحر الأبيض المتوسط إذا كان يشكل لكل شعب من شعوب المتوسط مورد رزق ومنفذا تجاريا؛ وقد كان في الوقت نفسه يشكل مصدر خطر لأنه كان معبرا للاحتلال ومنفذا للهجمات الأجنبية الآتية من البحر.

وهكذا يشير عبد القادر جغلول إلى أن "الظروف التي أحاطت بمنطقة البحر المتوسط، خصوصا الصراع الروماني - القرطاجي أفضت إلى تكوين الدولة البربرية في القرن الثالث ق م. بما فيها الدولة المغربية".

لــكـن إذا كـانـت هـذه الـظـروف سـاهـمـت بـشـكـل كبير في نشأة الدولة المغربية؛ فإنها ساهمت منطقيا في استمراريتها. إذ إن هذه الظروف، والتي تمثلت في الصراع على الهيمنة على البحر الأبيض المتوسط، بقيت تفعل باستمرار. فبانهيار روما، ظهرت قوى إقليمية أخرى حاولت السيطرة على المنطقة، مـثـل بيزنطة، ثم الأمـويـيـن وغيرهم.

وقد كان لهذا الصراع المحتدم والمتواصل في منطقة البحر المتوسط تأثير كبير على تطور الدولة المغربية، نتيجة للموقع الإستراتيجي الذي يحتله المغرب في هذه المنطقة، والذي يبرز من خلال:

- إشرافه على مضيق جبل طارق الذي يعتبر البوابة الرئيسية للدخول أو الخروج من المنطقة.

- قربه الكبير من الضفة الأوربية من خلال جواره لإسبانيا والجزيرة الخضراء التي تعتبر القاعدة الأمامية لأي تدخل في أوربا.

- توفره على شريط ساحلي على المحيط الأطلسي.

ونتيجة لهذا الموقع، وجدت الدولة المغربية نفسها مشاركة في كل الأحداث السياسية التي عرفتها مـنطـقـة الـبـحـر الــمـتوسط؛ إذ شـارك الـملـوك الـمـغـاربة القـدامى في الصراع الذي كان دائرا بين روما وقرطاجة، وكذا في مواجهة التوسع الروماني، وذلك من خلال مساندة يوغرطة؛ ثم ساندوا روما في قضائها على هذا الأخير؛ كما دخلوا حلبة الصراع الذي دار بين قيصر وخصومه على السلطة.

كما شكل المغرب أيضا محطة عبور للوندال في حربهم ضد روما؛ في حين كان أول معقل انطلقت منه الجيوش الأموية لاحتلال إسبانيا...

وهـكـذا فـإن وجــود المـغـرب فـي مـنـطـقـة ساخنة سياسيا، وتواجده في حلبة الصراع بين القوى الإقليمية، كان يفرض تواجد دولة مغربية باستمرار؛ بحيث يمكنها أن تخضع للاحتلال أو للحماية أو تتعرض للضعف، ولكنها لم تتلاش أبدا.

ومن خلال قراءة متأنية لتاريخ المغرب، سنجد أن الدولة المغربية بقيت قائمة حتى بعدما بسطت روما سيطرتها على مـخـتـلـف مـنـاطـق شمال إفريقيا، وقضت على المملكة النوميدية. بل إن القضاء على هذه المملكة جـعـل المـمـلـكـة المـوريـتـانـيـة تـحـصـل عـلى بعض أجزاء هذه الأخيرة مقـابل مساندة بوكوس لروما في حربها ضد يوغرطة. وقد استمرت المملكة الموريـتـانـيـة قـائـمـة حـتـى بعد إنشاء بعض المستعمرات الرومانية في المغرب، مجسدة من خلال حكم يوبا الثاني وابنه بطليموس.

وإذا كان اغتيال كاليكولا لبطليموس يمثل فقدان الدولة المغربية لسيادتها واستقلالها؛ فإن هذا لم يعن اختفاء الدولة المغربية. بـدلـيـل أن تـمـرد أيـدمـون واضـطـرار روما إلى وضع حواجز (الليمس)) لتأمين المناطق المستعمرة؛ وكذا التحالف مع بعض رؤساء القبائل المـغـربـيـة (1)، كـان يؤكد أن التوسع الروماني كان احتلالا، والاحتلال يكون دائما لدولة ما. فهذا الاحتلال، الذي وإن شكل عرقلة لتوحيد سياسي، كما يقول بعض الباحثين، فإنه لم يقض على الوجود السياسي للدولة المغربية. فبحلول القرن الثالث الميلادي بدأت روما تتخلى عن مواقعها بالتدريج لينتهي ذلك بمغادرة الحاكم الروماني لمدينة وليلي، وليلي التي كانت تجسد دائما استمرارية الدولة المغربية. فقد أشار كورتوا إلى أن مغادرة الحاكم الروماني لمدينة وليلي كانت تعني ترك السلطة لملوك بقيوة "الذين قاموا بلا شك بممارسة السلطة في كل مناطق المملكة الطنجية القديمة".

كـما يـؤكـد كـورتوا أن الـفـتـرة الـتي تـزامنت مع الاكتساح الوندالي شهدت ظهور عدة ممالك، سواء في الجزائر أو المغرب؛ خصوصا أن هذا الأخير كان يبتعد كثيرا عن مقر الدولة الوندالية (3). لذا فإن الفاتح العربي عندما دخل المغرب واجه مقاومة مستمرة كانت تحركها أساسا الفكرة الاستقلالية، والتي كانت انعكاسا لاستمرارية الدولة بالمغرب.

- الارتباط بالتجارة الدولية

لقد ارتبطت اسـتـمـرارية الدولة بالمغرب بالتجارة الدولية التي تمركزت بشكل خاص وحتى حدود القرن 16 م في مـنـطـقـة الـبحر الأبيض المتوسط. وهكذا يشير بيران إلى أن مركز التجارة الدولية تحول ابتداء من القرن الثالث ق م نـحـو غـرب البـحـر الأبـيـض الـمـتـوسـط، ما جـعـل مـن هذه المـنـطـقـة عنصرا رئيسيا في الـسـاحـة الـدولـيـة فـي مـخـتـلـف الميادين البحرية والاقتصادية والسياسية. وتواجد المغرب في هذه المنطقة جعل الدولة المغربية تستفيد من الفائض الذي كانت تدره عليها وساطتها التجارية.

وقد ساهمت عدة عوامل في لعب الدولة المغربية دور الوسيط التجاري بين أوربا وإفريقيا السوداء والمشرق العربي، تمثلت على الخصوص في ما يلي:

- توفر المغرب على واجهتين: واجهة بحرية وواجهة صحراوية؛ الواجهة البحرية كانت تساعد على التعامل مع أوربا من خلال تسهيل عملية تبادل مواد إستراتيجية كانت أوربا في حاجة دائمة لها، وهي العبيد والملح والذهب؛ في حين شكل المغرب من خلال واجهته الصحراوية محطة تجارية لنقل بعض المصنوعات الأوربية مثل الأقمشة والأسلحة.

- تـوفـر الـمـغرب على بنية زراعية ساعدت على إنتاج بعض المواد الفلاحية مثل الحبوب والزيتون، أو منتجات بحرية كانت أوربا في حاجة ماسة إليها، بالإضافة إلى الجلود والصوف والدواب.

- تـوفـر الـمـغـرب عـلـى سـواحـل مـمـتـدة مـن الشريط المتوسطي إلى السواحل الأطلسية التي كان من الضروري الرسو، فيها نظرا لطبيعة التجهيزات البحرية التي كانت غير متطورة آنذاك. فتوقف الفينيقيين ببعض الموانئ المغربية وإنشاء القرطاجيين لمحطات على السواحل المغربية، وتعرض هذه الأخيرة للاحتلال الأيبيري، يؤكد أهمية هذه السواحل في التجارة الدولية المتوسطية.

ولم تكن اسـتـمـراريـة الـدولـة بـالـمغرب رهينة فقط بارتباطه بالتجارة المتوسطية؛ بل نتيجة أيضا لتوفر المغرب على ثلاثة مـنـافـذ تـجـاريـة:

- النافذة المتوسطية

- النافذة الأطلسية

- النافذة الصحراوية

وهـذه الـنـوافـذ الـتـجـاريـة الـثـلاثـ مـكـنـت الـدولة الـمـغربية من أن تحافظ على علاقاتها التجارية الخارجية، وأن تـحـصل عـلى الـفـائـض الـذي يـسـمـح لـها بـالـبـقـاء والاستمرار. فالـدولـة المـغـربـيـة كانت عبارة عن دولة "بثلاث رئات"؛ كلما عطلت رئة إلا وتنفست من رئة أخرى. وهكذا فعندما احتل الرومان المنطقة الشمالية للمغرب تم الانكفاء نـحـو الجـنوب والـتـبـادل مـع دول جنوب الصحراء. وعندما احتلت إسبانيا الشريط المتوسطي، سبتة ومليلية، واحتل البرتغال السواحل الأطلسية بقيت الدولة المغربية تستمد مواردها من تجارة القـوافـل. ولعل هذا المعطى هو الذي يفسر إشارة محمد أركون إلى أن الدولة المغربية تـمـتـعـت بأطول استـمـراريـة فـي منـطـقـة شـمـال إفـريـقـيا. إذ إن كل الدول التي ظهرت في هذه المنطقة لم تكن تتوفر سوى على واجهتين (متوسطية وصحراوية)، مثل الدولة التونسية أو الدولة الجزائرية؛ بل إن الواجهة الـمتوسطية التي كانـت تـعـتـبـر الـرئـة الرئـيسـية لهاتين الدولتين كانت غالبا ما تعطل بفعل الهجومات البـحـريـة الأجـنبـية (روما، بزنطة، الحروب الصليبية) أو الاكتساحات البدوية، مثل نزوح بني هلال وبني سليم إلى المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك فإن تأثير هذه الاكتساحات كان بليغا بالنسبة لهاتين الدولتين؛ فالاحتلال الروماني اتخذ طابعا استئصاليا بـالنـسـبة للدولة التونسية؛ حيث قامت روما بإحراق قرطاج والقضاء على مملكة ماسينسا، بينما قام بنو هلال وبنو سليم بـتـخـريب الـدولـة الـتـونـسـيـة والـجـزائـريـة، وذلـك بـالقـضاء على مدنها الساحلية؛

في حين أن الاحـتـلالات الـتي تـوالـت عـلـى المغرب لم تـتـخـذ هـذا الـطـابع الاستئصالي، نظرا لأنها كانت تصل

وقد فقدت الكثير من زخمها وعـنـفـوانها نتيجة لـتـواجد هـذا الـبلـد في أقصى المنطقة. ومما كرس أيضا استمرارية الدولة بالمغرب تمكنها من الرد على الهجمات الأجنبية وقدرتها على التوسع في المنطقة، سواء في عهد بوكوس أو في عهد يوسف بن تاشفين أو في عهد عبد المومن بن على الكومي...وذلك من خلال تحول الدولة المغربية إلى إمبراطورية لعبت دورا حاسما وتاريخيا في المنطقة.

ب - العوامل الداخلية

تفاعلت عدة عوامل داخلية لتكريس استمرارية الدولة المغربية؛ إذ لعبت بالتوازي مع العوامل الخارجية المذكورة سالفا دورا حاسما في الحفاظ على هذه الاستمرارية.

ويمكن تحديد هذه العوامل في:

- الحدود التاريخية

تجدر الإشارة إلى أن المغرب توفر على حدود طبيعية قارة وواضحة؛ بحيث وجد نفسه محاطا بساحلين بحريين وصحراء في الجنوب ونهر ملوية في الشرق؛ ما جعل الدولة المغربية تحصل على حدود سياسية في وقت مـبـكـر. ومن المعروف أن الحدود السياسية شكلت عنصرا رئيسيا في بلورة الكيانات السياسية والحفاظ على استمراريتها؛ لذا فالدولة المغربية، انطلاقا من هذه الحدود، استطاعت أن تبلور هويتها، وذلك مـن خــلال الـدفـاع عـن حـدودهـا. فـنـهـر ملوية كان دائما الحد الفاصل الذي كان يعتبر تجاوزه انتهاكا لحرمة الدولة. ومما يعزز ذلك تبرير بوكوس محاربته للجيوش الرومانية بأنه دفاع عن حدود مملكته.

- الـتـنـظـيـم الـقـبـلـي

قال جغلول "إننا لا نستطيع فهم...تقلبات الدويلات المغربية بمعزل عن علاقاتها بالنظام القبلي". فطبيعة النظام القبلي في العالم العربي، ومنطقة شمال إفريقيا على الخصوص، أثرت بلا شك على سـيـرورة الدول، وبالأخص عـلـى اسـتـمراريتها. وهكذا فالنظام القبلي في المغرب تميز بعدة خصائص ساهمت بشكل كبير في استمرارية الدولة المغربية. وتتمثل هذه الخصائص في:

- وجود اتحادات قبلية كبرى مثل مصمودة وصنهاجة وزناتة.

- التجانس المعيشي والفكري لهذه الاتحادات.

- تمركز هذه الاتحادات في الطريق التجارية الممتدة من جنوب الصحراء إلى منافذ البحر المتوسط.

هذه الخصائص جعلت هذا النظام القبلي لا يتعارض مع استمرارية الدولة. فتطعيم الاتحادات القبلية للدولة بقيادات سياسية وعسكرية، ومصلحة هذه الاتحادات في تأمين الطرق التجارية، بالإضافة إلى الامتيازات السياسية التي كانت تحصل عليها من الدولة، جعلت كل الاتحادات القبلية تتنافس في ما بينها لضمان استمرارية الدولة بالمغرب. وقد فسر جغلول هذه الظاهرة بقوله:

"إن الـحـضـور الـعـام لـلـتنـظـيـم الـقـبـلـي وراء عـملية البناء الحكومي يدل على أن القبيلة والدولة بالرغم من تـناقـضهما ليستا متنافيتين. وإذا كان هناك حقا اختلاف فتجدر الإشارة إلى أن التنظيم القبلي على مستوى معين من تطوره ...يحمل مشروعا حكوميا".

وبالفعل، فإن تاريخ المـغـرب يـشـهـد أن كـل الـعـصـبـيـات الـقبلية التي تداولت على حكمه كانت عصبيات بـانـيـة للدولة وليست محطمة لها. فكل عصبية كانت تسعى بالأساس إلى إخضاع العصبيات الأخرى، وذلك مـن أجـل الـوصـول إلـى الـسلطة والتحكم في دواليب الدولة. ومن ثمة قامت الدولة المغربية منذ نشأتها على أساس قبلي. ورغم أن الأساس كان مصدر عدم استقرار للدولة إلا أنه لم يثبت قط أنه كان عنصر من عناصر تلاشيها أو اضمحلالها.

وهـنـاك عـامـل آخر ساعد أيـضا عـلـى ضـمـان هذه الاستمرارية؛ ويتمثل في التنافس القبلي المتجدد؛ فبمجرد ما تضعف عصبية وتشرف على الهرم كانت هناك عصبية أخرى في حالة ترقب، تقوم بالإجهاز على العـصـبـيـة الآيـلـة للسقوط لتحل محلها وتمنح بذلك دما جديدا للدولة. وقد عبر محمد إقبال عن هذه الصورة من خلال إشـارتـه إلـى أن "الـتـاريـخ عـلـمـنـا أن الـدولـة التي قـد تـضـعـف من خلال تلويناتها وتجسيداتها المختلفة والمتوالية، تتجدد باستمرار بفعل القوة المحركة للعصبية".

- البنية الاقتصادية الداخلية

أشار سمير أمين إلى أن الحياة الزراعية في مختلف الأقطار العربية، باستثناء مصر، "بقيت عارضة، والتقنيات الزراعـيـة للإنتاج قـلـيـلـة الـتطور، وإنتاجية العمل الزراعي ضعيفة، ومستوى حياة جمهور المزارعين قريبا مـن الـكـفـاف". لكن يمكن أن نوسع هذا الاستثناء ليشمل بعض بلدان شمال إفريقيا كتونس والمغرب. فهذا الأخير توفر دائما على موارد فلاحية، من مناخ متوسطي وموارد مائية، وسهول صالحة للزراعة، أهلته لكي يتمتع ببنية زراعية ورعوية ملائمة. وقد سمحت هذه البنية بأن تحصل الدولة المغربية على موارد، وإن لم تكن دائما كافية، إلا أنها كانت تساهم في الـكـثـيـر مـن الأحيان في الحفاظ على استمراريتها. ويتجلى ذلك على الخصوص في أنه في الوقت الذي تشح الموارد المالية الخارجية المستمدة من التبادل التجاري والغزو، فإن الدولة المغربية كانت تستطيع الحفاظ على استمراريتها من خلال الاقتصار على الموارد المحصلة من النشاط الفلاحي. فالنشاط الفلاحي لعب دورا مهما في تأمين موارد الدولة، ليس فقط من خلال تزويدها بالضرائب التي غالبا ما كانت تتخذ شكلا عينيا، وإنما بضمان استمرارية الكثير من المدن التي كانت مركزا للتجمعات الحرفية وحلقة من حلقات التبادل التجاري، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. بالإضافة إلى ذلك فالبوادي المغربية ساهمت أيضا في تزويد الدولة المغربية بالخيول والرجال: الدعامتان الرئيسيتان لتكوين الأداة العسكرية التي تضمن للدولة هيبتها واستمراريتها.

كما أشار شارل أندريه جوليان إلى أن هناك عاملا آخر ساعد على استمرارية الدولة بالمغرب، يتمثل على الخصوص في تشبث السكان المستقرين بالسهول بنمط عيشهم، وذلك من خلال مواجهتهم لكل محاولات البدو اكتساح هذه المناطق، محتمين بجبال الأطلس التي شكلت سدا منيعا أمام هذه الاكتساحات. وقد ساهم تشبث هؤلاء السكان بنمط عيشهم واستقرارهم في السهول في "الـحـفـاظ عـلـى استـمرارية سلطة استطاعت بسهولة فرض طاعتها". فالمـواجـهـات الـمستـمـرة بـيـن البـدو الـرحل والمزارعين المستقرين أسفرت، وبخلاف ما وقع في الجزائر، عن استمرارية الدولة المغربية.

2 - الـمـظاهر

تتجسد مظاهر استمرارية الدولة في المغرب من خلال مظهرين رئيسين: مظهر مادي ومظهر رمزي.

- الــمـظـهـر الـمـادي

من أهم الخصائص التي تميزت بها الدولة بالمغرب توفرها على عدة عواصم سياسية، ولم ترتبط بعاصمة مركزية شأن الكثير من الدول المتوسطية. ويـرجـع ذلـك إلـى عـوامـل طبيعية (كالتمفصل الجغرافي وصعوبة المواصلات وغياب المسالك...) وعوامل سياسية تتجسد في صعوبة توحيد وضبط المجال المغربي واختيارات الأسر الحاكمة.

غير أن هذا المعطي سمح بـتـكريس أكبر لاستمرارية الدولة بالمغرب؛ بحيث ساعد على نشر إشعاعها السياسي في مختلف أنحاء التراب الوطني، ووقاها أيضا من كل استئصال أجنبي. فغالبا ما كان الفاتحون يقومون بالـقــضاء عـلى دول مـا مـن خـلال إحـراق أو هـدم عـواصـمها، في حين توفرت للسلطة المركزية إمكانية الانتقال من عاصمة لأخرى.

وبالتالي فإن الاحتلالات الأجنبية التي تـوالـت عـلـى الـمغرب رغم أنها كانت تضعف من قوة الدولة وقد تخفي بعض معالمها، إلا أنهه لم يتأت لها القضاء عليها نهائيا. وهكذا أشار أحد الباحثين إلى هذه الظاهرة بقوله:

"لا يجب الاعـتـقـاد بـأنـه لم يتبق من المرحلة القديمة، بعد مجيء العرب، إلا آثار وذكريات، فالمدن

الموريتانية...قد استمرت قائمة، بـدلـيـل أن طنجة تحولت إلى مقر للولاة الأمويين في المغرب ووليلي

عاصمة للمولى إدريس".

وفي السياق نفسه يؤكد المؤرخ أندريه جوليان أن هاتين المدينتين استمرتا في لعب دور سياسي عبر مختلف الحقب التاريخية:

- فطنجة، التي كانت محطة تجارية فينيقية، بـقـيـت تـشـكـل أهم مدينة في موريتانيا إلى حدود تمردها على الملك بوكيد. كما تحولت إلى عاصمة لموريتانيا الطنجية في العهد الروماني.

- أما فـاس فـقـد ورثـت الـدور الـسـيـاسـي لـولـيـلـي، نـظـرا لـتـوفـرهـا عـلـى مـوارد مـائية ووضعها الجغرافي، وكذا لتشكيلها محطة تتوسط الطريق نحو مراكش والرباط وطنجة ومضيق تازة.

وهكذا شكلت هذه المدينة لوحدها "الملخص السياسي" للدولة بالمغرب. فقد كانت العاصمة السياسية والعلمية والدينية والاقتصادية.

- وإذا شكلت فاس عاصمة لشمال المغرب فقد شكلت مراكش عاصمة الجنوب، بعدما أسسسها المرابطون، ثم استقر فيها بعدهم ملوك من أسر حاكمة أخرى.

- الـمــظـهـر الرمـزي

يشير كريستين بريز إلى أن النقد يقوم بثلاث وظائف سياسية؛ فهو تجسيد للحكم وأداة لوجوده ورمز لاستمراريته. وبالفـعـل فقد شكـلـت النقود في المغرب رمز استمرارية الدولة في المغربية وعنصرا من عناصر تكوينها وأحد وسائل تأكيد هويتها. وهكذا، فمن خلال النقود المغربية التي تم اكتشافها إلى حد الآن، يمكن رصد مختلف التطورات التي عرفتها الدولة بالمغرب، سواء في مرحلة تبلوها أو في مرحلة ترسخها.

- النـقـد ورمزية تبلور الدولة

أشار توفنو إلى أنه تم العثور على عدة قطع نقدية بوليلي تحمل اسم الملك المغربي بوكوس. وفي السياق نفسه يضيف كاني أن كل النقود التي ضربت في الحقبة الموريتانية، وبالأخص في الفترة التي تعاقبت فيها أسرة بوكوس (118 إلى 33 ق م) إلى حدود الفترة التي تولى فيها بطليموس (40-23 بعد الميلاد)، كانت تحمل بالإضافة إلى بـعـض الـمـعالـم الطبيعية والدينية صورا للملوك الذي تعاقبوا في هذه الفترة. وألمح كاني إلى أن هذه النقود تحمل عدة دلالات سياسية تتجلى في:

- التعبير عن إرادة السلطة القائمة في تأكيد وجودها.

- التأكيد على وجود استمرارية للحكم.

- تأكيد السلطة على تحكمها في مجالها السياسي.

كما عبرت هـذه الـنـقـود عـن الفترة السياسية التي توسع فيها الحكم الروماني في المغرب وطبيعة العلاقات التي كانت بين الملوك المغاربة والإمبراطورية الرومانية‎. كما عكست هذه النقود مختلف المحاولات التي قام بها جوبا الثاني لتوحيد المغرب، وذلك من خلال العثور على عدة قطع نقدية تحمل اسم هذا الملك في مختلف مـدن الـمـغـرب الـقـديـم.

- النقـد ورمزية ترسخ الدولة

لقد أصبحت النقود في المرحلة الإسلامية أداة رئيسية لترسيخ السلطة وتجسيد طموحها في الاستقلال ومحاولة توحيد المجال المغربي.

وهكذا كانت النقود التي ضربت من طرف الأدراسة لا تحمل اسم الخليفة في المشرق؛ بل كانت تحمل أسماء الأمراء الأدراسة دلالة عن استقلال الدولة المغربية عن مركز الخلافة.

كما أن النقود التي تم ضربها من طرف المرابطين والموحدين والمرينيين كلها كانت تعبر عن الإرادة في توحيد المغرب وإخضاعه لسلطة سياسية وحيدة. وقد تجلى ذلك من خلال الدنانير المرابطية التي كانت تشدد على ضرورة التشبث بالمذهب المالكي الذي أصبح المذهب الرسمي للدولة.

كما أن النقود التي ضربت من طرف الموحدين شددت هي أيضا على هذا المنحى؛ ليتم تكريس ذلك من طرف المرينيين الذين أكدوا من خلال النقود التي كانت تضرب في عهدهم على ضرورة الالتزام بالقرآن كدستور للدولة. وهكذا كانت تكتب في النقود المرينية عبارة "القرآن هو إمامنا" "القرآن هو كلام الله".

وقد سار الوطاسيون ومختلف الأسر الحاكمة التي تعاقبت بعدهم على النهج نفسه للتعبير عن استمرارية الدولة من خلال النقود المضروبة في دور السكة التي كانت تحت إشراف الأمراء والسلاطين والملوك المغاربة.